«في المستقبل، حين تدرس الأجيال التي ستأتي بعدنا تاريخ هذه الحقبة، ستكون هناك سنةٌ فارقة. سنةٌ سيحفظها كلّ تلاميذ المدارس، وهي سنة 2016. فقد شهدنا، في 2016، بداية ثورةٍ سياسيّة عالميّة. وهي ثورةٌ لن تتوقف، بل ستقتحم كلّ أرجاء العالم الحرّ».* من خطاب الزّعيم اليميني البريطاني، نايجل فارّاج، في مؤتمر اليمين الأميركي الذي عقدته «هيئة العمل السياسي المحافظ» هذا الأسبوع.

على هدي «المراحل الخمس للحداد»، مرّ مثقّف المؤسّسة العربي بعدّة أطوارٍ منذ «تغيير القيادة» في مركز الامبراطورية، واشنطن: انكارٌ ثمّ غضبٌ ثمّ اكتئاب، وهم اليوم يقتربون من مرحلة القبول والتّأقلم. مرّت مرحلة «تأمّلية» لجأ فيها مثقّف الهيمنة، بدلاً من محاولة شرح وتفسير ما يجري في المنطقة والعالم، الى كتاباتٍ «انطولوجية» عن الأخلاقيات، وندب «القيم» السامية التي يحملها وحده، وتأمّلات في أصل الشرّ ومعناه، كأنّه فاسلاف هافل (وهو يكتب في جريدةٍ سعوديّة).

بالمناسبة، الكثير من مثقّفي المستعمرات، وهذا واضحٌ لمن يعرفهم، يطمحون بالفعل لتخيّل أنفسهم وهم يلعبون أدوار هذه النماذج التلفزيونية الشهيرة التي كرّسها الاعلام الغربي (بل إنّ الكثير منهم لا يملك صورةً أخرى عن دور المثقّف ليقلّدها)؛ وهي دوماً شخصيّات رديئة ومزيفة من نمط هافل وسولزينيتسين.

بين الصّورة والتاريخ

الهدف من هذا المقال ليس «التشكيك بمعنى الواقع»، بل بالايديولوجيا التي تشرحه، وتبيان المسافة بين الصّورة التي تعطيها المؤسسة عن نفسها (مفهوم «العالم الحرّ» مثالاً)، والتي يأخذها الكثيرون على محمل الجدّ ويعاملونها على أنّها واقع قائم، وبين التّاريخ الحقيقي لهذه السرديات عن القيم والسياسة والمجتمع. السّياق السياسي والايديولوجيا يشكّلان نظرتنا الى الأمور، حتّى في المسائل الماديّة والإحصائية التي لا يجب أن يكون عليها خلاف. فلنأخذ مثالاً عن الاقتصاد الأميركي: منذ انتخاب دونالد ترامب، تكاثرت التحليلات التي ترجع صعود اليمين الى أسباب اقتصادية (وهذا نهج صحيحٌ ومبرّر بالطّبع)، وأنّ الأزمة أفقرت الطبقة العاملة البيضاء التي خاطبها ترامب وفاز بتأييدها. هذا كلّه معقولٌ ويجعل كلّ ما حصل يبدو منطقيّاً، ولكن لا أحد ــــ تقريباً ــــ كان يقوله قبل فوز ترامب. على العكس تماماً، كانت هناك سرديّة «الاقتصاد الأميركي النّاجح»، الذي تجاوز ــــ بقيادة اوباما ــــ الأزمة الماليّة، وينمو أسرع بكثيرٍ من أوروبا الرّاكدة، وسوق الأسهم تحقّق نتائج تاريخيّة، فيما أرقام البطالة في أدنى مستوى لها منذ سنوات. هذه «النّسخة» عن وضع الاقتصاد الأميركي كان يردّدها اوباما بفخرٍ في خطاباته، وكانت هيلاري كلينتون تكرّرها وترمي لأن تصل بها الى كرسي الرئاسة؛ ولو فازت هيلاري في الانتخابات، على الأرجح، لما تكلّم أحدٌ اليوم عن «تردّي الاقتصاد» وعن الغضب الأبيض.
بالمعنى نفسه، حين تدور الشكوى من تراجع القيم الليبرالية والحريات المدنية في أميركا في وجه مدٍّ شعبويّ قوميّ يحكم البلاد، فمن الواجب أن نتساءل عن طبيعة هذه القيم والحقوق، التي يفترض بها أنّ تشكّل «روح» اميركا، وهل هي تعكس فعلاً إرادةً شعبية وكتلة مواطنين يتمثّلون بها ويدعمونها؟ من الممكن أن نصيغ بسهولة سرديّة معاكسة تقول بأنّ أكثر المكتسبات «التقدمية» في أميركا خلال نصف القرن الماضي، من الغاء الفصل العنصري الى حقوق المرأة الى الحقوق الجنسية، لم تكن نتاج حركةٍ شعبية ومطالبة وتراكم، كما يتم تصويرها، بل كانت كلّها مكاسب تحقّقت في المحاكم، وعبر المؤسسات الفيديرالية والقوانين وتسويات النخب. من الممكن ايضاً أن نحاجج بأنّ حركة الحقوق المدنيّة لم تنجح، منذ أواخر الخمسينيات، في أن تضرب لنفسها جذوراً في المجتمع، أو تنتشر شعبياً في مناطق الفصل العنصري في الجنوب، سواء بين البيض أو السّود (ظلّ ناشطو حركة الحقوق في الولايات الجنوبية مكوّنين أساساً من متطوّعين جاؤوا من الشّمال وأقلية صغيرة من المؤيّدين، ولم ينجحوا في اختراق المجتمع ونيل شعبية وتمثيل). بدلاً من ذلك، تمّ «استيعاب» حركة الحقوق في المؤسسة السياسية خلال العقود الماضية، ووجد الناشطون أن العمل ضمن التيّار السائد أفعل ويوصل الى نتائج فوريّة، خاصّة حين تتبنّى أحزابٌ كبرى قضاياهم. أصبحت الحركة جزءاً من التيّار السائد ولعبة الحزبين، مع نجومٍ وشخصيات تلفزيونية (مثل جيسي جاكسون)، وتبنّت استراتيجية تحصيل الحقوق عبر المحاكم والقوانين ــــ ولو عنى ذلك أن تظلّ «المكتسبات» على مستوى الحقوق الفردية والرمزية، تحتاج لأن تكون من الطبقة الوسطى حتى تتمتّع بها، فيما الاصلاح الهيكلي أو الاقتصادي غير مطروح، والفصل العنصري، وإن زال من القوانين، هو واقعٌ قائم.
حين حرّم القانون الفيديرالي الفصل العنصري، وأقرّت المحاكم حقّ المرأة بالإجهاض، أو ــــ مؤخّراً ــــ حقّ المثليّين في الزواج، كانت هذه القرارات تتّخذ دائماً «من فوق»، عبر جيل جديد من القضاة (تمّ اختيارهم قصداً بعملية سياسية) يعيد تفسير القانون بشكلٍ يدعم أجندات اجتماعية معيّنة، أو رئاسة أميركية تريد اخضاع الولايات الجنوبية واثبات سلطة الدولة المركزية عليها، الخ… والحال أنّه لو حصل استفتاءٌ شعبي على هذه القضايا في وقتها (أو اليوم) لرفضتها غالبية شعبية في أجزاءٍ واسعةٍ من اميركا ــــ المتديّنة والمحافظة. حتّى في ولايةٍ ليبرالية ككاليفورنيا، حين وضع الأمر للتصويت، اقترعت غالبية الناخبين عام 2008 لصالح قانونٍ يؤكّد على منع الزواج بين المثليين (الاقتراح 8). ولم يصبح زواج المثليين قانونياً حتّى حكمت المحكمة العليا الفيديرالية بذلك بعد سنوات، وأبطلت استفتاء كاليفورنيا باعتباره «غير دستوري» (لهذا السبب كان القاضي المحافظ الشهير في المحكمة العليا، انطوني سكاليا، يروّج لقراءة يسمّيها «أصولية» للدستور، بمعنى أنّ القاضي يجب أن يُلزم نفسه بتفحّص إرادة ونيّة الآباء المؤسسين الذين كتبوا النصوص، وألّا يجتهد أو يقيس أو يحاول استنطاقهم في قضايا معاصرة، فسكاليا كان يخشى أن يستخدم أترابه «الليبراليون» القانون لتمرير سياسات اجتماعية وتولّي دور المشرّع).

«مقاومة»

من هنا، تأخذ حركة «المقاومة» لترامب هذه الأيّام أشكالاً غير متوقّعة. يكتب المخرج والناشط «اليساري» مايكل مور «دليلاً» لإزاحة ترامب يعتبر أنّ أولى مشاكله هي أنّه «في جيوب الرّوس» (أي أنّ ولاءه القومي الأميركي مشكوكٌ به). وفي «كاونتربانش» اليساريّة، ينبّه سي جاي هوبكنز الى أنّ حركة «المقاومة» ضدّ ترامب قد تحوّلت بسرعة الى صراعٍ داخل المؤسسة الحاكمة، يفترض بنا أن نأخذ صفّاً فيه. «المقاومون» اليوم، بحسب هوبكنز، يدعون الى دعم أجهزة المخابرات والمباحث الفيديرالية في وجه ترامب كعملٍ «ثوريّ» ويطالبون، علناً، بانقلابٍ عليه تقوده «الدولة العميقة» وقيادة الحزبين باعتباره الهدف النهائي للنضال.
النّزعة الايديولوجية الأساس خلال العقود الماضية (في الشرق وفي الغرب، وبين الفقراء كما في الطبقة الوسطى) لم تكن في الترويج لشكلٍ معيّن من التنظيم، بل كانت تهدف لاخراج النّاس «العاديّين» من السياسة، أو «نزع» السياسة عن حياتهم، وهذا أكثر ما يتبدّى في قلب الغرب الصناعي. في دليلٍ عن الحياة في سان فرانسيسكو، وهي أعلى مدن اميركا دخلاً وأكثرها تعليماً وتقدميّة، أوّل ما يوصي به ساكنو المدينة هو أنّك لا يجب أن تتكلّم عن عملك. «انت لست عملك»، فلا تلبس ثياباً تحمل شعار شركتك أو تتواصل مع الناس عبر وظيفتك، فهذه ليست شخصيتك التي يريد أن يعرفها الناس؛ بل يجب أن تتكلّم عن هواياتك ورحلاتك واسلوب حياتك، فهذا ما يهمّهم. بمعنى آخر، علينا أن نعزل «العمل» ــــ أكثر العناصر سياسية في حياتنا ــــ عن وجودنا خارجه في المجتمع الحديث، وأن نندمج في المدينة كأفراد لامنتمين، نتمتّع بالحريات الفردية والهوايات والاستهلاك في جوّ معقّم من السياسة (و»انت عملك»، بكلّ تأكيد، في المجتمع الرأسمالي وان اخترت أن تتجاهل ذلك).
اليوم، من يدعو النّاس للعودة الى السياسة في الغرب و»العالم الحرّ» هم أمثال ترامب ونايجل فارّاج، و»المقاومة» لا تملك مشروعاً معاكساً، بل «فلولاً» داخل المؤسسة. هناك حركة شعبية تتصاعد في اميركا واوروبا، وهي ليست «ثورة» كما يسمّيها فاراج، ولكنّها تعبّر عن شعورٍ بأنّ الأمور لا تسير على ما يرام في الامبراطورية (أو «العالم الحرّ») وأنّ هناك حاجة لتغييرٍ في الطاقم الحاكم. من الطبيعي لهذه الحركة أن تكون يمينيّة وقوميّة، فبناء النّظم السياسية في الغرب، منذ الحرب العالمية، قام على تصفية اليسار ومنع تكوين أيّ بديلٍ غير محافظٍ وقوميّ. كما أنّ انقسامات اليسار وخياناته قد أكملت المهمّة. كما كتب الزميل حبيب الحاج سالم في هذه الصّفحات، أصبح مثقّفٌ يمينيّ عنصريّ كالفرنسي ميشيل ويلبيك يقرّع اليسار لأنّه لم يعد يختلف عن اليمين، وأنّ اليسار الاوروبي، منذ دخل في طوره «ما بعد الستاليني» تخلّى عن شعارات الطّبقة و»الشعب» والبروليتاريا، فأصبح «يساراً ثقافياً» لا دور له في قضايا النّاس، ما أفسح المجال أمام أناس مثله (ويلبيك). إن كانت الفاشيّة هي «اشتراكيّة المغفّلين»، كما يقال، فهي ايضاً اشتراكية من لا يملك يساراً وبديلاً.
في الغرب، قد تختلف الأمور مع صعود «اليمين الجديد»، ولكنّ المؤسسة ستتأقلم، والثابت دوماً هو الامبراطورية، وهذه لن تختلف علينا. مثلما بدأت المؤسسات الكبرى وسوق الأسهم بالتعوّد على فكرة ترامب، وأنّه لن يحصل «انقلاب» وستستمرّ الأعمال كالمعتاد، فهمت دول الخليج بأنّ لها سيّدٌ جديد وبدأت حكوماتها بالترحيب بالقائد الجديد ونسج الرهانات ــــ وهم في ذلك أبعد نظراً وأسرع بديهةٍ من مثقّفهم، الذي ما زال يندب «العالم الحرّ» وينتظر «المقاومة» من السي اي اي.