«الحرب تصنع الدولة والدولة تصنع الحرب» (س. تيلي، 1975). يرى أردوغان في حروب المشرق فرصة تاريخية لصناعة تركيا جديدة، سواء في هويتها ونظامها أو دورها وعلاقاتها الخارجية.
فيما يكتشف الإيرانيون بالطريقة الصعبة، أي بالحرب أيضاً، حدود الأيديولوجيا عند كثير من قوى الإسلام السياسي. يأتي التوتر التركي – الإيراني المتصاعد أخيراً في هذا السياق، ما زالت المصالح التي تمنع الصدام العسكري قائمة، إلا أنَّ مصالح أنقرة بالمساكنة مع طهران تتقلص، وذلك لأسباب مختلفة نشرحها في ما يأتي.

ا. أميركا: عودة «الاحتواء الصلب» بوجه طهران

في ظل سياسة أوباما الحذرة والمترددة بالتوازي مع سياسة خارجية تركية طموحة بشكل مبالغ به، بدأ الافتراق بين القوتين يتنامى في سياق تقدم أحداث «الربيع العربي». تلقى أردوغان الخيبة الأولى مع القرار الأميركي بالتعامل الواقعي مع إقصاء الرئيس الإخواني محمد مرسي من الحكم وزجه في السجن، إلا أنَّ التوتر بلغ ذروته في التراجع الأميركي عن التدخل المباشر في سوريا وإحجام واشنطن عن تقديم مساندة جدية لأنقرة في لحظة التوتر القصوى مع موسكو بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية، وقبلها وبعدها التفاهم الأميركي – الكردي في الشمال السوري الذي تجاهل تماماً المصالح القومية التركية.
بناءً على ما تقدم، انطلق المسار التركي نحو البحث عن بدائل وخيارات استراتيجية جديدة مع موسكو وطهران والانتقال من قلب التحالف الأميركي إلى حافته لتشبيك مصالح مع منافسي واشنطن واللعب على تنافساتها. مع وصول ترامب وبدء ظهور ملامح سياسته الخارجية، هل تستطيع واشنطن إعادة جذب أردوغان إلى قلب المحور الغربي؟ يبدو أن أنقرة ستسعى إلى استكشاف الاستراتيجية الأميركية الجديدة وأين تقع تركيا منها قبل أن تعيد تقويم تموضعها الحالي بجدية. يُرجح أن نشهد تحسناً في العلاقات الأميركية التركية، ولكن مصالح واشنطن الجوهرية مع الأكراد والسعي إلى التفاهم مع الروس والحذر من التدخل العسكري المباشر والتوازنات الصلبة ستحول دون عودة كاملة للشراكة الأميركية – التركية في المدى المنظور. هذا التحسن النسبي المتوقع في العلاقات الثنائية، يضاف إليه عودة المقاربة الأميركية «للاحتواء الصلب» بوجه إيران، يجعل من أنقرة تعتقد أن موقعها التفاوضي مع طهران انزاح لمصلحتها.

2. جذب روسيا إلى «منطقة رمادية»

بناءً على التحولات السلبية في العلاقة مع إدارة أوباما، وجدت القيادة التركية أنها مضطرة إلى بدء مسار من الانفتاح والتفاهم مع روسيا وإيران من بوابة الحرب السورية، وأنَّ إنجاز أي مساومة معهما، ولو مؤقتة، أجدى من التحالف «الأعمى» مع الأميركيين. وقد قوبل هذا التحول التركي بموقف احتوائي روسي ــ إيراني استوعب المصلحة التركية بمنع كانتون كردي موحد على الحدود السورية وأتاح لتركيا فرصة أن تكون شريكة في الحل السوري إن تبنت مقاربة مختلفة. هذا التحول التركي نحو روسيا يأتي في سياق صعود القوى الأوراسية الساعية إلى فرض شراكتها في النظام الدولي من خلال تطوير أدوارها في الأقاليم الملتهبة. وهذا الحديث عن تنويع الشراكات والبحث عن بدائل بعيداً عن واشنطن أصبح موضع تداول أغلب القوى الإقليمية، مثل مصر وإيران، والدولية مثل ألمانيا.

يعتقد إردوغان أنه لم يعد
مضطرّاً إلى التنازل لطهران ما دام
من الأجدى التنازل لموسكو

إذاً، شهدت السياسة الخارجية التركية انزياحاً من التحالف المسلّم به مع الأطلسي نحو تحالف رخو يسمح لأنقرة باستكشاف تقاطعات ربما استراتيجية مع القوى التي تقرّ بالدور التركي وبعض مصالحه الجوهرية ولا تتعرض لأردوغان في السياسة المحلية. ويطمح أردوغان أيضاً إلى جذب روسيا إلى منطقة وسطى بدل أن تكون متموضعة إلى جانب إيران، فلا تعود طهران قادرة على موازنة الأتراك من خلال علاقاتها الاستراتيجية مع موسكو. يطمح أردوغان إلى إقناع موسكو بأنه أقدر على تلبية مصالحها في سوريا ذات الأغلبية السنية، محاولاً الاستثمار في الرغبة الروسية بلعب دور «ناظم الاستقرار الإقليمي» وعدم الانزلاق إلى حروب مفتوحة في المنطقة.
يعتقد أردوغان أنه لم يعد مضطراً إلى التنازل لطهران ما دام من الأجدى التنازل لموسكو التي بدأت تطور دورها السوري بنحو وازن في السنة الأخيرة، كذلك فإنَّ موسكو ليست قوة إسلامية إقليمية، ومصالحها الإقليمية محدودة، ويمكن التساكن معها بعكس ما هي الحال عليه مع طهران. تعوّل أنقرة على أنه كلما اتجهت الحرب في سوريا نحو الحل، زاد التباعد الإيراني – الروسي وظهرت خلافات جوهرية بين الطرفين، ولذا تحاول أنقرة أن تتموضع بنحو يسمح لها باستغلال تلك اللحظات المقبلة، بحسب ظنها. لكن أردوغان لا يزال «يقفز فوق الحبال» ولا تفاهمات ناجزة بينه وبين بوتين، مضافاً إلى ذلك أنَّ الروسي لم يعد قادراً على إبداء مزيد من التفهم للطموحات الميدانية التركية في سوريا بعد معركة الباب.

3. الزعامة الإقليمية

لا يزال أردوغان يسعى إلى أن تكون أنقرة مرجعية المسلمين السنّة في المنطقة، ولا سيما مع التدهور الحاصل في الدور السعودي واختناق مصر بأزماتها. لذا، بعكس ما ذهب إليه البعض، لا تزال الطموحات الإقليمية لأردوغان مرتفعة، وهي طموحات تحفزها حالة الفراغ المتزايد في المجال العربي. هنا، يجد الأتراك ضرورة الحفاظ على مناخ التنافس مع إيران، لمنعها من العودة الوازنة إلى الساحة السنية العربية.
تمكن أردوغان من تحسين موقعه في العلاقة مع السعودية بعد أن أسهم بإضعاف دورها السوري، وقدم نفسه على أنه الموازن الأساسي بوجه طهران في سوريا، وتالياً في المشرق. السعودية المتخبطة في حروب الخارج وغموض الداخل تزداد حاجة لأنقرة، ما دامت لم تأخذ قرار التفاوض والتسوية مع طهران. يبدو أنَّ الرياض وأنقرة تعملان وفق منطق «مدارات التأثير»، فأنقرة تتولى موازنة طهران في المشرق، والسعودية توازنها في الخليج، وتطمح الأخيرة إلى أن تمارس مصر الدور نفسه في المغرب العربي. الحاجة السعودية المتزايدة لتركيا مصحوبة باستثمارات مالية في الاقتصاد التركي المأزوم، تدفع أنقرة أكثر وأكثر بعيداً عن طهران. التوتر مع إيران ومحورها هو «العربة» التي يستقلها أردوغان لكسب العقول والقلوب في العالم العربي، وهو ما يفسر التصريحات الاستفزازية التركية الأخيرة حول ما اعتبرته مشاريع إيران التقسيمية وحملات التشيع. سيندفع أردوغان أكثر بمشروعه الإقليمي حالما يستكمل خطوة تحويل النظام السياسي التركي إلى نظام رئاسي (الاستفتاء على التعديلات الدستورية مقرر في شهر نيسان المقبل)، وسيصبح أكثر خطورة وطموحاً، وخاصة إن واجه الاقتصاد التركي أزمة أعمق. يعمل كثيرون، ومن ضمنهم الإعلام الممول تركياً، على تعظيم النفوذ الإيراني والمبالغة به، كجزء مما يمكن وصفه بـ«اقتصاد الإيرانوفوبيا»، لما يدرّه ذلك من مشتريات سلاح واستثمارات خليجية بمئات مليارات الدولارات. يعتقد أردوغان أنَّ التوتر السعودي – الإيراني يُشكّل رافعة دور أنقرة الإقليمي. هو لا يريد غلبة أيٍّ من الطرفين، ولا انعقاد التسوية بينهما، يريد السعودية الخائفة وإيران التي تراه من منظارها الإسلامي. «شعرة معاوية» ما بين الرياض وطهران انقطعت، إلا أنَّ أردوغان يمسكها من طرفيها ويناور على طرفيها من موقع أكثر قرباً إلى الرياض، لأنَّ «الخلّ المجاني أحلى من العسل» كما يقول المثل التركي.
* باحث سياسي