تتكون المبادئ الأيديولوجية للأفراد والجماعات، ابتداءً، من ثلاثة منطلقات:أولاً: الميول الفكرية المختزنة للشخص أو الجماعة، أو ما يمكن أن نطلق عليها «الاستعدادات» المبلورة، ليس بصفة فطرية، لكن من خلال الاكتساب المنشئ للاتجاهات السلوكية.

ثانياً: المشاعر النفسية المصاحبة لمناسبات التواصل أو الاحتكاك في الخبرة الحسية والإدراكية مع وقائع أو شخوص طبيعية أو معنوية أخرى ذات صلة بالموضوع.
ثالثاً: المصالح المادية أو المعنوية التي تدفع إلى الجنوح نحو اتجاه فكري وعملي معين دون غيره. وبالتطبيق على ما نحن فيه في مصر الآن، في المجال الاقتصادي ــ الاجتماعي، فإنه يمكن الافتراض أنَّ للقيادة السياسية ميولاً مكتسبة، من قراءاتها وخبراتها الإدراكية طوال زمن ممتد نسبياً من العمر، أولاً. وثانياً هناك مشاعر قد تميل بالشخص محل البحث إلى أنَّ «التغيير بالصدمة» هوالمدخل الاقترابي الأفضل في جميع الأحوال، وبخاصة صدمة غير القابلين بالصدمة لدى الشرائح الواسعة من الناس. ولربما كانت هناك خبرات شعورية سلبية تجاه الفئات السياسية المناوئة لفكرة العدل الاجتماعي الجذري بين الطبقات الاجتماعية. وثالثاً ربما أنه حدثت «قطيعة معرفية ــ قيمية»، إذا صح التعبير، للقيادة مع ذوي الدخول المنخفضة من المجتمع في خضم تشكّل واقع (مصلحي) مختلف، عبر السلك المهني المتعرج.

مصادر الفكر الاقتصادي الاجتماعي المتبلور أخيراً

من جهة أخرى، وبغض البصر عن العوامل التأسيسية الثلاثة السابقة كمصادر عميقة للفكر العقائدي، يبدو لي، وهذا مجرد تخمين، أنَّ المصدر المباشر للفكر الاقتصادي والاجتماعي، وربما السياسي، السائد أخيراً على مستوى القيادة السياسية، مصدران: أولهما الإعجاب الشديد من قبل القيادة السياسية بالرئيس أنور السادات الذي ابتدأ نهج «الانفتاح الاقتصادي» القائم على ما يسمى لدى القيادة السياسية الآن آليات السوق الحرة، وذلك من بعد حرب السادس من أكتوبر 73 وحتى اغتياله الفجائي بعد ثماني سنوات بالضبط. وعلى سبيل المقابلة، فإن مظاهر الإعجاب بالسادات ورمزيتها، لم تناظرها مظاهر ورمزيات بالقدر والنوع نفسه تجاه الرئيس عبد الناصر صاحب المنزع الاشتراكي الأكيد.
أما المصدر الثاني، فهو أنه ربما تزوّدت القيادة السياسية بصورة مكثفة في خلال العام الأخير، ومنذ بدء التفاوض الجدي مع «الصندوق» و«البنْك»، ببعض مطبوعات وأوراق طواقم هاتين المنظمتين العتيدتين، وتشرّب تماماً، بفكرهما «الليبرالي الجديد»، وفق ميوله الأصلية التي عبرت عن نفسها من خلال الإعجاب الشديد بالسادات كما ذكرنا، وبالذات نهجه الاجتماعي، بل وربما أيضاً نهجه التصالحي مع إسرائيل، والتوافقي، من حيث المبدأ، مع السعودية والخليج.
ولكن ليكنْ معلوماً ــ بالمناسبة ــ أنَّ «المجتمعات» ينفد صبرها بعد حين. فقد صبر المجتمع المصري في غالبيته على السادات، صاحب إنجاز «أكتوبر 73»، بقضّه وقضيضه، من وجهة نظر هذه الغالبية، ثم لما لمس النتائج غير المرغوبة لسياساته الاقتصادية في خلال ثلاث أو أربع سنوات (73-77) قام بانتفاضة 18 و19 يناير من دون أن يلوي على شيء. ولكن السادات كان من «الحكمة» بحيث أحنى رأسه للعاصفة وألغى قرارات الحكومة برفع الأسعار، ثم عاد فوصف الأحداث بـ«انتفاضة الحرامية» وأحال المشتبه فيهم، من وجهة نظر رجال الأمن، على المحاكمات العاجلة، التي سرعان ما انتهت بمفاجأة القضاء بالبراءة للجميع تقريباً.
هذا، وإن كنا قد رصدنا أهم منابع الفكر العقائدي، تطبيقاً على فكر القيادة السياسية، التي يبدو أنها (استقرت) أخيراً على بلورة عقيدة للاقتصاد السياسي في ما يسمونه «الاقتصاد الحر» و«آليات السوق الحرة»، فإن الأمانة تقتضي أن نشير إلى عامل خارجي بالغ الخطر، ولربما كان له أثر بالغ في الدفع دفعاً إلى الاعتقاد ــ ولو بحكم المضطرّ على سلسلة التجربة والخطأ ــ إلى ذلك الاعتقاد (القاسي). وهذا ما نعالجه في النبذة الآتية.

مصر ونهج التشدّد الرأسمالي العالمي.. وخبرة اليونان

يؤخذ في الاعتبار في مسألة التوجه الإيديولوجي للنظام المصري حالياً ــ في المجال الاقتصادي والاجتماعي ــ الضغط المكثف من المجتمع (الدولي) الرأسمالي الصناعي، بمركزه القيادي في أوروبا والولايات المتحدة، وكذا منظمات التمويل الدولي ذات الصلة، والدول الدائنة في نادي باريس أوغيره؛ نقول: الضغط المكثف من أجل اتباع نهج «التقشف» السيئ الصيت، بحذافيره تقريباً، حتى لو وصلت الدولة المعنية إلى حافة الإفلاس كما هو الحال مع اليونان حالياً التي حاول رئيس وزرائها الشاب المقاومة ــ مقاومة النهج الرأسمالي المتشّدد ــ وأجرى استفتاءً شعبياً نال من خلاله الموافقة على «الممانعة»، فشنّت عليه قوى المجتمع المسمى "الدولي"، كما أشرنا، حملة ضارية أجبرته على الإذعان إجباراً. وفي هذه الأيام يدور الحديث عن حاجة اليونان إلى حزمة إنقاذ رابعة، وإلا فستتوقف عن خدمة الدين بأن تصل إلى حالة «التوقف عن الدفع»، بما يعني شفا الإفلاس. وقد واجهت المكسيك هذا الوضع عام 1984، فوضع صندوق الدولي حزمة إنقاذية شاملة على المستوى الدولي، ودشّن بذلك دوره الوكيل عن المنظومة الرأسمالية العالمية في التعامل مع الدول المدينة. وقد كان هذا في منتصف الثمانينيات وفي بواكير الأزمة. أما عن اليونان الآن، فقد «سبق السيف العذل»!

عودٌ على بدء حول الاقتصاد المصري

فضلاً عن العلل المزمنة لاقتصاد (مريض) طوال 40 عاماً وزيادة، فإن هناك ما هو مستجد راهناً، وما هو وليد «اللحظة الثورية» بعد 2011.
فى المستجد الراهن ــ وليد المرض المزمن ــ فإن الاقتصاد المصري يقع تحت ضغط شديد من جرّاء أزمة الديون المحلية (نحو 3 تريليونات جنيه) والديون الخارجية (أكثرمن 60 مليار دولار) بالإضافة إلى السندات الدولارية لبعض الدول العربية (السعودية) والدائنين الأجانب من عملاء أسواق السندات الدولية، ولا سيما في سوق المال والسندات الأوروبية في مدينة لوكسمبورغ.
كل ذلك صحيح، وصحيح أيضاً أنَّ عدم القدرة على خدمة الدين أصلاً (الأقساط + الفوائد) والارتفاع الباهظ في عبء خدمة الدين (نسبة خدمة الدين إلى عائد الصادرات) ــ كلاهما يمكن أن يصل بالاقتصاد إلى شفا (الإفلاس) أو «الإعسار» أو «عدم القدرة على السداد»، ما يلجئ الاقتصاد إلى التماس التأخير في الدفع Moratorium.

حين لمس المجتمع نتائج سياسات السادات الاقتصادية قام
بانتفاضة يناير

ونعلم ــ أكثر من ذلك ــ أنَّ الاقتصاد المصري قد وقع تحت ضغط مكثف أيضاً، في خلال المرحلة التي أعقبت «ثورة يناير» بفتراتها الفرعية الثلاث. أولاها فترة اندلاع الثورة الشبابية ــ الشعبية وحكم «المجلس العسكري» ــ يناير 2011 ــ يونيو 2012، وقد حدث في أثنائها إخلال شديد بقواعد التصرف الاقتصادي الرشيد، من جراء الحدث الثوري ومعقباته المباشرة. ومن أوضح الأمثلة على ذلك، تعيين عمالة جديدة في الجهاز الإداري للدولة والهيئات العامة الاقتصادية والمحليات، وتثبيت العمالة المؤقتة، بما بلغ نحو 2.5 مليون عامل وموظف، مع رفع الحد الأنى للأجور، رغم نواقصه المعروفة. والفترة الثانية هى فترة حكم «الإخوان المسلمين»، يونيو 2012 ــ يونيو 2013، التي لم يقع فيها أي جهد جدي للتغلب على ما خلفته الاضطرابات التي أعقبت الثورة من آثار اقتصادية، فتفاقم عجز الموازنة العامة إلى حدود الخطر، وجرت مواصلة السحب من الاحتياطي النقدي دون ضوابط محددة لسدّ الاحتياجات الطارئة من الواردات الأساسية.
أما الفترة الثالثة عقب 30 يونيو 2013، ولسنتين بعدها أو ثلاث سنوات، فقد شهدت تفجر أعمال العنف المسلح وتوسعها، وخاصة في منطقتي الحدود الشمالية والغربية، وفي القاهرة الكبرى ومحافظات أخرى عديدة، ما حمّل الاقتصاد أعباءً فوق طاقته. وكانت النتيجة في خاتمة المطاف وقوع عجز مالي شديد، واختلال في التوازنات النقدية والمالية مرتفع فوق الحدود «المعقولة»، وخصوصاً بعد توقف سيْل العون المالي من دول الخليج العربية، اعتباراً من أوائل 2015 تقريباً.
أما أنَّ كل ذلك جرى في إطار من اختلال التوازن الشديد بين معدل النمو السكاني الذي يبلغ نحو 2.8% ومعدل النمو الاقتصادي الاسمي الذي بلغ ما دون الصفر عقب «ثورة يناير» مباشرة، ثم راوح بين 1% و2% في خلال العامين التاليين، فهو أمر يضفي أجواءً قاتمة حقّاً على المستقبل الاقتصادي إن ظل الأمر على حاله. ويضاف ارتفاع معدل تكوين الأسر الجديدة ــ بزواج الشباب ــ قبيل الثورة وبعدها، ما يضيف عبئاً فوق أعباء. كذلك يضاف ارتفاع المعدل الوسطي للمواليد والمعدل الوسطي لعدد أبناء الأسر الجديدة، ليس فقط من بين الفئات الفقيرة، ولكن أيضاً من الطبقة المتوسطة، وهذا هو الجديد في تركيب العائلات في خلال السنوات الأخيرة.
إن المتغير الديموغرافي على النحو المذكور يقتضي ارتفاعاً ملموساً وغير مسبوق في معدل النمو الكلي، وتغييراً جوهرياً في تركيب مصادر النمو للناتج المحلي الإجمالي من طريق رفع النصيب النسبي للقطاعات السلعية ــ زراعية وصناعية بالذات، والخدمات العلمية ــ التكنولوجية. ولقد برهن ركود القطاع السياحي من بعد يناير 2011، وبخاصة بعد حادث الطائرة الروسية في أكتوبر 2015، وما أعقبه من أثر سلبي على مستوى الدخل القومي، على أنَّ القطاعات المنتجة سلعياً وخدمياً هي المصدر الدائم و«المضمون» للنمو المستقر عبر الزمن في ما يسمى Steady growth.
بيد أنَّ كل ما سبق ليس مما يدفع متخذ القرارات الاقتصادية السيادية بالضرورة إلى تحميل عبء التوازن المالي على عاتق الطبقات الاجتماعية العاملة ــ يدوياً وذهنياً ــ وحدها. وهي الكتلة الرئيسية للطبقة الوسطى في المجتمع.
وليس يعني ذلك مرة أخرى أننا ندعو إلى نهج «اشتراكي» لا يتحمله الوضع المحلي والعالمي الراهن ــ أي تحقيق العدالة الاجتماعية Justice من خلال إعادة توزيع الدخول والثروات، بما يمكن أن يوفر الموارد المؤهلة لتحقيق التوازن المالي، كما حدث إبان ذروة العهد الناصري (1961-1967).
وفيما لا نرى إمكانية مرئية للحل الاشتراكي (العدالي) إذا صح التعبير، فإننا نرى ضرورة وإمكانية محققة لما يسمى الإنصاف equity، بمعنى توزيع الأعباء توزيعاً متكافئاً ــ نسبياً ــ بين الفقراء والأغنياء، بين المشتغلين أو «الشغّالين»، من جهة، وأرباب المال والأعمال، من جهة أخرى. ويقتضي ذلك فرصة ضرائب (عادلة) على شرائح الدخول العليا وعلى الثروة وإعادة ضريبة «التركات» في حالة الوفاة، وإعادة فرض «رسوم الأيلولة» على الإرث من الأصول الرأسمالية، وكذا على الأرباح الناتجة من المعاملات في أسواق المال، والمكاسب (القدرية) الناجمة عن الصفقات العقارية. كل ذلك لموازنة العبء الثقيل على كاهل الفئات المشتغلة من العاملين بالأجر في كل من القطاع الخاص والعام والحكومي، والعاملين لحساب أنفسهم من أصحاب المشروعات الصغرى والصغيرة والمتوسطة. فبذلك يكون الإنصاف ضرورة لازمة وإمكانية لازبة أيضاً.
وإلى جانب الإنصاف، يتعين (النظر بعين العطف) إلى المساواة equality بمعنى (تكافؤ الفرص) فى مجالات العمل والتعليم والصحة لأبناء المجتمع من دون تحيز لفئة. وذلك يعني إتاحة التعليم للجميع (مجانية التعليم الأساسي والثانوي وأداء رسوم رمزية للتعليم العالي لغير القادرين وهم الغالبية) و«الصحة للجميع» مع «تمييز إيجابي» لغير القادرين أيضاً، من خلال مشروع فعال للتأمين الصحي على المواطنين؛ كل ذلك بالإضافة إلى توفير فرص العمل اللائق، وإتاحة فرص التأهيل المعرفي والتقني لغير القادرين، مرة أخرى، مع تمييز إيجابي حميد.
من الإنصاف والمساواة في الفرص إذن، وليس عن العدالة بمفهومها الجذرى المعروف، يتحقق المناخ النفسي ــ الاجتماعي المنشود لتقبل الإصلاحات ذات الطعم المرّ على الجميع. ومن دون هذا الاقتسام (العادل) لتكاليف الإصلاح، ستنبت بذرة الاضطراب الاجتماعي وتكبر (الشجرة الخبيثة) بما لا يحمد عقباه.
أما أن يجري الحديث عن ضرورة دفع مقابل الخدمات المقدمة للمواطنين، بعد كل ما جرى لأصحاب الدخول المنخفضة والمتوسطة بعد «التعويم الحر» للجنيه مقابل الدولار منذ الثالث من أكتوبر 2016 مع انخفاض الدخول الحقيقية لهم بما يقارب النصف، واشتعال «التضخم المنفلت» محطماً حاجز 30% في يناير 2017، وفق التقديرات الرسمية المتحفظة بطبيعتها؛ فهذا مما يمكن أن تنفض له الأبدان والأذهان جميعاً، لكل من يلقي السمع وهو شهيد.
إن ذلك تكرار لمبدأ «استرداد التكلفة» Cost Recovery السيئ الصيت من لغة «البنك الدولي»، في مواجهة فظّة للفقراء المدقعين والمعتدلين ومن إليهم من المتوسطين بشرائحهم المختلفة، من خلال دفع الأثمان الاقتصادية لخدمات التعليم والصحة ــ من علاج ودواء ــ ومياه وكهرباء، وغيرها كثير. ويتبع ذلك فتح الباب أمام إمكان «خصخصة» بعض المرافق العامة، ومشروعات عامة أخرى متنوعة، بما فيها مصارف، في استعادة، مضى أوانها، لنهج مارغريت تاتشر في بريطانيا، ورونالد ريغن في الولايات المتحدة، أيام الثمانينيات البغيضة.
فإلى أين؟
* أستاذ في معهد التخطيط القومي ــ القاهرة