هناك ثلاثة قادوا أهم الثورات في القرن العشرين: لينين وماوتسي تونغ والخميني. لم يكونوا كذلك فقط، بل كانوا أعظم من قاد ثورات بالتوازي مع كرومويل وروبسبيير، وذلك بعدما استهان بهم الخصوم. في تاريخ أجهزة الاستخبارات، هناك دروس «حول الخيط الرفيع بين الضعف والقوة في السياسة». وهناك حادثة جرت مع ألن دالاس، الذي كان رئيس فرع الاستخبارات الأميركية في سويسرا، حين رفض نصيحة صديق بالتعرف إلى مهاجر روسي مقيم في غرفة صغيرة في مدينة زيورخ السويسرية عام 1917 بحجة أنه مرتبط بموعد لمباراة تنس قبل أن يفاجأ بعد ثلاثة أشهر، بأن هذا الشخص قد عاد إلى روسيا في نيسان ثم «هزّ العالم» مع ثورة أكتوبر 1917.
بالتأكيد كانت «الاستهانة»، هي سر إبعاد صدام حسين للخميني من النجف إلى خارج الحدود العراقية في تشرين الأول 1978، إرضاءً لشاه إيران وكانت القراءة المعاكسة هي سر استضافة الرئيس الفرنسي، جيسكار ديستان، للخميني في باريس، حيث قاد الثورة الإيرانية من إحدى ضواحيها قبل تسلمه السلطة الإيرانية في 11 شباط 1979.
لم يستهن الخصوم فقط بماوتسي تونغ، وهذا سلوك شيانغ كاي شيك زعيم حزب (الكيومنتانغ: الحزب الوطني)، وإنما شمل هذا جوزيف ستالين، منذ أن عارض ماو أوامر الكرملين عام 1924 باندماج الشيوعيين عبر الانتساب الفردي في الكيومنتانغ. دفع الشيوعيون الصينيون ثمن سياسة ستالين عبر مذبحة شانغهاي في آذار 1927 التي قادها شيانغ كاي شيك، وعندما وجههم ستالين نحو انتفاضة «كانتون» في كانون أول 1927 كان ماو معارضاً أيضاً لذلك لأنه كان يعتقد بأن هذا أيضاً سيقود نحو مجزرة ثانية من خلال مجابهة غير متكافئة مع «الكيومنتانغ». بعد سنتين من تولي ماو قيادة الحزب، وافق عام 1937على التحالف مع الكيومنتانغ من أجل صد الغزو الياباني، قبل أن يعود للمجابهة معه بعد الحرب ويصل إلى السلطة عام 1949 ويطرد الكيومنتانغ إلى جزيرة فورموزا حينها (تايوان).

أدركت واشنطن أن الوجود الروسي في سوريا عامل تفريقي بين موسكو وطهران
ما يميز الثلاثة هو تفعيلهم لـ«العامل الذاتي» في السياسة وإدارته القصوى للعامل الموضوعي (=الواقع) عبر كون السياسة هي إدارة عبر الذات «للممكنات الواقعية»: عندما عاد لينين إلى روسيا في نيسان 1917 كان معارضاً لسياسة التعاون مع الحكومة المؤقتة. عندما قدم «موضوعات نيسان» في مؤتمر الحزب البلشفي لم يقف معه من المندوبين سوى ألكسندرا كولونتاي. واجهه البلاشفة بكتابه عام 1905 «خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديموقراطية»، وبأن على الشيوعيين عدم اجتياز ذلك نحو ثورة اشتراكية في بلد متخلف وغير مكتمل النمو الرأسمالي: أجابهم بأن ثورة شباط 1917 تجعل هناك إمكانية «لثورة ذات أفق اشتراكي في ظرف الحرب من خلال ممري «الأرض» و«السلم»، وبأن الحكومة المؤقتة أو التحالف معها «لا يتيح حتى العبور في طريق اكتمال الثورة الديموقراطية». خلال أيام، نجح لينين في كسب غالبية المؤتمر البلشفي نحو ثورة جديدة ونحو السلطة. كان يرى أبعد من الآخرين ويملك القدرة على تلمس رياح الشارع. كان أقرب إلى «نبي سياسي»، ومن دون شخصه ما كان للعامل الذاتي، ممثلاً في الحزب البلشفي و«السوفياتات»، أن يدير ممكنات العامل الموضوعي في اتجاه ثورة أكتوبر. في المقابل، كان ماوتسي تونغ في وضع أصعب من لينين: ليس زعيماً للحزب، وليس على وفاق مع الكرملين الذي يضغط على الشيوعيين الصينيين من أجل سياسات تلائم استراتيجية ستالين في التحالف مع الكيومنتانغ في ظل عزلة موسكو الأوروبية في العشرينيات. أصبح عام 1935 زعيماً لحزب مثخن الجراح. أمام العدو الياباني قام بتغليب التناقض الرئيسي على الثانوي، ولكن بعد انتهاء الحرب وهزيمة اليابانيين عام 1945 لم يعد مستعداً لتقديم أذن صاغية لستالين الذي عقد مع شيانغ كاي شيك معاهدة تحالف في 14 آب 1945، أي قبل 19 يوماً من استسلام اليابانيين. لم تكن الثورة الصينية منذ كانون الأول 1947 وحتى انتصارها في الأول من تشرين الأول 1949 برضا الكرملين بل رغماً عنه. كانت ظروف الخميني أصعب من لينين وماوتسي تونغ: قبل أشهر من احتفال شاه إيران الفخم عام 1971 بالذكرى 2500 لتأسيس الإمبراطورية الفارسية كان هناك شخص يجلس في زاوية صغيرة من مسجد النجف يملي على تلاميذه القلائل كتابه: «الحكومة الإسلامية» الذي عرض فيه نظريته حول «ولاية الفقيه» التي تعارض كل التراث الشيعي البادئ مع إعلان ابن بابويه القمي (غيبة الإمام الثاني عشر صاحب الزمان) في عام 940 ميلادية. كان معزولاً ليس فقط في النجف بل وفي قم أيضاً، وبالذات في طهران التي كان حاكمها يستضيف في احتفاله ذاك ريتشارد نيكسون وأليكسي كوسيغين، وكان كيسنجر بعد الانسحاب البريطاني من الخليج قد أسماه «شرطي الخليج». عندما فاجأته الاحتجاجات ضد الشاه في بداية 1978، كما فاجأت ثورة شباط 1917 لينين، حزم عدته واستطاع تجيير الشارع المتدين ضد الشاه «العلماني» حليف واشنطن وتل أبيب، ولكن مع إدراكه بأن هذا ليس كافياً لإسقاط الشاه تحالف مع شيوعيي حزب توده ومع مجاهدي خلق ومع فدائيي خلق ومع الليبراليين ومع الأقليات القومية الكردية والعربية، ومن باريس استطاع قيادة ملايين الناس في الشارع الإيراني. اجتمع الجميع وراء عباءته وعمامته، وأعطى الجميع ما يرضيهم، ولكن عندما تسلم السلطة اكتشف الجميع بأنه لن ينفذ سوى كتابه ذاك الذي أملاه في النجف والذي على الأرجح لم يكن أحد منهم قد قرأه قبل يوم 11 شباط 1979.
هناك حالات معاكسة في ما يخص «العامل الذاتي»: زعيم «الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر»، عباسي مدني، بين عامي 1990 و1991 عندما فشل في استثمار قوة مليونية كانت بين يديه من أجل تحقيق أهدافه: لم يفشل في الوصول إلى السلطة فقط بل لم يستطع منع الحركة الإسلامية الجزائرية من أن تكون قوة منفرة للآخرين من يساريين وليبراليين وبربر وعلمانيين ومن وقوع هؤلاء جميعاً في أحضان العسكر الجزائريين، وعملياً بعد سجنه في حزيران 1991 استطاع تنظيمه الفوز في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية في الأسبوع الأخير من العام. ولكن عندما قام العسكر بانقلاب 11 كانون الثاني 1992 لمنع الجولة الثانية من الانتخابات وجد الإسلاميون أنفسهم في حالة عزلة حيث لم يقف أحد معهم وانقسموا بين «جبهة الإنقاذ» و«الجماعة الإسلامية»، فيما وجد العسكر غطاءً كبيراً من القوى السياسية الخائفة من الإسلامية أو المتنافرة والمختلفة معها ووجدوا غطاء اجتماعياً كبيراً استطاعوا استثماره في الحرب العسكرية ــ الأمنية ضد الإسلاميين بعد انزلاق الأخيرين نحو حمل السلاح إثر 11 كانون الثاني 1992.
كان عباسي مدني ليس مديراً فاشلاً في «إدارة الممكنات» بل أيضاً مبدداً للقوة التي بين يديه. بعد عقدين من الزمن أتت المعارضة السورية لكي تنافس عباسي مدني. كان في سوريا ما بعد 18 آذار 2011 حراك اجتماعي معارض كبير، ومن الواضح بأن هناك انفجاراً داخلياً في بنية أقيمت منذ يوم 8 آذار 1963. كان هناك قوة شارعية متحركة، وكان هناك تأييد عند الكثير من الآخرين، في القلوب والألسنة، لمن نزلوا يطلبون «التغيير» بأيديهم وألسنتهم. لم تستطع القوى السياسية قيادة الشارع المتحرك وأيضاً لم يستطع غيرها قيادته من «الشباب» أو«التنسيقيات». كذلك لم تستطع تلك القوى السياسية الاتفاق مجتمعة على برنامج مشترك يُبنى على واقع أزمة ما بعد 18 آذار 2011: التغيير، أم إسقاط النظام، أم إصلاح، أم تسوية مع النظام على برنامج انتقالي تغييري. عندما فشل الحراك السلمي في تحقيق الأهداف، بدأوا منذ أيلول 2011 بالانتقال نحو العنف المعارض المنظم والاستعانة بالخارج على طراز عراق 2003 وليبيا 2011. تجسد هذا أساساً في «المجلس الوطني السوري» (2 تشرين الأول 2011) و«الائتلاف الوطني السوري» (11 تشرين الثاني 2012). لم يكن هناك تعامل مع السياسة بوصفها إدارة ممكنات لواقع موضوعي من قبل عامل ذاتي بل سياسات رغبوية إرادوية وشعبوية، عند منفيين يعيشون كقيادات خارج الحدود ارتبطوا بأجندات مع قوى دولية وإقليمية التي استطاعت استخدام المعارضة السورية، وبخاصة بشقها المسلح، من أجل الضغط عبر الحريق السوري لتحقيق هدفين: إبعاد روسيا عن الصين من خلال ارتماء الكرملين بأحضان البيت الأبيض عبر المكافأة السورية، والضغط على إيران من أجل التخلي عن برنامجها النووي. تحقق الهدف الأميركي الثاني في فيينا 14 تموز 2015، وتحقق مع الروس مع دخولهم العسكري إلى سوريا بيوم 30 أيلول 2015، وكانت واشنطن مدركة منذ البداية بأن الوجود الروسي العسكري في سوريا عامل تفريقي بين موسكو وطهران.
كان الحراك السوري المعارض فرصة لتحقيق تسوية بين السلطة والمعارضة من أجل «تغيير انتقالي» ما دام هناك، وما زال، ثلاثة أثلاث متساوية الحجم منذ 18 آذار 2011 في المجتمع السوري: موالاة ومعارضة وتردد. كانت مبادرة الجامعة العربية عام 2011 فرصة لذلك، ثم كان هناك «جنيف 2» و«جنيف 3» بغطاء أميركي ــ روسي. ثم تبددت كل تلك الممكنات من قبل «المجلس» و«الائتلاف» و«الهيئة العليا للمفاوضات» مع إدارة بالغة السوء للممكنات هي أقرب ليس إلى التبديد بل إلى اللاإدارة.
في مباريات كأس العالم لكرة القدم، عندما تخسر الفرق وتخرج بخفّي حنين، لا يقوم فقط مدرب الفريق بالاستقالة اعترافاً بفشله وإنما يتم أيضاً تغيير طاقم اللاعبين. في وثيقة صدرت يوم 2 كانون الثاني2017 وقع عليها نائبا رئيس «الائتلاف» وأحد رموزه، أي ميشال كيلو، هناك هجوم على سياسات، مثل نزعة الاستعانة بالخارج ونزعة العنف المعارض والأسلمة، ومحاولة إلقاء المسؤولية على مجهول. هذا مع علم الجميع بأن كتابات موقعين على تلك الوثيقة وأقوالهم وأفعالهم تشي بأنهم كانوا من مدشني «نزعة الاستعانة بالخارج» منذ عام 2003 وبأنهم سكتوا عن «نزعة العنف المعارض» وعن «الأسلمة»، أو بالأحرى انساقوا في بحرهما. ذلك من دون ذكر المؤسسة التي ينتمي إليها هؤلاء، أي «الائتلاف»، الذي كانت رمزاً لهذا الثالوث (غير المقدس). لا يمكن هنا سوى تذكر «نزعة الفهلوة» عند الكثير من السوريين التي أتت من التجار الشوام، إذ يظنون من خلالها بأنه عبر «اللسان الحلو» يمكن تمرير البضاعة الرديئة.
* كاتب سوري