الدمع سرٌّ، البسمة سرّ، الحب سرّ. دموع تلك الليلة كانت بسمة الحبّ. فإنني لستُ قصة ترويها، ولستُ نغمة تغنيها، ولستُ صوتاً تسمعه، أو شيئاً ما تراه، أو شيئاً ما تفهمه... فإنني الألم المشترك... نادِني! (أحمد شاملو)


(1)


أرخيت الشال على رأسي بمجرد عبوري البوابة رقم (5) في مطار رفيق الحريري الدولي، مارةً برواق طويل، وصولاً إلى طائرة «مهان». إنها المرة الأولى التي أفعل ذلك، احتراماً لقانون البلد المضيف، ومع ذلك لا أجد عندي إحساساً بالضيم، أو رغبة في التمرد وقول: «لا»!

تقلع الطائرة من بيروت. بخلاف الرحلات الأخرى، أتوقف اليوم عن عدّ المرات التي خرجت فيها من وطن ثانٍ ليس لي، ولا أفكر كثيراً في جبال الجليل أو اليوم الذي تركت فيه فلسطين قسراً. هي ساعتان ونصف ساعة جمعت كل الصور الشيطانية في إطاري المرجعي، رتبت كل شيء في مكانه: سجن آفين الشبيه بالجحيم، تظاهرات «الخضر» عام 2009 والتخريب في الشوارع، بلد له صورة من غبار. نساء كثيرات بشادور أسود، وصواريخ نووية، نظام دكتاتوري قبيح، حصار دولي وفقر، بيوت مهدمة، هزات أرضية، تخلف، جهل...
تهبط الطائرة أخيراً. على باب صالون الشرف في مطار الإمام الخميني استقبلنا الإيرانيون بالورود وكوفيات الثورة الإسلامية، ثم انتشر المشاركون في «مؤتمر دعم القضية الفلسطينية» داخل القاعة، متحدثين عن حفاوة الاستقبال، قبل أن يظهر لهم من بعيد رجل مألوف، ليتضح لاحقاً أنه رئيس لجنة الأمن والسياسة الخارجية الإيرانية علاء الدين بروجردي. يترك الضيوف أطباق الطعام، ثم يتراكضون لنيل صورة معه.
بدأت الصور النمطية تتحطم، والشاشات الكبيرة وعناوين الصحف والقنوات الغربية والعربية كلها تنهار تباعاً. كان ذلك بمجرد أن استوقفتني ــ كغيري من الغرباء ــ لافتة كبيرة كتب عليها بالفارسية ما معناه «الاقتصاد المقاوم بالعمل والمبادرة». دهشت كيف لدولة تعيش منذ ثلاثين عاماً في حالة حصار أن تبني مطاراً بهذه الضخامة والتطور، كان هذا قبل أن تدهشني أشياء أخرى، إذا لم أقل كل شيء!


(2)


كانت سبع درجات تحت الصفر، حملتها رياح هبطت من أعلى جبال ألبرز، التي تزنر طهران بالبياض، فيما عقرب الساعة استقر عند الواحدة بعد منتصف الليل قبل أن يتابع مسراه، محمَّلاً بنا إلى تفاصيل الحياة. أمّا المكان فهو «بارك ملت» بمحاذاة شارع «ولي عصر»، حيث فتيات وشبان شبكوا أيديهم ومضوا ضاحكين، من دون أن يأتي رجال «الحسبة» لمعاقبتهم، كما يحصل في السعودية مثلاً.
من قمة السلم الذي يقسم طرفي الحديقة، وله جانبان تؤثثهما تماثيل شهريار والفردوسي وسعدي ونيما وغيرهم، نظر أمير كبير إلى زواره الغرباء، حتى بددت نظرته العميقة تلك، ضحكة ساخرة انطلقت من فم أحد الشباب اللبنانيين، معلقاً على جمال الحديقة وحجمها بالقول إنها «مثل حديقة الصنائع بالضبط».
نتابع سيرنا، مصغين إلى حديث أحدهم عن حياة أمير كبير، الذي بدأ عاملَ مطبخ لدى قائم مقام الفهراني في بغداد، وأصبح ذات يوم رئيس وزراء لقب بـ«المصلح الإيراني الأول»، وكيف تأثر به لاحقاً الراحل علي أكبر هاشمي رفسنجاني، وحتى أن موتهما تشابه بالكيفية والتوقيت، فالأول مات مقتولاً بالسم في حمام، والثاني توقف قلبه في أثناء استحمامه، في اليوم نفسه لكن في زمن مختلف.
ربما بخلاف زملائي اللبنانيين وفلسطينيي المخيمات، لم تكن فكرة الحدائق العامة غريبة عليّ، ففي كل منطقة داخل الأراضي المحتلة عام 1948 يوجد من الحدائق ما لا يعد ولا يحصى، ومع ذلك دهشت من حجم الحدائق المنتشرة في طهران، وجمال أشجارها وترتيبها ونظافتها. ولا أذكر أنني رأيت شخصاً يرمي ورقة واحدة على الأرض!
تغلق المحلات هنا في الساعة الثانية عشرة ليلاً، فالدولة كما يشرح أحد الإيرانيين، ليست مسؤولة عمّا يحصل بعد ذلك، ومن أحب من أصحاب المحلات أن يبقى فاتحاً بابه، فهو يتحمل مسؤولية ما قد يحصل. الموضوع ليس له ارتباط بحب الإيرانيين للسهر أو عدمه، فهم ينامون باكراً لاستغلال نهارهم. أسأله عن العلاقات الاجتماعية في إيران، فيجيب بأنَّ الحدائق العامة تشهد في ساعات الظهيرة حضوراً كثيفاً للعائلات الإيرانية التي تفترش الأرض بمأكولات أعدتها منزلياً، إذ لا يوجد عندهم مثلنا «ثقافة الديليفري». وفي خلال وجودها هناك، تدعو العائلات بعضها البعض إلى تبادل الطعام، فيتعرف الشباب إلى الصبايا ويبدأون علاقات صداقة قد تتحول لاحقاً إلى زواج.
أما المدارس، فبعضها مختلط، والأخرى تعمل بنظام الفصل بين الجنسين، إذ يحتم القانون على البيوت التي تشرف على المدارس العاملة وفق النظام الأخير بناء أسوارٍ كي لا تتمكن من تكبيل حرية الفتيات في أوقات خروجهن إلى الساحة للفسحة. وبطبيعة الحال، المدارس الحكومية ذات تعليم بمستوى عالٍ، وهي مجانية أيضاً، حتى إنه قبل عامين اشتكى الإسرائيليون بسبب المرتبة المتأخرة التي نالها طلابهم في مسابقات الرياضيات والعلوم الطبيعية، مقابل فوز إيران بمرتبة متقدمة جداً. وكحال التعليم، الطبابة مجانية أيضاً، لدرجة أنهم لا يسمعون هناك عن موت أحدهم على باب المستشفيات بسبب الفقر وقلة الحيلة!
وبرغم أنّ الإيرانيات في شمال طهران مثلاً، لسن ملتزمات دينياً، لا يمكن رؤية إحداهن من دون شال على رأسها، فالقانون يلزم بارتداء الحجاب واحترام قوانين الشريعة الإسلامية، وبرغم ذلك فإن معظمهن لا يرتدين العباءة، بل ملابس عصرية، ويدخنّ النرجيلة والسجائر، فالمهم هو «احترام روح القانون» كما يفسر لنا أحد الإيرانيين.
هُنا لا ظهور مسلحاً، وعديد شرطة السير المنتشرين على الأرض يكاد يكون معدوماً، إذ يكفي وجود إشارات المرور لتنظيم السير المتدفق في الشوارع. الزحمة بالنسبة إلى الإيرانيين تبدو أمراً عادياً، تستطيع أن تلمس ذلك ببرودة الأعصاب التي يتحلون فيها، فهم بخلافنا لا يتأففون، بل يمضون الوقت في سماع الموسيقى.

(3)


من شارع «ولي عصر» نستقل سيارة أجرة إلى شارع «شهيد مدرس»، ومن هناك ندخل حديقة جسر الطبيعة. ها هي نافورة الماء وبرج النار يقدمان للزوار كل «الظلامية والتخلف والجهل والإرهاب» التي حدثونا عنها سنين! تخيلوا أنه بهذين الصرحين، والمسرح المحاذي لهما، يقدم الإيرانيون للناس قصة النبي إبراهيم! هكذا يعلمون الدين عندهم، بينما عندنا نقرأ عن «إله يعلق الخطائين من رموشهم!».
من جسر الطبيعة المبني بطريقة عصرية تضاهي بفخامتها الجسور الأوروبية، نهبط بواسطة سلم طويل إلى متحف «الدفاع المقدس» الذي صممه أكثر من 250 من الفنانين والمصممين الإيرانيين والأجانب. هنا الشهداء ينظرون إليك بعزة وكرامة، فتماثيلهم المصنوعة من الشمع بإبداع وإتقان تظهر حتى شرايين أيديهم، ولذلك تجدك متأثراً بقصصهم وتبكي رحيلهم، من دون أن تعرفهم بالضرورة. المتحف الذي يعبّر عن ثقافة المقاومة في كافة تفاصيلها يتركك مندهشاً راغباً في البقاء داخله، حتى أنه يجعلك تفكر بالموت في سبيل هذا الطريق وأنت مطمئن إلى أن دولة كهذة ستكرمك وتقدس مسيرتك!
من المتحف نستقل «المترو»، حيث الإيرانيون يصطفون بالدور منتظمين، وقبل بلوغ شارع علي شريعتي، يمكنك مراقبة الراكبين، هناك من يقرأ صحيفة معظم صورها عن مؤتمر دعم الانتفاضة الذي أتينا لأجله، وآخر عيناه لا تفارقان كتاباً... وعلى سيرة الكتب تطبع إيران سنوياً 14 ألف عنوان!
وبرغم المظاهر العصرية للمحلات التجارية والمطاعم، يتمسك الإيرانيون بثقافتهم الخاصة وجذورهم الفارسية، ففي «المول» تجد الزخرفات والفنون العائدة إلى الحضارة الفارسية والحقبات الإسلامية، وترى صور الإمامين الخميني وخامنئي في كل مكان، فيما في الطابق السفلي فرقة موسيقية تعزف وتغني بالفارسية أمام جمهور غفير من الناس: «الجو جميل في الخارج واليوم التقيتها... ولذلك شكراً لك يا الله».
تخرج متسائلاً ما هي طهران؟ هي شيء لا تفهمه، وحصار لثلاثين عاماً كان الغرب يثبت في عقولنا نظرياته حول نظام «دكتاتوري ظلامي»، بينما كان الأخير يعمل بصمت، ويبني حضارته، ويصنع مستقبل أبنائه الذين يتعلمون في درسهم الأول كلمتين اثنتين: «نحن نستطيع»!