المواطن يشعر بأن ما يحدث في وطنه هو خارج مجاله، فوسائل إعلامه تبحث في ما يَهم الجماعة أو الفئة المتحكّمة فيها، حكومة كانت أو ميليشيا أو شركات خاصة.مشروع قانون الإعلام المطروح اليوم مجرد عملية تجميلية، لأن المشكلة في افتقار إعلامنا إلى المسؤولية الاجتماعية وإلى الأخلاق المهنية.

الإعلامُ في لبنان، كما المواطن، مُستَغل ومستباح.
الإعلامُ مُستَغل من مُعظم ممتهنيه ومن القيّمين على أمرِ الدولة وحتى من كليات وبرامج تدريس الإعلام. مُستَغلوا الإعلام من ممتهنيه يتعاملون معه كسلعةٍ تُباع وتُشتَرى، لا كرسالة اجتماعية هادفة. ومُستَغلوه من القيّمين على أمر الدولة يتعاملون معه كوسيلةٍ سياسيةٍ لا كمؤسسة اجتماعية لها دور أساسي في عملية التنشئة الثقافية والتغيير الاجتماعي وفي الوصل بين المواطن والأحداث الاجتماعية المختلفة. وظالموه من برامج الإعلام الجامعية يعتمدون تدريس مناهج مهنية وتقنية ويهملون اعتماد مناهج نظرية في دور وسائل الإعلام في المجتمع وفي السياسات والأخلاقيات الإعلامية.
بالرغم من أن وسائل الإعلام ليست المحرك الأساسي للتغيير في المجتمع، إلا أنها عاملٌ مهم في تكوين الاستيعاب العقلي، أو الوعي، لنظرة الإنسان إلى مجتمعه والعالم. فالمضمون الذي تَتوجه به وسائل الإعلام من خلال رسائل إخبارية أو ثقافية أو ترفيهية أو غيرها، لا يؤدي بالضرورة إلى إدراك الحقيقة، بل إنه يساهم في تكوين هذه الحقيقة أيضاً.
ووسائل الإعلام هي النافذة التي يَنظر الجمهور من خلالها إلى مؤسساته الاجتماعية وإلى العالم، وبالتالي تَكتسب هذه الوسائل صِفة البنية الفوقية التي تُؤثر في وعي الأفراد لجهة تصورهم أوّليات الأحداث السياسية والثقافية، فوسائل الإعلام تحدد المواضيع المهمة التي يتداولها الناس، كما أنّها تُحدّد عواقبها وطرق معالجتها، فهي لا تؤثر على تفكير جماهيرها فقط بل على تصرّفها أيضاً، إذ إن ما تعرضه من مضمون يُصبح موضوع نقاشٍ بين جماهيرها، أي إن هذا المضمون يتغلغل أيضاً عن طريق الاتصال الشخصيّ الذي يستفزّه ما تعرضه وسائل الإعلام.
لم تستطع وسائل الإعلام اللبنانية أن تلعب دوراً أساسياً في إطلاق ثقافة حوار بين الفئات اللبنانية التي فرّقتها الأحداث وعملاؤها من السياسيين. فوسائل الإعلام لا تمارس دورها الأساسي كحارس للمواطن، فلا تدافع عن حقوقه من سيطرة الدولة، أو من تحكّم الجماعات المسيطرة على المجتمع. وهذا الدور المفقود أدّى إلى افتقاد لبنان لوسائل إعلام شعبية تتوجه إلى أمور الشـعب المعيشية وتتبنى قضايا المواطنين الحياتية، والتي تُحقق في أمر هذه القضايا وتتعرض لها. فنرى إهمالاً فاضحاً في التعرض لفساد السلطات السياسية والاقتصادية، بينما تكثر وسائل الإثارة التي يغلب عليها طابع الإثارة السـياسـية.
المشكلة التي تواجه الإعلام في لبنان لا تَكمن في مســألة حرية وسـائل الإعلام. المشكلة هي في عدم وجود سياسات إعلامية تربط بين وسائل الإعلام المختلفة وأهداف المجتمع الاجتماعية والثقافية، ما أدّى إلى فوضى إعلاميـة مكّنت العوامل الخارجية الأجنبية من السيطرة على الإعـلام اللبناني. وتكمن المشكلة أيضاً في كثرة وسائل الإعلام اللبنانية وعدم وجود تكامل بين نشاط هذه الوسائل والأنشطة الأخرى في المجتمع، ما أدى إلى فشلها في إجراء حوار ثقافي إيجابي بين الفئات الاجتماعية التي زادت الحرب الأهلية في تباعدها.
مشكلة الإعلام اللبناني ليست في القوانين بل في الرؤية الاجتماعية الخاطئة للقيمين على وسائل الإعلام الذين لا يولون اهتماماً بالمواطن وينصرفون إلى إرضاء المسؤول والمموّل. يمكن تلخيص المشكلة بفقدان المسؤولية الاجتماعية لدى وسائل الإعلام، وعدم اهتمام الدولة أو عدم مقدرتها على ممارسة مسؤوليتها الشرعية على وسائل الإعلام، وكذلك بعدم تعرّض مناهج تدريس الإعلام إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه وسائل الإعلام في المجتمع، خاصة الحديثة منها، وأثرها في نشر وتعميم قيم قد تؤدي إلى تغريب المواطن في وطنه.
الإعلام عنصر أساسي من عناصر النظام الاجتماعي. ولانتظام عمله بشكل إيجابي لا بد أن يتم التنسيق بين العمل الإعلامي وباقي عناصر المجتمع الأخرى. وهذا يتطلب علماء اجتماعيين متخصصين في مجال الإعلام، وهو ما نفتقده في لبنان، إذ إنَّ غالبية برامج الإعلام الجامعية اللبنانية تنصرف إلى التدريب المهني على تقنيات وسائل الإتصال الاجتماعية الحديثة وتهمل إشراك طلابها في وضع خطط وسياسات إعلامية تعالج مشاكل مجتمعهم.
لبنان بحاجة إلى مهندسين اجتماعيين أكثر من حاجته إلى مهنيين في مجال الإعلام. ما يحتاج إليه لبنان هو اختصاصيون في تنظيم عمل المهنيين الإعلاميين عن طريق وضع خطط وسياسات إعلامية تنسق مع عناصر المجتمع الأخرى، فتساهم في توحيد فئات المجتمع وجماعاته المتنافرة في مجتمع حديث فاعل.
لقد نتج من فشل وسائل الإعلام اللبنانية في إطلاق حوار ثقافي وطني شعور المواطن بأن ما يحدث في وطنه هو خارج مجاله، فوسائل إعلامه لا تبحث في الأمور التي تَهمه غالباً، بل ما يَهم الجماعة أو الفئة المتحكّمة في هذه الوسائل، حكومة كانت أو ميليشيا أو شركات خاصة. وبالتالي فإن المواطن يشعر بأن ما تعطيه إياه وسائل الإعلام من مضمون، لا صلة له بواقعه. وأدى هذا الوضع إلى اندفاع المواطن إلى الثورة على قيمه وطرقِ معيشته، فأصبح غريباً عن مجتمعه وحتى عن نفسه.

مشروع قانون الإعلام المطروح اليوم مجرد عملية تجميلية


لوسائل الإعلام اللبنانية دور كبير في إلهاء المواطن عن مشاكله، عن طريق تحويل أنظاره عن المشاكل الاجتماعية والسياسية الحقيقية، إلى مشاكل ثانوية مستوردة من خارج مجتمعه. وعندما تتطرقُ هذه الوسائل إلى بعض المشاكل الاجتماعية الأساسية، كمشكلة حرية الإعلام مثلاً، نراها تَستغل، بل تثير الرأي العام لتعالج هذه المشكلات من منظار بعيد عن المصلحة العامة. فتصبحُ حرية الإعلام عند أصحاب «شركات» الصحف والإذاعة والتلفزيون تتمثل في حريتهم في الانفلات من القوانين ومن المسؤولية الاجتماعية التي هي من صلب واجباتهم المهنية. وتُغفل هذه الوسائل التعرض لحرية الفرد وحقه في معلومات صحيحة وموثوقة، وكذلك تتناسى أن الحرية الإعلامية لا تنفصل عن المسؤولية الاجتماعية.
هذا الواقع المنحرف أدّى بنا اليوم إلى مواجهتنا التغريب بطريقة خاطئة. إما نحارب عن طريق الانغلاق الكامل، وإما بالاندماج حتى التماهي مع الغرب وقيمه،
بينما تكون مواجهة التغريب بعمل إيجابي يشمل إعادة إحياء احترام المواطن وثقته بثقافته وحضارته لا عن طريق إطلاق التعصب الديني بل عن طريق إعلامه عن مقومات أصوله الثقافية من فنون وعادات حضارية. ومن الجميل، بل من الواجب، أن نقدم لجمهورنا الموسيقى والفنون الأجنبية، شرط ألا ينحصر محتوى وسائلنا الإعلامية على النتاج الثقافي الأجنبي، كما يحدث الآن، فتتم تنشئة شبابنا على ثقافات أجنبية غالباً ما لا تكون لها علاقة بواقعنا.
ماذا تقدّم وسائلنا الإعلامية للمواطن عن ثقافته وعن قيمه؟ ماذا تقدّم لجمهورها من فنوننا التراثية؟ ماذا تقدّم له من موسيقانا الراقية ومن إنتاجنا الفكري الذي كان أحد أسس انطلاق النهضة في الغرب؟
ما تقدمه هذه الوسائل لجمهورها للأسف هو محتوى هابط تغلب عليه الأعمال الرديئة ثقافياً والمنحطة أخلاقياً.
أين الكلمات ذات المعاني والموسيقى الجميلة في أغانينا؟ أين أم كلثوم وسيد درويش والرحابنة وفيروز في وسائلنا الإعلامية؟ أين طه حسين وجبران ومحمد عبده؟ أين موسيقانا وفنوننا الجميلة، أين كتّابنا الكبار؟ من قرأ جبران الذي حبّبنا الغرب به، ومن قرأ قسطنطين زريق أو كمال صليبي؟ طلابنا لم يسمعوا بعمر الزعني أو بالشيخ إمام، وسينسون زياد الرحباني وشربل روحانا.
ما تقدمه وسائلنا الإعلامية عنهم يتضاءل تدريجياً. أشكُّ في أن جيلنا الجديد يتعرف عليهم من خلال وسائلنا الإعلامية الحالية. لقد عوّدت وسائل إعلامنا جيلنا الجديد على الهابط من البرامج فنياً وأخلاقياً. لقد عوّدناه على «بوس الواوا» و«بركب الحنطور واتحنطر» و«حبيبي بحب التش» وعلى التحريض الطائفي والعنصري. وسائلنا الإعلامية لا تقدم للجيل الجديد ما هو جميل في مجتمعنا، بل إنها تساهم في تعميم ما هو قبيح وهابط.
وسائل الإعلام الاجتماعية الحديثة تلعب دوراً مهماً في تسريع نشر المعلومات والأفكار. ولكي يكون لها أثر إيجابي أكبر، لا بد من أن تُبنى على أسس ثقافية أصيلة فتعيد إطلاق التواصل الشعبي. عندما يتم تعريف المواطن على الجميل في مجتمعه، عن القيم والفنون الجميلة التي انطلقت من مجتمعنا. ما نحتاج إليه هو مواجهة التغريب بالتعرّف على ما يجمعنا ويوحدنا ومعرفة أصولنا المشتركة. فأين الإعلام اللبناني من كل هذا؟
مشروع قانون الإعلام الجديد الذي هو الآن أمام الهيئة العامة لمجلس النواب ما هو إلا عملية تجميلية لا تعالج المشكلة الأساسية للإعلام. لأن المشكلة ليست في افتقار لبنان إلى حرية التعبير، بقدر ما هي افتقار إعلامه إلى المسؤولية الاجتماعية وإلى الأخلاق المهنية.
ما تحتاج إليه وسائل الإعلام في لبنان هو ربط حرية التعبير بالمسؤولية الاجتماعية وبالأخلاق المهنية التي تحرّر الإعلام من الارتباط العضوي بالنظام السياسي الطائفي والقبلي. على الإعلاميين السعي وراء القرّاء والمشاهدين أو المستمعين بدل الانبطاح في سبيل الحصول على المموّلين.
نظام عمل وسائل الإعلام في لبنان هو على شاكلة النظام الطائفي/ العشائري اللبناني. فهذه الوسائل تركز على «التخصّص» في التوجه إلى فئة واحدة من التيارات السياسية والإثنية والطائفية من الجماعات المتنافرة، وبالتالي فشلت في أن تكون منبراً مسؤولاً لحوار بنّاء بين هذه التيارات. وفشلت في ردم الجسور بين المواطنين، وفي إيجاد التوافق الوطني الذي بدونه لا يمكن للمجتمع أن يبدأ مرحلة النموّ الحقيقي. فكانت النتيجة أن أصبحت وسائل طائفة أو عشيرة بدل أن تكون وسائل وطن.
العلاج يبدأ بالقبول بالتخلي عن التمسك بالنظام الطائفي/ العشائري الذي يحكم عمل لبنان ومؤسساته المأزومة، والقبول بالنظر في بدائل وإمكانية إيجاد نظام جديد ينظر إلى اللبنانيين كمواطنين متساوين في نظام الحوكمة والحصول على المعلومات، لا كطوائف وعشائرمتنافرة ومتناحرة.
يقول أحد الكتّاب اللبنانيين إن أزمة الإعلام ليست في إغلاق الصحف، بل هي في تغييب الصحافة عن الصحف، وإن المجتمع الصحافي اليوم هو أشبه بنادٍ خاص منعزل جغرافياً واجتماعياً عن الشعب،... «يكتبون عن بعضهم البعض ولبعضهم البعض». في هذا القول توصيف صحيح لأزمة الإعلام في لبنان.
* أستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت