«أستطيع أن أصنع كل شيء بكاميرا ومايكروفون وحرفي مونتاج واحد»(فرانسيس فورد كوبولا ــ مخرج أميركي)

لم يكن غريباً البتة أن يهرع جمعٌ من الفنانين والإعلاميين لمشاركة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي زيارته إلى ألمانيا. هو خبرٌ ليس بغريبٍ أبداً على أي متابعٍ لما يحدث في «الميديا» المصرية خلال أقل من عام. تبدو ملامح التغيير الكبير والممنهج الذي لجأ إليه النظام أكثر من ملاحظ خصوصاً على جناحي الإعلام والميديا بأشكالها كافة. من هنا لا يمكن إغفال أن نظام السيسي ليس غبياً كما يدعي أعداؤه ومعارضوه، بل هو ذكيٌ وذكيٌ للغاية.

الاستفادة من أخطاء السابقين

في الخطوة الأولى، فهم النظام المصري الحالي أنه كي تحكم الشعب المصري «بهدوء» عليك أن تتخلص من كل مسببات القلق. كان الدكتور باسم يوسف وانتقاداته اللاذعة عبر برنامجه «البرنامج» سبباً أساسياً في سقوط الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي؛ الرئيس الإخواني كان جديداً على الميديا والإعلام خصوصاً أن جماعته لا تعرف – حتى اللحظة - التعامل مع «الضوء» والبقاء تحته. خسر مرسي المعركة سريعاً مع صحافيٍ ذكي ولمّاح يستطيع تحديد الخطأ منذ لحظته الأولى؛ السيسي لم يقع في هذا المطب أبداً، بل بالعكس، ومنذ لحظات وجوده الأولى تخلص من الصحافي المشاغب، حتى أنه أرسل له من يخبره بأنه Persona non grata (أي شخصٌ غير مرغوبٍ فيه) في مصر. رحل باسم يوسف بعيداً ولم ينظر خلفه أبداً. الخطوة التي تلت كانت بملاحقة جميع «النجوم» الشباب للثورة المصرية مع «شراء» من يمكن شراؤه منهم، أي أن استعمال نظام «الجزرة» و«العصا» كان أبرز نقاط اللعبة. فتم تدجين محمود بدر صاحب «حركة تمرد» الذي توسم فيه كثيرون أن يكون «قائداً» حقيقياً للشباب، إلا أن النظام عرف التعامل معه بحرفةٍ عالية. على الجانب الآخر سجن آخرون أثبتوا أنهم لا يمكن أن «يطوعوا»، فسجنت ماهينور المصري من الاشتراكيين الثوريين، وحتى بعد خروجها من السجن أول مرة أعيدت إليه لتسجن 18 شهراً دون تهمةٍ واضحة أبداً؛ أحمد دومة وعلاء عبدالفتاح بدورهما سجنا (ولا يزالان) ويقبعان هناك بتهم تشبه تهم «حرق» الساحرات إبان القرن الثامن عشر.

سياسة غوبلز

يبدو – فعلياً - أن هناك من يقرأ داخل أروقة السيسي. تبدو حرفة قراءة التاريخ واضحةً للغاية، فأسلوب وزير الإعلام النازي الشهير جوزيف غوبلز واضح للعلن، فما يحدث اليوم هو «رسمٌ» علني لتلك لملامح تلك التجربة بكل خطواتها. في البداية عليك – وقبل أي شيء - أن تتخلص من كل معارضيك السياسيين الذين يمتلكون أي «حيثية» من أي نوعٍ من شأنها التأثير «شعبياً». حدث هذا بسهولةٍ بالغة فتم تحييد «البوب» (أي محمد البرادعي) أحد أبرز المرشحيين الدائميين للرئاسة المصرية، من خلال الإيحاء بأن «مصر» ليست «مناسبة» له في الوقت الحالي. ماذا عن «النسر» حمدين صباحي؟ بين ليلةٍ وضحاها، صمت الرجل... لم يعد يتكلم، لم يعد يخرج في برامج تلفزيونية، كما لم يعد أبداً قادراً على التحليق. وبالتأكيد لا يمكن احتساب الإخوان المسلمين كخصومٍ سياسيين في المرحلة الحالية، إذ أنهم حالياً «أعداءٌ» للنظام والبلاد، حتى إن «الرئيس المخلوع السابق» يحاكم وقد تصل عقوبته للإعدام (بالتأكيد سيكون إعداماً صورياً، فالنظام لا يجرؤ حتى اللحظة – دون ضوءٍ أخضر خارجي - على إعدام «رئيس أسبق» من أي جهةٍ كانت)، في وقتٍ خرج فيه الرئيس الأسبق حسني مبارك من السجن (هو وأولاده) من دون إثبات أي جريمة بحقهم. النقطة الثانية في أسلوب غوبلز الجميل هي أن تحتفظ بالدولة العميقة. يأتي مصطلح الدولة العميقة قديماً للغاية ومأخوذ من التركية (derin devlet)، ويتحدث أن هناك «دولة» خلف «الدولة» تتكون من ضباط جيش، قضاة، سياسيين، اقتصاديين وفوق هذا كله رجال دين، يقودون الدولة ويحافظون عليها «كما يريدونها» بغض النظر عمن يحكم في الواجهة. حافظ السيسي على الدولة العميقة من خلال اخراجه لجميع رموز النظام الأسبق من السجون (مبارك وأبناؤه، أحمد عز وسواهم) وإن لم يعطهم «كل قواهم» حتى اللحظة. في الإطار نفسه بقي «ضباط الجيش» و«القضاة» المعروفون بميولهم للسيسي في أماكنهم حتى مع الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها بعضهم (مثلاً الحكم بالإعدام على أحد شهداء حركة حماس، رائد العطار، والذي استشهد في العدوان الأخير على غزّة بالسجن لسنين طوال مع علم المحكمة مسبقاً بوفاته). الأمر الثالث والأخير في خطوات غوبلز العملية هي «الأسطرة» أي صناعة الأسطورة حول القائد. كان لدى غوبلز «فوهرر» أما لدى المصريين فهناك «لواء»؛ واللواء السيسي الذي لم تعرف عنه أبداً «بطولاته» العسكرية الفذة؛ أصبح بين ليلةٍ وضحاها «رمزاً» لكل شيء، ورث فجأة كل عباءة وانجازات عبدالناصر (المحبوب عربياً)، والسادات (المحبوب محلياً)، وحتى مبارك (المحبوب من حكومات الغرب)؛ صار حامياً لكل الحريات/ العدالة/ الثقافة وأصبح أباً لكل شيء. حتى أن الصحف والمجلات باتت تتغنى بالمواليد الذين يحملون اسم «السيسي»؛ وبات للسيسي «تمرٌ» بإسمه، وشوكولا، وأنواع فواكه، وقريباً سيكون له «كل شيء». حتى أن صحيفة «اليوم السابع» وضعت في احد عناوينها مقابلة مع هولندي تحوّل إلى الإسلام متأخذاً اسم «السيسي» كاسم أولٍ له. إلى هذا الحد وأكثر تصنع وسائل الإعلام المصرية «أسطورة» السيسي الخاصة.

مسرحية

في الإطار عينه وضمن السياسة الذكية الحرفية نفسها كان من الواجب أن يتم «تغييب العقل الجمعي» للشعب المصري؛ كيف يحصل ذلك؟ الأمر أكثر من بسيط، جعل السخيف مهماً، والتافه أساسياً، والغبي واجهةً اجتماعية. فيصبح موضوع فيديو كليب مثل «سيب ايدي» حدثاً عارماً، ورقص إحدى الفنانات بالعلم المصري أهم الأحداث على صعيد البلاد، فتنسى أزمات الكهرباء والماء والغذاء وحتى الأمن، ويصبح الحديث هل رقصت فلانة بالعلم، أم ماذا فعلت؟ فتهرع الشرطة والقضاء للقبض على «فنانة» حفاظاً على «الأخلاق العامة» في مشهدٍ أكثر من سوريالي. على جانبٍ آخر وضمن المنهج ذاته كان يجب تحييد كل الإعلاميين/ الفنانين غير المؤيدين للنظام مقابل فنانين «يبصمون» له. وكما هو معلومٌ في بلادنا، فالفنانون غالباً ما لا تكون لديهم إما الثقافة الكافية للتحدث أو الفهم السياسي أو أنهم يميلون للرمادية في اختياراتهم، فيسارعون إلى «التطبيل» و«التهليل» عند أول هزة «خوف»؛ وهذا فعلياً ما حصل في مصر. هرعت يسرا، إلهام شاهين، عزت العلايلي وحشدٌ آخر إلى طائرةٍ مجاورة لطائرة «الريس» لتمثيل «الشعب» المصري «المحب» و«العاشق» لرئيسه في رحلته إلى ألمانيا. لماذا ذهبوا؟ ليس هذا مهماً البتة، المهم أنهم ذهبوا، وأسوأ ما في الأمر أن كثيراً من إعلامي مصر نظر إلى الخطوة «المدفوعة التكاليف» على أنّها سلوكٌ قائمٌ على الحب من شعبٍ محب نحو رئيسه «المحبوب» (ألا يذكر هذا المشهد بصدام حسين أو القذافي مثلاً؟).
وكان تعليق عالم الفضاء المصري الشهير عصام حجي على صفحات «فايسبوك» أبرز تعبيرٍ عن «سوء» الموقف من كل النواحي وبأنه أشبه «بمسرحية» أكثر من كونه أي شيءٍ آخر، فقال: «هذه الصورة لن ينساها التاريخ. ممثلون محترفون يمثلون دور الشعب المصري أمام عدسات الصحافة الغربية. ألهذه الدرجة أصبحت الوطنية مادة إعلامية رخيصة؟ ألهذه الدرجة نحتاج لممثلين محترفين كي يمثلوا دور الشعب السعيد في عمل درامي فاشل لا يصدقه ولا يقبله أي عقل؟ وهل يعقل أن يكون في الوفد ناس صدر بحقهم أحكام قضائية بالإدانة في قضايا أخلاقية؟ المسرحية الهزلية نفسها تكررت في زيارة نيويورك وكنا محط سخرية من الجميع. متقوليش إنت اخواني وعميل والكلام الأهبل ده، أنا إتربيت في بيت كانت صور عبد الناصر فيه في كل حائط والشارع إلي فيه البيت بالمنصورة يحمل إسم عمي الشهيد أحمد حجي الذي استشهد في حرب الإستنزاف، يعني مؤمن بدور الجيش، ووالدي الفنان التشكيلي محمد حجي، يعني مؤمن بدور الفن، وأنا بنفسي وقفت شغلي وحياتي وجئت سنة في أصعب لحظات في تاريخ مصر وساهمت مع كل مصري في بناء الحلم إلي كنا كلنا مؤمنين بيه. النهرده أنا أتعس إنسان وأنا بقول الكلام ده ولكن سيدي الرئيس الوجود المتكرر للممثلين في المشهد السياسي يعني ان كل ما نمر به مجرد مسرحية».
* كاتب فلسطيني