بقيَ دور إيران في سوريا، وكما يحلو للبعض من السياسيين والدبلوماسيين والمحللين و«المثقفين» أن يقول التدخّل الإيراني في الشأن السوري، موضع نقاش ومثار جدل في العديد من الأروقة والأوساط والمستويات الرسمية والشعبية. فحضورها على الساحة السورية، أو بالأحرى في المشهد السوري وفي الذاكرة السورية، في زمن السلم وفي حالات الحرب، وما أكثرها، كان له تأثير واضح وصريح، وغير مباشر وغير معلن، ولكن كبير ووازن، الأمر الذي كانت له انعكاسات لا يستهان بها على المشهد العربي والصراع العربي الإسرائيلي، ما أثار حفيظة واستياء القوى أو الأطراف المتضررة أو المناوئة أو المعادية للسوريين والإيرانيين في الإقليم والعالم. كانت الرابطة بين إيران وسوريا وثيقة ومتينة، وتبدو خاصة و«رفيعة»، وتتطور باتجاه تصاعدي؛ وازدادت، بل تعاظمت، أهميتها الاستراتيجية والجيوپوليتيكية في الحقبة الأخيرة من تاريخ سوريا المعاصر، بالنظر إلى أهمية الدور الإيراني في الحرب والأزمة السوريتين.لا شك أنّ أهداف إيران في سوريا كانت كبيرة وضخمة ومهمة للغاية، وكذلك مقاصدها، بل مصالحها ومكاسبها، من دون مواربة أو مراوغة، لا سيما في الوقت الراهن، إبّان الحرب الدائرة والأزمة المستمرة والمتواصلة في سوريا؛ ولكن الأخطار الجسيمة، القائمة والمستجدة، التي تواجهها إيران في سوريا، حتى حينه، جراء اندلاع الأحداث الأمنية والسياسية في السنوات القليلة الماضية، وما أسفرت عنه من تغيرات وتحولات في المشهد السياسي والجيوسياسي، السوري والعربي والدولي، تبدو أكبر وأضخم وأخطر أيضاً، وكذلك التحديات الكبرى والتهديدات الاستراتيجية لإيران ولأمنها القومي والإقليمي، وحضورها ودورها في المنطقة، وحتى في المجال الدولي. فالخسائر الهائلة لإيران، المفترضة أو المحتملة، وليس المقصود بها التكاليف أو الأثمان أو التضحيات التكتيكية، مهما كانت كبيرة وثقيلة، التي تكبدتها، وما تزال، لإنجاز وبلوغ الانتصار الاستراتيجي الكبير، ستكون، بالتأكيد، أكبر بكثير، وربما ستكون هائلة ومفجعة، بالنسبة إلى إيران، بل قاضية، بحيث أنها لا تستطيع أن تحتمل أوزارها السريعة ومترتباتها الاستراتيجية، ولا حتى نتائجها وذيولها، سواء على المدى القصير والمنظور، أو المدى البعيد، وربما غير المنظور.
لقد تكبدت إيران ودفعت الكثير، ولكنها، في المقابل، حققت وأنجزت الكثير أيضاً؛ فنفقات الحرب السورية، وبمعنى أصح، تكاليف مشاركة إيران في هذه الحرب، كأحد الأطراف الأساسية في الصراع الدائر والمعارك المندلعة في إطار الأزمة المتفاقمة، في إشارة إلى الخسائر الإيرانية، البشرية، بالدرجة الأولى، كما المادية والعسكرية، هي باهظة وكبيرة، كما أشرنا، ولا يمكن التقليل من حجمها وتأثيرها على إيران، واقتصادها وموازنتها، وإمكاناتها أو قدراتها القتالية والعسكرية؛ إلا أن الدولة الإيرانية تمكنت من تأمين مصالحها، وربما بلوغ مقاصدها، أو أنها عملت لذلك بشكل حثيث، إذ أنها عمدت إلى دعم ومساندة الحكومة السورية، ومن يقبض على السلطة السياسية في الدولة السورية، وعلى رأسها الرئيس السوري بشخصه، ومنعت تقسيم الدولة السورية، وضربها من قبل أميركا وإسرائيل ومن معهما، أو شاركت بذلك، إلى جانب حلفائها وأصدقائها، بطبيعة الحال، وبالتالي تشكيل كيانات سياسية، متناحرة ومتصارعة، ومناوئة ومعادية لها، وللمشروع والحلف اللذين تمثل، وربما تقود، في سوريا، وذلك في الأجزاء المقسمة والمقتطعة، وربما المعترف بها. فتمسكت بفكرة مركزية الحكم والمحافظة على الوحدة السياسية والرسمية للدولة السورية، لتحول دون إحداث تغيير في التموضع والموقف السياسيين والاستراتيجيين للدولة أو الحكومة السورية، وهو أمر شديد الخطورة والأهمية والحساسية بالنسبة إلى الدولة الإيرانية وحزب الله.

الأهداف الإيرانية في الحرب ليست نفسها الأهداف الروسية


قد تتقاطع المصالح الإيرانية في الأزمة السورية مع المصالح الروسية، ولكن الأهداف الإيرانية في الحرب السورية ليست نفسها الأهداف الروسية، وقد تتباينان وتختلفان حتى؛ وربما تبدو القيادة الإيرانية، من المرجعية الدينية إلى النخب السياسية والفكرية والأوساط أو المستويات العسكرية والأمنية العليا في إيران، أو هي كذلك في الواقع، أقرب إلى سوريا، في إشارة إلى الدولة السورية، والقيادة، أو لنقل السلطة السياسية السورية، من الدولة الروسية، سواء القيادة السياسية أو العسكرية أو أصحاب المصالح الاقتصادية في روسيا. كما أن إيران، على ما يبدو في العلن من إرهاصات ومؤشرات، من الإعلام والصحافة، ومن الموقف الرسمي ودوائر القرار فيها، وعلى ما تسرب في الكواليس الدولية، السياسية والدبلوماسية، من معلومات ومعطيات، كانت مستعدة، في لحظات حاسمة، دقيقة وحرجة، إلى تخطي وتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة في لعبة الأمم الدائرة في سوريا وعلى أراضيها، فيما لو تم الإخلال بالتوازن الاستراتيجي؛ الأمر الذي عكس التزاماً قاطعاً ومتقدماً، وربما خطيراً، ودونه مخاطر ومحاذير، بموقف سياسي واستراتيجي لا رجوع عنه ولا نقاش فيه، بل لا مقايضة عليه أو «مفاصلة» فيه.
إضافة إلى كل ذلك، فإن الموقف الإيراني من الأحداث الأخيرة في سوريا، وطوال السنوات الأخيرة من تاريخ هذه الأزمة السورية المعاصرة، كان متفقاً ومنسجماً مع الاستراتيجية العسكرية والأمنية لحزب الله اللبناني في سوريا، إن في مواجهة المجموعات أو العناصر الإرهابية التكفيرية، أو حتى، ومن باب أولى، في مواجهة الأطماع والحسابات والتهديدات الإسرائيلية، وقد أعطى مثل هذا التماهي، والتعاون بل التحالف الثنائيين اللذين نجما عنه بين إيران وحزب الله، في الشأن السوري، مزيداً من الدفع والزخم للحضور والدور الإيرانيين على الساحة السورية، في حين أن تعاطي حزب الله مع الجانب الروسي لا يرقى إلى مستوى التحالف أو التعاون، ولا يتعدى حدود التقاطع الظرفي والموضعي في بعض المواقف وفي بعض المصالح، وبالتالي الاتصال المحدود والموضوعي؛ الأمر الذي يحيلنا، في مكان ما، على الرابطة التاريخية والاستراتيجية بين الجانب الإيراني وحزب الله، منذ نشوء الأخير بعد انتصار الثورة الإسلامية في الأول، إذ شكلت الحرب السورية، أو لنقل، بمعنى أصح، الحرب في سوريا، مناسبة ومحطة لتجسيد وتأكيد هذا الحلف الاستراتيجي وهذه الرابطة الخاصة بين هذين الجانبين المعنيين والمؤثرين في الموضوع السوري.
أما من حيث الممارسة على أرض الواقع، في إشارة إلى الأداء الفعلي والعملي على مستوى التنفيذ والحركة، وعلى ضوء الاستراتيجية التي كانت قد سارعت إيران إلى وضعها والسير بها، على خلفية اندلاع تلك الأحداث، وبالتالي المستجدات التي انبثقت منها، بقصد «التكيف» والتعامل معها، فقد كانت إيران، سواء القيادة السياسية والعسكرية الإيرانية، كما المؤسسة الدينية بالدرجة الأولى، وبطبيعة الحال، أو حتى الدبلوماسية، هادئة وثابتة، ومتماسكة ومنسجمة مع نفسها، وذلك في قراءة دقيقة وتفصيلية لعملية صنع القرار بالتسلسل والترتيب الزمنيين والسياسيين.

أدركت إيران حقيقة وحجم المخاطر والتهديدات في سوريا

بالتأكيد، لم تكن مثل هذه المهمة بالمسألة السهلة أو العابرة، بل كانت في غاية الدقة والخطورة، إذ أنها لا تحتمل ارتكاب الأخطاء، ولا حتى المغامرة أو المخاطرة، وتقتضي الكثير من الدراية والحذر والتريث، لا التسرع أو التهور، ولا حتى، ومن باب أولى، ضعف التجربة أو قلة الخبرة، وتفترض أيضاً طول الباع السياسي والنفس الدبلوماسي الطويل، ما يجيده الإيرانيون، من سياسيين ودبلوماسيين، كما أنها كانت تتكرر كلما اقتضى ذلك الواقع أو الموقف الميداني، العسكري والأمني واللوجستي، بميزان الاستراتيجية، ومن المنظار البانورامي، في سوريا والجوار.
على كل حال، من الواضح أن إيران كان تدرك حقيقة وحجم المخاطر والتهديدات في سوريا، ومن البديهي هذا الاستنتاج، دون أن يعني ذلك التشكيك بالمطالب أو الشعارات الإصلاحية، السياسية والاجتماعية وغيرهما، التي برزت في مكان ما، على هامش الحرب والأزمة، وربما قبلهما، أو أقله في بدايتهما، ومن ثم التدويل الذي تبع، حتى أن مصالح الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحضورها ووزنها السياسي في سوريا، وربما أكثر وأبعد منها، كل ذلك، كان على المحك. فكانت إيران تراهن في سوريا على عامل الوقت وانقضائه تحت وطأة الضغوطات والخطوات المتقدمة، وإن كانت بطيئة، وبالتالي انقضاء الفرصة أو المهلة المعطاة من المراهنين للمقامرين من كل حدب وصوب، وكذلك الإحراج، ثم التراجع إلى حد الاستدارة، أو الانسحاب والانكفاء، أو ربما التنازل و«التخلي»، فكل شيء ممكن في التسويات الكبرى للرهانات الصعبة.
وقد سعت إيران في سوريا إلى تسجيل المكاسب، وهو أمر مشروع في السياسة الدولية، والتعويض عن الخسائر أو الأضرار، وتسديد الضربات بعد استيعاب الموقف، وكذلك اللحظة الدولية الراهنة، بكل مفرداتها وتعقيداتها، بما في ذلك من رهانات أو إغراءات أو مغالطات، وربما خدع أو مكائد، ومحاولة امتصاص الهجمة الدولية وقضمها، ومن ثم الانتقال من الدفاع إلى المبادرة في الاتجاه المعاكس، ولكن ليس الهجوم، أو دونه، فهي تفقه وتجيد القواعد والأصول في اللعبة الدولية؛ ووضعت أو ألقت بثقلها العسكري والسياسي، وربما الدبلوماسي إلى حد ما، في سبيل ذلك، وكان المطلوب، بالنسبة إلى الإيرانيين، ساسة وقادة، وهو المدخل أو الممر الإلزامي للمعالجة، أو لفكرة الحل، على قاعدة التسوية السياسية، والتسوية الرابحة لا الخاسرة، من وجهة نظرهم، العمل لإعادة بناء التوازن الاستراتيجي والمحافظة عليه.
لا أحد يمكنه أن ينكر أن إيران خسرت في سوريا، أو لنقل إنها خسرت بعض الشيء، ولكنها ربحت أيضاً، وقد ربحت أكثر مما خسرت، وحصدت أكثر مما دفعت؛ فلم يكن ما دفعته بكثير، في مقابل ما حصلت عليه، ولكنه ليس بقليل، ولا يستهان به البتة؛ كما أن ما نالته أو أنجزته ليس بقليل، بالمقارنة مع ما أدته أو تكبدته، ويستأهل هذا العناء وذلك العناد. وربحها يوازي أو يعادل انتصاراً باحتساب النقاط أو الضربات، وبالميزان، كما بالمحصلة؛ هذه هي الحقيقة، إذ ليس هناك من خسارة أو هزيمة كاملة، كما ليس هناك من ربح أو انتصار كامل؛ لكنها بميزان الربح والخسارة، قد ربحت ولم تخسر، أو ربما انتصرت ولم تهزم. لقد ربحت بعض الشيء، ولم تخسر كل شيء، أو لنقل إنها لم تربح كل شيء، لكنها خسرت بعض الشيء، وهي دفعت ثمن ربحها وانتصارها، وإن لم تكن قد سددت كامل الفاتورة، مع قطع الحساب، في لعبة الدومينو التي لا تخلو من اللعب بالنار في سوريا، وفي أكثر من ساحة أو زاوية على خريطة المنطقة.
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية