مرّت قبل أسبوعين أو أكثر قليلاً الذكرى السادسة لموجة يناير، وهي ذكرى تحمل في طيّاتها مدلولاً رمزياً هائلاً، إن لجهة ارتباطها بحجم الإنجاز الذي تبدّد لاحقاً في معارك الاستنزاف المستمرّة ضدّ الإخوان والجيش، أو لناحية اقترانها بالأسماء والعناوين التي ميّزت التجربة المصرية عن سواها، قبل أن تندثر هي الأخرى تحت طبقات التلاعب الأمني والبيروقراطي بالرموز.
في الحالتين ثمّة رغبة في إحداث قطيعة مع هذه المرحلة، وقد ظهر ذلك جلياً من خلال طمس الحالة الرمزية التي مثّلتها رسوم الغرافيتي، بحيث لا يعود ممكناً بعد محوها الربط بين الرسم والحدث الذي يدلّ عليه أو يؤرشِف له. هذا لا يعبّر عن القطيعة التي يقودها النظام مع المرجعيات التي أتت به فحسب، بل ينزع الشرعية أيضاً عن القطيعة الأولى والتأسيسية مع نظام مبارك، ويعيد الاعتبار إلى سلسلة كاملة من الممارسات ضدّ المجهود الذي بُذل لربط حلقات الثورة المختلفة.

ربط حلقات الثورة ببعضها

عبر هذه الممارسات يحاول النظام تدمير السياق، ومنع التراكم الذي أحدثته النضالات المختلفة لاستعادة الحقوق والمكتسبات على مرحلتين. هنا تلعب الرموز والأمكنة دوراً أساسياً في استعادة المشهدية التي اندثرت أو تكاد، فهي الرابط الفعلي والموضوعي بين أحداث لا يجمع بينها إلا وقوعها في سياق تطوّر الفعل الاحتجاجي، وانتقاله من مرحلة إلى أخرى. هكذا تصبح إسهامات رموز مثل علاء عبد الفتاح، نوارة نجم، سناء سيف، محمود بدر، أحمد دومة... إلخ أساسية في فهم العلاقة التي تربطهم بالحدث أو بالمكان، جاعلة منه محطّة أساسية على طريق «نضوج الثورة» و«تعافيها». ويمكن إيراد أمثلة عديدة في هذا السياق، أهمّها أحداث شارع محمد محمود بين المحتجين ووزارة الداخلية في عام 2011، والتي كانت بمثابة اختبار لطبيعة العلاقة بين «الثوريين» والنظام الانتقالي الذي قاده المجلس العسكري بعد تنحّي مبارك. في هذه المعركة اتضحت للمحتجين نوايا الإخوان الذين فضّلوا عقد تسويات مع السلطة العسكرية على الوقوف إلى جانب حلفائهم في الثورة، وهو خروج عجّل بفضّ التحالف معهم، وبإيجاد صيغة تسمح بمواجهتهم ميدانياً في حال انتقلوا إلى صفّ السلطة. لم يكن ممكناً فعل ذلك بدون وضع العلاقة معهم على المحكّ واختبارها ميدانياً على مرحلتين (في أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء)، وبفضل الخبرة المكتسَبة من هاتين المحطتين استطاعت «الثورة» نقل المواجهة بأدوات مختلفة إلى قصر الاتحادية (في أواخر عام 2012) حين نزلت قواعد الإخوان الشعبية لمواجهة المحتجين على «الإعلان الدستوري» الذي أصدره محمد مرسي. في هذه المواجهة سقط أكثر من شهيد بينهم الصحافي الشجاع الحسيني أبو ضيف، وبسقوطهم شهداء إلى جانب من سبقهم في أحداث يناير ومحمد محمود ومجلس الوزراء أعادت الثورة ربط المواجهات المختلفة مع السلطة سواء كانت عسكرية أو دينية، وبالتالي عجلّت بصياغة سردية تربط بين تطوّرات الثورة المتلاحقة، بحيث لا يكون هنالك تعارض بينها حتى لو اختلفت هوية الفاعلين فيها بين مرحلة وأخرى. استمرّ ذلك حتى تاريخ 30 يونيو 2013 حين خرجت القواعد الشعبية التي قادتها حركة تمرد (وجلّها من الطبقتين الوسطى والفقيرة) لتطالب الجيش بالتدخّل لإنهاء حكم الإخوان.

دور الجيش في الداخل

هنا تغيّرت طبيعة «الفعل الاحتجاجي»، وانتقلت بفعل الموقف المشترك تجاه الإخوان من مرحلة المواجهة مع الأجهزة في الجيش والأمن إلى مساندتها. عجّل ذلك في تفكّك التحالفات التي قادت المواجهات السابقة مع نظام مبارك والمجلس العسكري والإخوان، لتبدأ مرحلة الانقسامات التي أدّت عملياً لتسيّد الجيش الكامل للمشهد تحت عنوان قيادة المرحلة الانتقالية الجديدة وإنجاز الاستحقاقات الدستورية الثلاثة (كتابة الدستور والاستفتاء عليه، انتخاب الرئيس وبعده البرلمان). والحال أنّ هذا التطور أتى ليؤكد عدم فهم الثوريين لدور الجيش في الثورة، وليوصلهم إلى صدام مستمرّ معه ومع القطاعات الشعبية الداعمة له، وهي بالفعل كبيرة، ولا تزال على الأرجح تشكّل غالبية ضمن المجتمع المصري على الرغم من تضرّرها من سياسات النظام الاقتصادية الأخيرة.

تلعب الرموز
والأمكنة دوراً أساسياً
في استعادة المشهدية التي اندثرت أو تكاد

المعارضة لم تلمس هذا التحوّل جيداً وفضّلت الاستمرار في سياسة الاعتماد على الجيش كظهير لمعاركها السياسية بينما كان هذا الأخير يحضّر «البديل» الجاهز لتلقّف فشل المعارضة في تكوين جسم سياسي موحّد قادر على الحلول بدل الإخوان والمجلس العسكري السابق. أصلاً الثورة كانت تُضمر في محطّاتها المختلفة احتمالاً مماثلاً، وإذا نظرنا إلى مسارها بأثر رجعي فسنجد أنّ تحرك الجيش في 30 يونيو ولاحقاً في 3 يوليو كان حتمياً بالنظر إلى دوره التدخّلي الفاعل في يناير، والذي تمّ بموجبه تحييد المؤسّسة العسكرية عن المواجهات المستمرّة مع الأمن ووزارة الداخلية ووضعه عملياً في مرتبة الناظم لإيقاع الثورة. حصل ذلك بتواطؤ كامل مع الثوريين من التيارات المختلفة، ولم تشذّ عن هذا السياق إلا المواجهة التي قادت إلى مذبحة ماسبيرو، والتي لم يترتّب عليها في الحقيقة أيّ أثر جدّي لجهة مساءلة الجيش أو التشكيك بدوره السياسي. كل ذلك يؤكد استحالة إخراجه -أقلّه حالياً- من دوره الفاعل في صياغة المعادلة السياسية التي أعقبت تنحّي مبارك، فالثورة التي قادتها طليعة من الطبقة الوسطى المصرية قبل أن تنضمّ إليها قطاعات شعبية أخرى لم تكن تستهدفه. وحصول استهدافات معيّنة له في مراحل مفصلية من تطوّر الفعل الاحتجاجي لم تأت في سياق القطيعة معه سياسياً، بل لاستيعاب فائض القوّة العسكري الذي نتج عن انخراطه المباشر في العمل السياسي. والأرجح أنّ من كان يقوم بهذا الفعل أو يدعو إليه يعرف تماماً حدود فعله، وبالتالي يدرك استحالة إخراج الجيش من المعادلة السياسية بعدما أدخلته إليها الثورة من الباب العريض. ولذلك ظلّ المسعى لفرض رقابة على أدائه (المطالبة بمنع المحاكمات العسكرية للمدنيين وإخضاع ميزانيته المالية لرقابة برلمانية وشعبية) مصحوباً بإدراك لمحدودية الأدوات المستعملة في مواجهته، وخصوصاً في ظلّ احتضانه شعبياً وعدم التفريق كما يجب بين دوره كمؤسّسة لحماية البلاد والشعب والدولة وقيادته السياسية المباشرة لمرحلة ما بعد الإخوان. وربما يسهّل هذا الإدراك حصول مراجعات في صفوف «رموز يناير» لطبيعة العلاقة بين الجيش وأجهزة الدولة من جهة وبينه وبين حركات الاحتجاج المختلفة من جهة أخرى، بحيث يُفهم دوره في سياق تطوّره التاريخي، أي بوصفه أداةً أساسية لقيادة الدولة المصرية. والمقصود بالقيادة هنا ليس الممارَسة المباشِرة للسلطة فحسب، بل أيضاً استيعاب هذا الجسم في مراحل تطوُّرِه المختلفة لمجمل الحراك السياسي والاجتماعي الذي تمرّ به البلاد، ليس فقط منذ قيام ثورة يوليو واستيلاء «الضباط الأحرار» على السلطة، بل منذ إعادة تأسيسه على يد محمد علي باشا في أوائل القرن التاسع عشر.

استحالة التغيير في مواجهته

إذا حصل ذلك فسيُقرأ تدخّله في الثورة من منظور أكثر موضوعية، وسيُعاد الاعتبار إليه ليس كدولة داخل الدولة كما يقول البعض وإنما كناظم رئيسي لإيقاع الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. في ضوء هذا المنظور يصبح ممكناً فهم إدارته المستمرّة للتغييرات في مصر على قاعدة المشاركة الفاعلة في إعادة صياغة النظام، سواءً بالاتفاق مع القوى التي تقود المرحلة جزئياً أو بالاختلاف معها ومجابهتها. هكذا، يصبح هو «محور الحراك السياسي» بدلاً من الأحزاب التي ضَعُفت وتهمّشت منذ زمن، بحيث لا يحصل أيّ تغيير أو ثورة أو انقلاب إلا بالاتفاق معه، وحين يجرى «تجاوزه» كما حصل في بعض محطّات يناير «يُعزَل» «المتجاوزون» من الناس قبل مؤسّسات النظام والدولة، ويجرى إفهامهم أنّ وزنهم السياسي مرتبط بالفاعلية التي تتيحها المرحلة، وهي حتماً ليست ولن تكون في مواجهة الجيش ومؤسّساته. سيصعّب ذلك بالطبع قيادة اعتراض جدّي على أداء السلطة التي يتولّاها السيسي، ولكنه في المقابل سيضع المعارضة أمام خيارات أكثر واقعية، في ظلّ افتقادها لمعظم أدوات العمل ضدّ السلطة، وعلى رأسها امتلاك قاعدة شعبية مماثِلة لقاعدة النظام. الفاعلية هنا مرتبطة باستعادة المبادرة من الجيش عبر تحييده من جديد، وإقناع الفئات التي تؤيّده بمشروعية الاحتجاج الجزئي والمتدرّج ضدّ انحيازات السلطة الاقتصادية والاجتماعية. لن يحصل ذلك عبر حملة من هنا أو من هناك ولا حتى من خلال تبنّي القرار القضائي الخاصّ بتيران وصنافير (على أهميته البالغة في إطلاق مسار يكون فيه للقواعد الشعبية دور أساسي). هذه الانتصارات ستبقى جزئية وغير مترابطة ما لم تُوضع في سياق عام يقود «الاحتجاج»، ولا يكون هذه المرّة في مواجهة قواعد الجيش الشعبية بل «إلى جانبها». ثمّة صعوبة بالغة في فهم هذه المعادلة، كونها تضع الجيش وقاعدته في صلب أيّ عملية تغيير آتية، مشترطةً لحصولها عدم المساس به وبمرجعيته التي تعتبر في الحالة المصرية مرجعيةً للدولة والشعب معاً. ولكن تجارب السنوات الماضية تؤكّد أن عدم فهم هذه المعادلة هو الذي أضعف الحركة الاحتجاجية، وعزّز من مواقع خصومها داخل مؤسّسات الدولة المختلفة، وهو على الأرجح ما سيحصل مجدداً مع الحراك الذي يقوده خالد علي ما لم يستدرك أخطاء المرحلة السابقة في التعامل مع الجيش ومن ورائه القاعدة الشعبية العريضة التي تشكّلت حوله إثر استعادته السلطة من الإخوان.
* كاتب سوري