إن اعتماد أي قانون انتخابي في هذا الاجتماع السياسي أو ذاك، لن يبقى في إطاره القانوني أو السياسي البحت، وإنّما لذلك القانون جملة من التّداعيات والآثار على أكثر من مستوى سياسي، واقتصادي، واجتماعي، وقيمي، وثقافي... حيث إن قانون الانتخاب يسهم في تشكيل الثقافة العامّة، وتحديد طبيعتها، وبناء هويّتها، في مختلف مجالات الشّأن العام.
لأن أي قانون انتخابي يحمل في أحشائه جملة من القيم، والمفاهيم، والأبعاد الثّقافيّة والسياسيّة، وغيرها، والتي سوف تترك آثارها على مختلف تلك المجالات مورد البحث.
ولا بدّ لذاك القانون من أن يترك أثره في الشّأن العام وثقافته تبعاً لطبيعته ومكوّناته، وجيناته الثقافيّة، والقيم التي يحملها، حيث لن تكون تلك الآثار والنتائج مختلفة عن طبيعة القانون وسماته، وإنّما سوف تكون من ماهيّته، وتعبيراً عن حقيقته وهويّته.
وبمعنى آخر، فإنّ القانون الانتخابي بمقدار ما يكون سليماً في محمولاته تلك، بمقدار ما يكون سبباً في سلامة الاجتماع العام، وبناء ثقافة صحيحة وصحيّة لديه، في ما يرتبط بالدولة ومؤسّساتها وسلامة عملها. وبمقدار ما يكون القانون ذاك سقيماً في محمولاته، بمقدار ما يؤدّي إلى سقم الاجتماع العام في ثقافته وانتظام شأنه، وهو ما سوف ينعكس سلباً على الدولة ومؤسّساتها.
فمثلاً لا يمكن للقانون الانتخابي الذي يقوم على المنطق الطائفي إلا أن ينتج اجتماعاً طائفيّاً. ولا يمكن لقانون يعتمد المحاصصة الطائفيّة، إلا أن ينتج ثقافة محاصصة طائفيّة. ولا يمكن لقانون يستند إلى منطق الغلبة والإلغاء والاستئثار، إلّا أن ينتج ثقافة غلبة وإلغاء واستئثار. ولا يمكن لقانون يرتكز على الطوائف كمجموعات قبليّة متفارقة، إلا أن ينتج ثقافة قبليّة سياسيّة تقوم على تكريس منطق الغلبة، وتثوير الصراع على السلطة، وتناتش، مغانمها والنفوذ فيها، وبالتّالي إلغاء تلك البيئة الثقافيّة المساعدة على بناء الدّولة، وقيامها، والعبور إليها، وإعدام أيّة قاعدة قيميّة تصلح للبناء عليها بهدف العبور إلى الدّولة وتطويرها.
أمّا إذا كان القانون الانتخابي يقوم على العدالة كقيمة مطلقة، غير قابلة للاجتزاء أو التقييد، فهذا ما سوف يؤدّي إلى إفشاء ثقافة العدالة في الشأن العام، وتعزيز منطق التناصف في الحياة السياسيّة ومؤسّسات الدولة، وإلى التأسيس لثقافة عدالة تسري في جميع ميادين الاجتماع المحلي ومجالاته، من سياسيّة، واجتماعيّة، واقتصاديّة، وسوى ذلك، وإلى اجتماع عام يقوم على قيم العدالة، والتناصف، والكفاءة، والقانون. أي تلك القيم التي تؤسس لقيام الدولة، وإعادة بنائها، وتحديثها.
ومن هنا، فإن ما يجب أن ندركه أنّ من يختار القانون الانتخابي هو لا يختار قانوناً انتخابيّاً فقط، وإنّما يختار طبيعة الاجتماع الوطني، وثقافة اجتماع عام، وثقافة سياسيّة، وإداريّة، واقتصاديّة، واجتماعيّة، تسري في جميع مفاصل الدّولة، ومؤسّساتها.

من يختار القانون الانتخابي إنّما يختار الوطن الذي يريد

إنّ من يختار ما بين القوانين الانتخابية على تنوّعها، إنّما يختار بين ثقافة غلبة، وأحاديّة، واستئثار، ومحاصصة، وزبائنيّة، وما تنتجه من فساد، وشلل، وترهّل في مؤسّسات الدّولة وإداراتها، وتعطيل لتلك الديناميّات التي تسمح بتطويرها، ومعالجة أزماتها؛ وما بين ثقافة عدالة، تعيد بناء الاجتماع العام على أساس من معايير قيميّة، عابرة للطّوائف، عصيّة على الفساد والمحاصصة، تصلح أن تكون أساساً لبناء الدّولة، وتطويرها، وحسن عملها. ولذلك يمكن القول إنّ من يختار القانون الانتخابي، إنّما يختار الوطن الذي يريد، ومستقبل أبنائه، وطبيعة حياتهم، ورفاههم.
وإذا كان الاجتماع اللبناني قد ارتضى الدّيموقراطيّة كناظم ونظام لحياته السياسيّة، وإذا كانت الدّيموقراطيّة تقوم على صحّة التمثيل وعدالته، وإذا كانت النسبيّة الكاملة هي القانون الأقدر على الوصول بعدالة التّمثيل إلى أبعد مدياتها؛ فهذا يعني أنّ النّسبيّة الكاملة هي القانون الأقدر على تكوين اجتماع عام، يقوم على العدالة وقيمها.
إنّ عدالة القانون الانتخابي هي ركيزة أساسيّة، ومدخل ضروري لإقامة العدالة وسيادتها في الاجتماع اللبناني، ولإقامة الدّولة التي يرغب فيها المواطن، لأنّه لا دولة من دون عدالة، ولا عدالة من دون سيادة قيم العدالة وتعابيرها المختلفة، ابتداءً من قانون الانتخاب إلى بقيّة المجالات السياسيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة وغيرها. أمّا القبول بالانتقاص من العدالة في الإطار الانتخابي، فهو قبول باللاعدالة، أي بالمنطق الذي يتنافى وقيام الدّولة، والعبور إليها، وإصلاحها، ومواجهة الفساد فيها.
إن النّقاش السّائد في الإطار الانتخابي هو نقاش بين منطق عدالة، يبدأ بقانون الانتخاب، ولا يقف عنده. وإنّما ينطلق منه، لإعادة بناء اجتماع الدّولة في مختلف مجالاتها على أساس من تلك العدالة. في حين أنّ إرضاء من لا يرى في عدالة التّمثيل سبباً لاستمرار تضخّمه التّمثيلي، سوف يؤدّي إلى الانتقاص من قيم العدالة في الاجتماع اللبناني كلّه، وإلى الإضرار بالمبدأ الأساس الذي تقوم عليه الدّولة العادلة والحديثة، والإضرار بحق المواطن في دولة تسودها ثقافة العدالة، ابتداءً من قانون الانتخاب، وإلى آخر قضية فيه.
إنّ اعتماد النسبيّة الكاملة وعدالة التمثيل سوف يؤدّيان إلى تعزيز تلك الثقافة السياسيّة، التي تقوم على العدالة والبعد القيمي، بما هو أساس يصلح لإعادة بناء الدولة التي نريد، وإلى إطلاق ثقافة اجتماع سياسي وشأن عام، تقوم على أساس التناصف، واحترام المصلحة العامّة، والكفاءات، وتغليب المصلحة العامّة على المصالح الخاصّة. إن ثقافة العدالة تعني ضبط الأنا الطائفيّة أو الفئويّة، ومنع تغوّلها على الآخرين، وعدم السماح لها بالإضرار بالمصلحة العامّة والشّأن العام. إنّها تعني التّأسيس لقاعدة قيميّة أخلاقيّة، تقوم عليها فكرة الدّولة، وتكون المعبر الضروري إليها، وتصلح لأن تكون جامعاً بين جميع المواطنين على اختلافهم.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية