بعد مقاربة التحدّيات التي تواجه المرأة المسلمة مع التنميط الغربي وانعكاساته في المجتمعات المسلمة («الأخبار» عدد 3046)، لا بدّ من الحديث عن التحدّيات الداخليّة التي تواجهها.
يكتفي هذا المقال بمقاربة التحدّيات المتأتّية عن الانتماء الديني للمرأة المسلمة، أي في ما يخصّ علاقتها مع القوانين المنبثقة من الفقه الإسلاميّ المعاصر. ولعلّ أبرز العناوين التي طُرحت في العقود الماضية هي الأحوال الشخصيّة والإرث وإشكاليات تولّي المرأة القضاء والرئاسة والإفتاء أو المرجعيّة الدينيّة. ويمكن تقسيم هذه العناوين إلى مجموعتي الحقل الشخصيّ (الأحوال الشخصيّة والإرث) والحقل العام (القضاء والرئاسة والإفتاء).
لكل واحد من هذه العناوين خاصّية معيّنة لا تكتمل أي مقاربة من دون الغوص فيها، لا بل يمكن توصيف وضعها في سلّة واحدة بالتّعميم والتساهل في المقاربة.
1 ـ الأحوال الشخصية والإرث:

أ ـ الزواج:

يُشكّل وضع المرأة المسلمة في قوانين الأحوال الشخصيّة المستوحاة من الفقه الإسلاميّ، سواءً في المحاكم الخاصّة (مثلاً محاكم الطوائف الإسلاميّة للأحوال الشخصيّة في لبنان) أو في القوانين المدنيّة، المادّة الأكثر تداولاً من قبل المهتمين بشؤون المرأة المسلمة. وعادة ما يتمّ تسليط الضوء على المسائل المتعلقة بالزواج والطلاق والحضانة.
ففي قوانين وأحكام الزواج يبرز النقاش حول تعدّد الزوجات وما يحمله من معان وتبعات على المرأة والأسرة. ولا يمكن لأحد اليوم أن ينكر أنّ موضوع تعدّد الزوجات في المجتمعات المسلمة يشكّل موضع جدال سواء عند المهتمّين بشؤون المرأة أو عند المرأة المسلمة نفسها. وقد ناقش هذا الموضوع، على مدى قرن ونيّف، علماء دين واجتماع، حيث تراوحت الآراء بين رافض ومبيح ومن يأخذ موقعاً وسطاً. إلا أنّ كلّ هذه النقاشات لم تكن كفيلة بالوصول إلى نظرة موحّدة تجاه أصل الإباحة أو كيفية علاج هواجس المرأة المسلمة الناتجة عنها.
ولكن في مقابل هذه الضوضاء، المستمرّة منذ قرن، تبرز نماذج دول مسلمة أقرّت قوانين أحوال شخصيّة مستواحة من الفقه الإسلامي قدّمت بعض الحلول للتعامل مع نقاش تعدّد الزوجات. ففي مصر تنصّ قوانين الأحوال الشخصيّة (وهي محكومة لقانون رقم 25 لعام 1929 والقانون رقم 1 لعام 2000) على أنّه يحقّ للزوجة في حال تزوّج زوجها بأخرى أن تطلب التطليق إذا لحقها ضرر مادي أو أدبي يستحيل معه دوام العشرة بين أمثالهما ولو لم تكن قد اشترطت على زوجها في العقد ألا يتزوج عليها. بينما يحقّ للزوجة الجديدة طلب التطليق في حال لم تكن تعلم بزواجه من أخرى.
وبينما منحت قوانين الأحوال الشّخصية في مصر الزوجة حقّ التطليق في حال زواج الزوج من أخرى، تعاملت قوانين الأحوال الشخصيّة في إيران مع الموضوع بشكل مختلف. فبالإضافة لاشتراط إذن الزوجة الأولى في حال زواج الزوج من أخرى (ويحقّ للزوجة الأولى التطليق مع كامل حقوقها في حال مخالفة هذا الشرط)، تنصّ البنود 5 و6 و7 من قانون الزواج الصادر عام 1931على وجوب إشهار الزوج لوضعه الزوجي قبل تسجيل عقد الزواج في المحكمة وتعرّضه للسجن، ما بين 6 أشهر وسنتين، في حال أقامت عليه الزوجة الجديدة دعوى تضليل.

ب ـ الطلاق

وكما هو الحال مع القوانين الناظمة للزواج، نجد أنّ قوانين الأحوال الشخصيّة الناظمة للطلاق عرضة للأخذ والرد بين المعنيين بشؤون المرأة من جهة والقيّمين على المحاكم من جهة أخرى. وتكتسب قوانين الطلاق مكانة أكثر أهميّة من غيرها في نظم حياة الزوجة، لما لها من تأثير على تحديد مسار الزواج وعمليّة إنهائه. ونخصّ بالذكر حق الزوج أن يطلق الزوجة دون العودة إليها أو إلى محكمة والشروط التي تستوجب منح الزوجة طلبها بالطلاق من دون موافقة الزوج.
وبالرغم من معاناة الكثير من النساء المسلمات من هذه الإشكاليّات المتعلّقة بعمليّة الطلاق، إلا أنّ بعض الآفاق قد فُتحت في العقود الماضية. فقد شهد ميدانا الإفتاء والاشتراع القانونيّ الكثير من النماذج التي تساهم في الحدّ من المشاكل التي قد تطرأ وينتج عنها خلل في حفظ حقوق الزوجة (كلّها ومن ضمنها المادية والمعنويّة). فنرى أن قانون الأحوال الشخصيّة في مصر قد شرّع الطلاق الخلعي، أو ما يُصطلح عليه بالخلع، المنصوص عليه في المادة 20 من قانون رقم 1 لعام 2000. وتتيح هذه المادّة للزوجة الحصول على الطلاق، من دون أن تسنَد إلى الزوج أية إساءة تجاهها، بل تستند على كراهة الحياة معه. ويترتب على هذا الشكل من الطلاق تنازل الزوجة عن كافّة حقوقها الماليّة المتوجّبة على الزوج في حالات الطلاق من دون رضاها أو بسبب منها.
وفي المقابل، يبرز مثل آخر على محاولة علاج بعض المشاكل المترتبة على عملية الطلاق. فالمادة 1130 من القانون المدني الإيرانيّ تنصّ على حق المرأة في التطليق في حالتي «العسر» أو «الحرج»، وتحديدهما متروك لتشخيص المحكمة. والأبرز من هذا هو تقييد قدرة الزوج على التطليق، وأوضح تجلّياته في «تعديل قوانين الطلاق»، المُقرّ عام 1992. تنصّ البنود 1 إلى 3 من هذا التعديل على عدم قبول المحكمة تسجيل حالات الطلاق، وإن كان الطرفان على اتّفاق، من دون خضوعهما لمرحلة تحكيم تقبل المحكمة على إثر فشلها تسجيل الطلاق، بعدما يدفع الزوج كافّة حقوق الزوجة. بالإضافة إلى هذا، ينصّ البند السادس من التعديل على وجوب دفع الزوج «أجرة المثل» المترتبة عن كل مدة الزواج، في حال لم تكن الزوجة هي التي طلبت الطلاق أو بسبب منها. و«أجرة المثل» هي أجرة الزوجة عن الاهتمام بالأمور المنزليّة وتربية الأطفال كونها غير ملزمة بتأدية هذه الوظائف حسب الشرع.
وحتى في حال عدم وجود قوانين ضامنة كحالة عموميّة، يمكن دائماً اللّجوء إلى الحالة الخاصّة، أي إيكال حقّ الطلاق المناط بالزوج إلى الزّوجة. وهذا مباح عند المذاهب الإسلاميّة كلّها.

ج ـ الحضانة والولاية

يشكّل موضوع الحضانة واحداً من أكثر المواضيع إشكاليّة في قوانين الأحوال الشخصيّة، «المدنيّة» منها و«الدينيّة». فبينما يُترك تحديد حقوق الأهل في حضانة الأطفال عند الطلاق إلى تقدير المحكمة حسب معظم قوانين الأحوال الشخصيّة «المدنيّة»، تحدّد قوانين الأحوال الشخصيّة «الدينيّة» حقوق الحضانة تبعاً لأعمار الأطفال. وفي حالة قوانين الأحوال الشخصيّة المستوحاة من الفقه الإسلاميّ تبرز إشكاليتان، الأولى هي في تحديد سنّ نقل الحضانة من الأم إلى الأب عند الأطفال الذكور والإناث (وهي مختلفة ما بين المذاهب الإسلاميّة)، والثانية هي التفريق ما بين حضانة الطفل والولاية عليه.

أوّل ذكر لاشتراط الذكورة في مرجع الإفتاء يعود إلى القرن العاشر الهجري

ومن المحسوم في الفقه الإسلاميّ أنّه في حال الطلاق، فالأساس في الحضانة حق الأم، ولكن يقع الخلاف بين المذاهب المختلفة حول تحديد نهاية فترة حضانة الأم وللطفل. ويستعرض الشيخ مهدي مهريزي، في كتابه «نحو فقه للمرأة يواكب الحياة»، آراء المذاهب الإسلاميّة في تحديد سنّ حضانة الأمّ للأطفال، حيث يظهر الكثير من التباينات بين القوانين التي ستحتكم إليها المحاكم. فبينما يعطي المذهب الحنفيّ حقّ الحضانة الأمّ للصبي حتى سبع سنوات وللفتاة إلى البلوغ، للأمّ الحقّ في حضانة الصبي والفتاة حتى يبلغا السبع سنوات عند «الحنابلة» وفي حال وقوع الخلاف ــ عند انتقال الحضانة ــ يُخيّر الطفل بين والديه. ويؤمّن المذهب المالكيّ فترة حضانة أطول للأمّ فيحقّ لها حضانة الصبي إلى البلوغ والفتاة إلى أن تتزوّج. ويتميّز المذهب الشافعيّ بعدم تحديد سنّ لانتقال الحضانة من الأمّ إلى الأب ووضع الخيار بين يدي الطفل عند بلوغ سن السابعة. أما عند المذهب الجعفريّ فتتعدّد الآراء ولكن المشهور منها هو حضانة الأمّ للصبي حتى السنتين والفتاة حتّى السبع سنوات.
ويخلص المهريزي، في نهاية بحثه، إلى أنّ مبدأ التفريق بين سنّ حضانة الصبي والفتاة لا يوجد دليل يدعمه، مستعيناً بآراء للسيد الخوئي والعلاّمة محمد جواد مغنيّة وإجماع المذاهب السنّية على انتهاء فترة حضانة الأم عند السابعة فصاعداً (المادة 1169 من قانون الأحوال الشخصيّة الإيراني المعدّلة عام 2003 تنصّ على حضانة الأم للصبي والفتاة حتى سن السابعة). ويضيف المهريزي أنّه وبخلاصة البحث يَحتمل انتهاء فترة الحضانة عند بلوغ الطفل سنّ التمييز، غير المحدّد بسنّ معيّن، حيث يُخيّر الطفل بين والديه. ويُعيد تحديد هذا السّن إلى المحكمة، مستشهداً بقانون الأحوال الشخصيّة المصري الصادر عام 1929.
ويتشابك موضوع الحضانة مع موضوع الولاية على الطفل، وهي الوصاية على شؤونه القانونيّة. ويشرح المهريزي هذا التشابك عبر استعراض آراء المذاهب المختلفة في الموضوع. فيجمع عموم فقهاء أهل السنة على الفصل بين الحضانة والولاية، حيث تبدأ مرحلة ولاية الأب على شؤون الطفل بعد انقضاء مدّة حضانة الأمّ، باستثناء الولاية المالية الواقعة على عاتق الأب في كلّ المراحل. بينما، بحسب المهريزي مجدّداً، لا يوجد هذا الفصل عند الفقهاء الشيعة، حيث أنّهما متزامنتان، فتكون الولاية للأبّ حتى عندما تكون الحضانة للأمّ. ولكنّ المهريزي يستشهد بالعلاّمة مغنيّة، مجدّداً، وبعض أعلام فقهاء أهل السّنة كابن القيّم وابن عقيل، ليقترح أنّ المحكمة مسؤولة عن تحديد الوليّ على الطفل بعد انقضاء فترة الحضانة للأمّ.

د ـ الإرث

وإنّ حصّة المرأة في الإرث هو من المواضيع الأكثر تناولاً من قبل المهتمين بشؤون المرأة المسلمة. فعدم مساواة حصّتها بحصّة الرجل تُشكّل مادّة دسمة لقول إن الإسلام ظالم للمرأة، وهي محلّ إشكاليّة للمرأة المسلمة ولو بدرجة أقلّ من الإشكاليّات الأخرى سابقة الذّكر.
وقد جهد الفقهاء المسلمون في تفسير سبب التفاوت في حصص الإرث بين الرجل والمرأة. ولعلّ التفسير الأبرز والمُجمع عليه يعود إلى تفاوت الواجبات الملقاة شرعاً على عاتق كلّ من الرجل والمرأة. ويوضّح السيد محمد حسين فضل الله هذه النقطة في كتابه «فقه المواريث والفرائض»، فيشرح مستنداً إلى النصّ القرآني والأحاديث أنّ التباين في الحصص هو بسبب التباين في المسؤوليّة في الإنفاق والجهاد والدّيّة. فالرجل مسؤول شرعاً عن كلّ ذلك ولا يجب على المرأة أيّ منه. ويستحيل التباين في الحصص فعل توازن بين الرجل والمرأة التي تحتفظ بكلّ ما ترثه دون أن يستحقّ عليها دفع جزء منه.
فإذاً، وبحسب هذا التفسير، يعتبر الدور المنوط بالمرأة في الفقه الإسلاميّ هو الذي يفرض هذا التوزيع في الحصص في الإرث. إلا أنّ بعض الآراء، الذي بدأ بالظهور مؤخّراً، يربط بين تطور موقع ودور المرأة في المجتمع وضرورة تطوير التشريعات الفقهيّة المحكومة بطبيعة دورها في المجتمع الإسلاميّ الأوّل. ويتطرّق السيد كمال الحيدري لموضوع حقوق وواجبات المرأة في معرض أبحاثه. ففي مقالة منشورة على الموقع الإلكترونيّ الخاص به، بعنوان «السّنة النبوية: موقعها، حجيتها، أقسامها (7)»، يتحدّث السيد الحيدري عن إمكانيّة إناطة الإنفاق أو بعضه بالمرأة، لا سيّما وأنّها اليوم منتجة على عكس الظروف التي كانت تحكم المجتمع الذي عاش فيه الرسول. ويزيد بأنّه مع تغيّر الظروف الاجتماعيّة والماليّة والثقافيّة والفكريّة، لا بدّ من البحث في ثبات الأحكام المرتبطة بظروف الزّمن السابق.
ويعود السيد الحيدري لمقاربة هذا الموضوع في مقال له على الموقع نفسه بعنوان «بحوث في طهارة الانسان (21)». فيشرح إمكانيّة تفاوت إرث المرأة بين مجتمع ذكوريّ (الرجل هو المنفق الأساسيّ) ومجتمع أنثويّ (المرأة هي المنفقة الأولى) ومجتمع متساو (الرجل والمرأة مسؤولان عن الإنفاق)، حيث يرى أنّ لكلّ مجتمع من هذه المجتمعات قوانين توزيع إرث مختلفة تنصف المسؤول الأساسيّ عن الإنفاق، بين رجل يحصل على حصة أكبر في الحالة الأولى وامرأة تحصل على حصة أكبر في الحالة الثانية وتوزيع متساو للحص في ثالث الحالات.

2 ـ القضاء والرئاسة

المشهور بين الفقهاء المسلمين، من كافة المذاهب، عدم جواز تولّي المرأة موقعي القضاء والقيادة السياسيّة. إلا أنّ عدداً من الفقهاء المسلمين يجد جوازاً في تولّي المرأة القضاء والرئاسة. وربما من أبرز من شرح هذا الرأي هو الشيخ محمد مهدي شمس الدين، في كتابه «مسائل حرجة في فقه المرأة: أهليّة المرأة لتولّي السلطة». ففي موضوع تولّي المرأة للسّلطة السياسيّة، يجزم الشيخ شمس الدين، بعد استعراض دقيق للنّصوص والأدلّة الشرعيّة، أنّه لا يوجد دليل على حرمة تولّيها لمقاليد السلطة العليا في الدولة. وفي معرض بحثه في هذا الموضوع، يتناول الشيخ شمس الدين أيضاً جواز تولّي المرأة منصب القضاء (من باب تلازم القضاء والسلطة السياسيّة قديماً)، حيث يقول إنّه لم يرد نص شرعيّ خاصّ بهذا الموضوع، جازماً أنّ اتّفاق الفقهاء على شرط الذكورة في القاضي ليس حجّة لإثبات حرمة تولّي المرأة القضاء.

3 ـ الإفتاء

ومن أقلّ المواضيع عرضة لتسليط الضوء عليه هو جواز تصدّي المرأة لمنصب الإفتاء. فبينما لا يعيره المهتمّون بشؤون المرأة أي أهميّة، يُعتبر جواز تصدّي المرأة للإفتاء، في المدارس الدينيّة والحوزات، من الأبحاث المفصليّة في تحديد نظرة الإسلام لدور المرأة المستقبليّ. وعمليّاً تنظر المدارس الدينيّة لهذا الدور، أي الإفتاء، على أنّه الأهمّ الذي يمكن أن يلعبه الفرد المسلم وأعلى درجة من درجات العلم.
في مقالته البحثيّة بعنوان «المرأة ومرجعية الإفتاء ــ دراسة فقهية استدلالية حول شرعية تقليد المرأة»، يستعرض الشيخ حيدر حبّ الله الآراء التاريخيّة لعلماء المذاهب من السنّة والشيعة في جواز تصدّي المرأة للإفتاء. فيشرح أنّه تاريخيّاً لم يرد ذكر شرط الذكورة في المفتي، أو أنّه تمّ رفضه كلّياً، عند معظم فقهاء المذاهب السنيّة، مستعرضاً عدداً كبيراً من آراء هؤلاء الفقهاء.
أمّا عند المذهب الشيعيّ الإماميّ فتقسيمه للإفتاء إلى درجتين، مجتهد (يحقّ له الإفتاء لنفسه ولا يجوز له تقليد غيرها) ومرجع تقليد (يحقّ له الإفتاء للعموم)، سمح للمرأة بتقلّد درجة الإفتاء الأولى، أي الاجتهاد. ومن أقدم الحالات التي يذكرها التأريخ الشيعي لامرأة المجتهدة تعود إلى ستة قرون مضت، وبالتحديد إلى فاطمة بنت محمد بن جمال الدين المكيّ الجزّينيّ العامليّ (المعروف في جبل عامل بـ«الشهيد الاوّل») المشهورة بست المشايخ. ولكن لم يتعدّ الأمر حدّ الاجتهاد إلى المرجعيّة. فيشرح الشيخ حبّ الله أنّ أوّل ذكر لاشتراط الذكورة في مرجع الإفتاء يعود إلى القرن العاشر الهجري، وأنّ فقهاء الإماميّة ينقسمون بين رأيين. الأوّل، وهو السائد مؤخراً، يرى عدم جواز تقليد المرأة. والثاني يرى جواز تقليد المرأة، ويذكر الشيخ حبّ الله من أشهر ممن ذهب إلى هذا الرأي المحققّ الأصفهاني والسيد محسن الحكيم (وإن كانا قد أقرّا به علمياً لا فتوائيّاً) والسيد رضا الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله (وإن كان قد اشترط الذكورة في المرجع في رسالته العملية) والشيخ يوسف صانعي.
وبعد بحث مفصّل في الأدلّة الداعمة لكل من الرأيين، يخلص الشيخ حبّ الله إلى أنّه يجوز للمرأة أن تتصدّى لمرجعية الإفتاء.

آفاق مفتوحة

من الواضح أن شمل كلّ المشاكل السابقة الذكر في حزمة واحدة، هو تسطيح لكلّ واحدة منها. فمثلاً لا يمكن إغفال تأثير وضع قوانين الأحوال الشخصيّة كقوانين مدنيّة (وإن كانت مستوحاة من الفقه)، كما في مصر وإيران، في مقابل ما نراه من تأثير المحاكم الشرعيّة الخاصّة التي تسنّ قوانينها بنفسها (كتلك الموجودة في لبنان).
وبينما تظهر جليّة القدرة على اجتراح تشريعات مستوحاة من الفقه الإسلاميّ تضمن إلى حدّ بعيد حقوق الزوجة في الزواج والطلاق، لا يمكن للمهتمين بشؤون المرأة المسلمة أن يشملوا التحدّيات المتأتّية عنهما مع التحدّيات المتأتّية عن الحضانة والولاية على الأطفال. فبالرغم من عدم إحداث تطويرات نوعيّة، كما حصل مع أحكام الزواج والطلاق، إلّا أنّ مجال البحث يفتح الباب على قدرة كامنة لعلاج التحدّيات التي تواجه المرأة في هذا الموضوع. وهذا الكلام ينطبق أيضاً على موضوع حصّة المرأة من الإرث بحسب المنهج الذي يتّبعه السيد الحيدري (علماً أنّه لا يزال يرى هذا الرأي الذي طرحه بحثيّا-علميّاً لا شرعيّاً ــ فتوائيّاً).
أمّا في تحدّيات الحقل العام التي تواجهها المرأة، كالدخول إلى السلطات العليا في الدولة (بالرغم من انحصارها قانونياً في بضع دول فقط) فهي موضع انقسام مع وجود آراء لا ترى مانعاً من تولّيها هذه المسؤوليّات.
وعند مقاربة موضوع المرأة في موقع الإفتاء، وعلى الرغم من أنّ فقهاء المذاهب السنيّة اتفقوا على جوازه، وأنّ كتب أهل السنة والجماعة تزخر بأسماء عشرات المفتيات المشهورات عبر التاريخ، إلا أنّ شرائح واسعة من المجتمعات التي تدين بهذه المذاهب تتعامل باستهجان مع فكرة مفتية أنثى، وأقصى ما قد تتقبّله هذه الأيّام هو «مفتية على النساء». وفي المقابل، وفي ظلّ سيادة الرأي الرافض لمرجعيّة الإفتاء عند المرأة عند الإماميّة، لم نر إلا امرأة واحدة تطرح مرجعيّتها وهي السيدة زُهره صفاتي.
كلّ ما سبق استعراضه يُظهر أنّ لكلّ تحدّ مصفوفة خاصّة به لا يمكن مقارنتها بالأخرى. وبالرغم من هذا، فإنّ لكلّ مصفوفة وتحدّ أبواباً قابلة للنقاش الجاد تفتح أفقاً لحلول تراعي المرأة المسلمة المعاصرة.
* باحث لبناني