جاءت الزيارة «المفاجئة» التي قام بها وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، لبغداد أول من أمس، على الطريقة الأميركية. فقد اعتاد المسؤولون الأميركيون، منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، زيارة العاصمة العراقية بطريقة مفاجئة. وإذا كانت زيارة المسؤولين الأميركيين غير المعلنة إلى بغداد، تأتي من خلفية الاعتبارات الأمنية، مع أنها تعكس هشاشة الوجود العسكري الأميركي الذي زاد على 160 ألف جندي قبل انسحابهم نهاية عام 2011، فإن زيارة الوزير السعودي التي جاءت بعد غياب زاد عن ربع قرن، تعكس أيضاً هشاشة الحكم السعودي داخلياً وإقليمياً.
ويحلو لبعض الأوساط السياسية والإعلامية المحسوبة على المحور الأميركي تضخيم أهمية زيارة عادل الجبير لبغداد، والقول إنها تمثل هجمة دبلوماسية تتزامن مع التصعيد الأميركي ــ الإسرائيلي ــ التركي ضد إيران، الذي ظهر جلياً في مؤتمر ميونيخ، إضافةً إلى أن زيارة الجبير ستكون لها تداعيات في الداخل العراقي لمرحلة ما بعد «داعش»، مع أن زيارة الوزير السعودي، جاءت:
أولاً، بعد ما يشبه عملية الطرد للسفير ثامر السبهان، التي تحولت إلى عقدة لا تزال تلاحقه حتى بعد تعيينه وزيراً لشؤون مجلس التعاون. لقد كان السفير السبهان يشيع بين زواره أنَّ مجيئه إلى بغداد يمثل رسالة حزم تعكس التوجهات الجديدة للمملكة في عهد الملك سلمان الذي يقود عاصفة حزم عسكرية في اليمن، وسياسية في المنطقة العربية.
ثانياً، تأتي زيارة عادل الجبير لبغداد في ظل انشقاقٍ داخل مجلس التعاون الخليجي، تبيّن بشكلٍ واضح في أثناء زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني لسلطنة عمان والكويت، في وقتٍ كانت فيه السعودية تتهم إيران بالتدخل بالشؤون الداخلية لدول مجلس التعاون. وإذا كانت سلطنة عمان تغرّد وحدها خارج السرب الخليجي لجهة تحسين العلاقات مع إيران، فإن انضمام الكويت إلى عمان في عملية مدّ الجسور مع إيران يشكّل ضربة سياسية قاسية للسعودية التي تدرك جيداً أن قطر، كذلك دولة الإمارات بدرجة معينة، لا تشاطر السعودية الرأي في تبني سياسة المواجهة مع إيران.
ثالثاً، إن زيارة الوزير السعودي لبغداد تعكس في الواقع نسخة مكرّرة للهزيمة السعودية في لبنان. لقد حاولت السعودية احتواء الجنرال ميشال عون بعد انتخابه رئيساً للجمهورية بتوجيه دعوة إليه تكون فيها السعودية محطته الأولى وإعلان المملكة فتح صفحة جديدة في العلاقة مع لبنان في المجالات كافة، لكن سرعان ما تبين خسارة المراهنة السعودية باحتواء الجنرال الذي جدد بقوة موقفه من المقاومة و»حزب الله» قبل زيارته الأخيرة لمصر وفي أثنائها. وبعبارة أخرى، فإن السعودية التي فشلت في احتواء الجنرال عون لا شك في أنها ستعجز في لعبة الانفتاح على العراق الذي يعرف جيداً أنَّ السعودية في ظل الأزمة المالية الخانقة بسبب الحرب في اليمن لا يمكنها بأي حال تقديم مساعدات مالية أو استثمارات للإسهام في عملية إعمار المحافظات التي تضررت في الحرب ضد تنظيم «داعش».
لقد أدت الأزمة المالية التي تعاني منها السعودية بسبب حربها في اليمن، ومساعدة التنظيمات الإرهابية في العراق وسوريا مادياً وتسليحاً إلى محاولة الأردن الذي يُعَدّ حليفاً تقليدياً للسعودية البحث عن تحالفات إقليمية جديدة تساعده في التخفيف من عبء الأزمة الاقتصادية الخانقة، ما اضطره إلى أن يوجّه شراعه نحو طهران من خلال مشاركة رئيس البرلمان الأردني في المؤتمر الدولي السادس الذي استضافته العاصمة الإيرانية لدعم الانتفاضة الفلسطينية الأسبوع الماضي. على أن المهم في السباحة الأردنية تجاه الشواطئ الإيرانية، أنها جاءت بعد عبور الرئيس حسن روحاني وفي اللحظة المناسبة جداً إلى الضفة الأخرى من الخليج، وفي ظل التوتر الشديد في العلاقة بين طهران والرياض، وهو ما زاد في أهمية العبور السياسي للرئيس روحاني.

زيارة الجبير محاولة متأخرة جداً لمزاحمة الأكتاف الإيرانية في العراق


أما رابعاً، فما ضاعف من قلق السعودية ودفع عادل الجبير إلى القيام بزيارته المفاجئة لبغداد، هو التطوّر الكبير في العلاقة بين العراق ومصر، حيث سيزود العراق مصر بمليون برميل نفط يومياً ابتداءً من الشهر المقبل، بما يساعد بدرجة كبيرة في تعويض مصر من حاجتها للنفط بعد إعلان السعودية العام الماضي التوقف عن تزويد مصر بالحصة المتفق عليها بين البلدين، وبما يعني أنَّ النفط العراقي سيبقي على حالة التباعد الحاد بين القاهرة والرياض التي تشعر بانزعاج شديد من التقارب بين دمشق والقاهرة وقلق بالغ من التقارب بين القاهرة وطهران.
ونصل إلى النقطة الخامسة، حيث الحرب في اليمن التي تحاول السعودية الهرب منها في جميع الاتجاهات للتخلص من لعنة هذه الحرب التي تقترب من دخول عامها الثالث من دون أن تتمكن السعودية وحلفاؤها من تحقيق أي إنجاز عسكري مهم. فالسعودية التي كانت تراهن على أن الحرب في اليمن ستكون نزهة وأنها ستتفرغ للمباشرة بـ»عاصفة حزم» ثانية في العراق كما أشاعت بعض القوى السياسية السنية، وجدت نفسها في نهاية المطاف مضطرة إلى أن يقوم وزير خارجيتها بزيارة مفاجئة لبغداد، أعادت إلى أذهان الكثير من العراقيين الزيارة التي قام بها أحمد داود أوغلو لكركوك في عام 2013 على طريقة اللصوص، وتحولت زيارته وقتذاك إلى نكتة.
إذا كان من الصعب جداً على وزير الخارجية التركي السابق أحمد داود أوغلو، أن يعالج أزمات بلاده التي كان وراء صناعتها مع دول المنطقة، فإنه سيكون من المستحيل على عادل الجبير الذي وجه إهانات بالغة إلى العراقيين وهم يقاتلون المنظمات الإرهابية التي ترعاها السعودية تصحيح العلاقة بين العراق والسعودية، فالسعودية التي ذهبت تطلب قروناً في اليمن، قطعت أذنيها في العراق وسوريا ولبنان. فزيارة عادل الجبير لبغداد محاولة متأخرة جداً لمزاحمة الأكتاف الإيرانية في العراق، فالولايات المتحدة التي كانت تحتفظ بأكثر من 160 ألف جندي في العراق عجزت عن تقليم أظفار الإيرانيين، فكيف يمكن السعودية التي دخلت مرحلة الشيخوخة أن تجد موطئ قدم لها في بلد دمرته التنظيمات الإرهابية التي تمولها بنفسها؟

*نائب عراقي سابق