لا يختلف اثنان على كون التعليم الرافعة والحاضنة الأكثر فعالية وتأثيراً في حياة الأمم والشعوب بمسيرتها نحو الرفعة والتمكين والانعتاق من ذل العبودية والتبعية. لقد لعبت المؤسسات التربوية والتعليمية في فلسطين المحتلة دوراً مهماً ومركزياً في صناعة الشخصية الوطنية، وتعزيز مفاهيم الصراع الأولية في المجتمع المحلي، بما ضمن إبقاء باب الصراع مفتوحاً، ولو بحدّه الأدنى.
في المقابل، عمل الاحتلال على محاربة المسيرة التعليمية بشتى الطرق والوسائل والأمثلة في التاريخ كثيرة، ومنها الحرب على التعليم في القدس، خاصة بعدما حسم المستوى الرسميّ العربي والفلسطيني موقفه النهائي من القدس والقاضي بتركها فريسة لغول التهويد والضم، فاستغل الاحتلال هذه الفرصة التاريخية وباشر هجومه على المؤسسة التعليمية في القدس المحتلة. وكان قد عمد مثلاً في 2010 إلى محاولة فرض منهاجه التعليمي على مدارس القدس كافة، بما في ذلك المدارس الخاصة التي تتلقى من وزارة التعليم الإسرائيلية تمويلاً.
ردّ المقدسيون آنذاك بإعلان الإضراب العام في هذه المدارس، ما جعل الاحتلال يتراجع عن قراره. لكن هذا لا يعني إلغاء المخطط إنما تأجيله. وفعلاً، لم يهدأ المحتل ولم تفتر له همة، فغيّر من الوسيلة والأسلوب متخذاً محورين مهمين في هجومه.
المحور الأول: فُرض على بعض المدارس التي يشرف عليها أو تلك الخاصة التي تتلقى المعونات منه تطبيق المنهاج الإسرائيلي فارتفع عدد الطلبة المقدسيين الذين يتلقون المنهاج الإسرائيلي خلال العام الدراسي 2015/2016، إلى 3500 طالب، في حين كان عددهم في 2013 نحو 1350 طالباً.
المحور الثاني: إدخال التعديلات وتزوير الحقائق ذات العلاقة بالثقافة والتاريخ الفلسطينيين والواردة في كتب المنهاج الفلسطيني، بعدما توّلت بلدية الاحتلال طباعته وتوزيعه على مدارسها التابعة لها، وذلك إلى جانب محاور أخرى استغلت فيها حالة العوز والنقص الحاد في الموارد المالية للمدارس البلدية التابعة لبلدية الاحتلال.
على سبيل المثال، في 2016، خصص الاحتلال مبلغ 20 مليون شيكل لترميم تلك المدارس ولتمويل بعض النشاطات التعليمية واللامنهجية، ولكن اشترط لصرفها تطبيق المنهاج الإسرائيلي في تلك المدارس. ثمة معطيات مهمة توضح مقدار الكارثة: يدرس في المدارس التي تشرف عليها بلدية الاحتلال ما نسبته 41% من طلاب القدس، أما في المدارس الخاصة التي تتقاضى تمويلاً من الاحتلال، فيدرس فيها 40% من الطلاب، والبقية تدرس في مدارس تابعة للأوقاف أو "الأونروا" أو مدارس خاصة مستقلة. وفي حال نظرنا إلى التسريب من المدارس، تبلغ النسبة ما مقدراه 13% من كلّ صف تعليمي، في حين يبلغ النقص في الصفوف ألفي غرفة صفية، بحسب دراسة نشرتها جمعية «باسيا» في أيلول 2016.
بنظرة أولية على هذه المعطيات نجد أن الاحتلال بات يتحكم بما نسبته 80% من الجهاز التعليمي في القدس، ما يؤشر على قرب بداية الحسم في حربه الشرسة على التعليم في المدينة، ليصل به إلى مبتغاه الكارثي على مستقبل الطلبة المقدسيين.
أما الحلول المقترحة، فنقول إن المعضلة الأهم في إخفاقنا جميعاً في الوقوف أمام أيّ هجمة من هجمات المحتل على مدينة القدس هو غياب المرجعية التي تلتف حولها جماهير المدينة، وهذا يعني غياب أي برنامج وطني شامل يكفل بالحد الأدنى أن يحافظ على ما تبقى لنا بهذه المدينة المنكوبة.
إن كانت القدس وما زالت تمثل لنا كفلسطينيين بوصلة الصراع وجذوته التي لا تنطفئ، فلا أقل من العمل ليل نهار من المخلصين لها على توحيد الجهود لإيجاد مرجعية محترمة تباشر عملها في قيادة الحالة المقدسية، ولإيجاد حلول تحول دون وصول المحتل إلى العقل المقدسي وأسرلته، وهذا لربما يكون من أحلام اليقظة في ظل حالة الانقسام الحاصلة وانحطاط الوسط السياسي لمستنقعات المصالح التنظيمية والفئوية. لنا الله والعار لكم أمةً على ترككم القدس فريسة لمحتل لا يرحم.

* كاتب وإعلامي فلسطيني