إثر محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها الشيخ أكبر هاشمي رفسنجاني عام 1980، أصدر الإمام الخميني آنذاك بياناً استشهد فيه بقول للسيد حسن مدرّس، أحد أشد علماء الدين المعارضين لحكم رضا خان، والد الشاه محمد رضا الذي أطاح الإمامُ الخميني عرشَه. فحين تعرض آية الله مدرّس لمحاولة اغتيال عام 1926 على أيدي أزلام الشاه، وكان نائباً في البرلمان خلال تلك الفترة، قال: قولوا لرضا خان إن مدرّس لا يزال على قيد الحياة.
فما قاله الإمام الخميني في بيانه، بأن مدرس لا يزال على قيد الحياة، فرجال التاريخ أحياء أبد الدهر، وعلى المتآمرين أن يعلموا بأن هاشمي حيّ لأن النهضة باقية، وأن الثورة لا يمكن اغتيالها ولا يمكن اغتيال إنسانية وإسلامية شخصيات أمثال مطهري وهاشمي.
إن تلازم هذا البقاء، بصرف النظر عن الحسابات الداخلية الإيرانية الضيقة وتنافس التيارات الموجودة، يدعونا إلى مقاربة أكثر شمولية لمنظومة الحكم في إيران بعد انتصار الثورة. وتبيان دور رفسنجاني في مختلف مراحل الثورة وبناء الدولة.
إن تجربة نظام الحكم في الجمهورية الإسلامية يتميز بنوعين من الفرادة، فرادة على صعيد التجربة الإسلامية للحكم، وفرادة من حيث الصمود بوجه الكمّ الهائل من المؤامرات التي تعرضت لها إيران في العقود الأربعة الماضية. وبعيداً عن النقاش في الأصول الإسلامية الحاكمة في بنية النظام الإسلامي، فإن المؤامرات الداخلية والخارجية والاغتيالات الكبيرة التي طاولت معظم شخصيات الصف الأول، وحتى الثاني في الدولة الإيرانية الفتية بعد الثورة، جعلت هيكل هذا النظام على قدر من التشابك والتعقيد يصعب معها الاختراق، فضلاً عن أي إطاحة أو انقلاب.
فالمرشد بيده كل المنظومة العسكرية والأمنية، وحتى وزارة الأمن التابعة للسلطة التنفيذية (رئاسة الجمهورية)، حيث يُرشَّح الوزير من قبل الرئيس ويحصل على الثقة من مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، جرى العرف أن يكون من حصة القائد. ولما حاول الرئيس أحمدي نجاد إقالة وزير الأمن في عهده، عارضه المرشد، وهو ما سبّب اعتكافه الشهير لأحد عشر يوماً، ما عرضه للمساءلة من قبل البرلمان.

يبقى رفسنجاني من أهم الشخصيات في تاريخ إيران الحديث وأكثرها جدلاً بعد الثورة
فضلاً عن ذلك، إن الكثير من المواقع الحساسة ينصَّب مسؤولوها بالتعيين من قبل المرشد مثل مجلس صيانة الدستور الذي يتولى من جملة ما يتولى تعيين صلاحية المرشحين لأي انتخابات، وكذلك الإعلام ومجلس تشخيص مصلحة النظام الذي يتولى مهمة حل الخلافات بين السلطات وبين البرلمان ومجلس صيانة الدستور الذي كان رفسنجاني يرأسه حتى وفاته، وأيضاً الأمين العام لمجلس الأمن القومي والقادة العسكريين والأمنيين، ومنْح الرتب لمن فوق العقيد. أضف إلى ذلك، عزّز هذا النظام قدرات ونفوذ مؤسسات توصف بالثورية كرديف لمؤسسات الدولة، مثل الحرس الثوري الرديف للجيش والقوات الشعبية (الباسيج) التي تلعب أحياناً دور القوى الأمنية ومؤسسات العالم الافتراضي وبعض المؤسسات العمرانية والإنمائية.
وبعد الأحداث التي شهدتها إيران أواخر التسعينيات من القرن الماضي وسلسلة الاغتيالات، أُنشئ جهاز استخباري خاص بالحرس الثوري، أصبح رديفاً لوزارة الأمن، مسخراً طاقاته في خدمة النظام والثورة في شتى الميادين. وصحيح كل الصحة القول إن الشعب الإيراني مشارك بقوة في دولته من خلال انتخاب ممثلين له في مختلف المسؤوليات مثل رئاسة الجمهورية وعضوية البرلمان ومجلس الخبراء المعنيّ بمراقبة المرشد واختيار بديل له في حال وفاته أو عزله والمجالس البلدية وغيرها، لكن يبقى على هؤلاء المرشحين اجتياز مصافٍ كثيرة للوصول إلى مختلف طبقات النظام والتوغل في الأروقة الداخلية له. وعليه بصرف النظر عن صراع التيارات أو استعمال التكتيكات المختلفة، كما عبّر اللواء قاسم سليماني في وصفه للفقيد أثناء مشاركته في جنازته، إلا أن الاعتقاد بثوابت النظام وأسسه يبقى لازمةَ الفئة التي تتبوأ المناصب، ولا سيما الرفيعة. فكيف بمن كان من المؤسسين والصانعين لها. وبالتالي لا يوجد بين الساسة الإيرانيين من يقول بعدم الصراع مع الاستكبار والصهيونية، أو مخالفة الوحدة الإسلامية أو حتى أصل إسلامية النظام وثوريته. بل على العكس من ذلك، كلما كانت المناصب أعلى والمسؤوليات أدقّ، كانت هذه الثوابت والأصول حاضرة بقوة أكثر.
ومن جملة من أسس ونظّر وصنع وواكب كل هذه المنظومة، كان الشيخ رفسنجاني الذي لازم الإمام الخميني منذ ستينيات القرن الماضي حتى أصبح من حلقته الضيقة حتى وفاة الإمام عام 1989، ومن ثم مع رفيق دربه الإمام الخامنئي في كل السنوات السبع والعشرين التي تلت رحيل الإمام. فكان مستشاراً وجندياً ومنظِّراً ومواكباً لنموّ هذه المنظومة وصانعاً للشخصيات والأحداث التاريخية في حياة الثورة. وسواء اختلف أو نافس أو وضع في هذا الموقف من قبل الآخرين، إلا أنه يبقى من أهم الشخصيات في تاريخ إيران الحديث وأكثرها جدلاً بعد الثورة. وما دامت هذه الثورة باقية، فإن اسم أكبر هاشمي رفسنجاني، سيبقى يتردد صداه في كل منعطف وعند كل استحقاق. وهذه الحياة يجب أن تبقى نابضة لهذه الشخصية الفريدة، ذلك لأن الثورة باقية ويجب أن تبقى.
* باحث في الشؤون الإيرانية