مجموعة وافرة من العناوين أُطلقت، دفعة واحدة، مع انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية في 31 تشرين أول الماضي.جوهر هذه العناوين واحد: الوعد ببدء مرحلة جديدة من التغيير الإيجابي المبشِّر بإصلاح، وبحلول لمشاكل كبيرة وصغيرة، تفاقمت حتى استعصت وباتت تهدد الكيان والمجتمع اللبنانيين في استقرارهما وتماسكهما وتقدمهما وشروط استمرارهها...
سوف نستثني من هذا النقاش الأماني الوردية لفريق من المواطنين، يعتقد أنه، بانتخاب زعيم «التيار الوطني الحر» رئيساً (وبمعزل عن اختلاف المراحل شروط هذا الإنتخاب) قد استعاد «حقوقاً» مسلوبة، أو، حتى، استعاد شيئاً من معالم مرحلة سابقة كان فيها صاحب أفضلية وأرجحية وامتيازات في تحديد قرار البلاد وفي إدارة دفتها على المستويات كافة: السياسية والاقتصادية والأمنية...
الآن، تطفو آمال أو أوهام هذا الفريق على سطح المشهد وتكاد تختزله بانفعالاتها وتطلعاتها. يجب القول، تكراراً، أن هذه الفئة قد عانت، بالفعل، من التهميش والإضعاف بصور شتى. وقد تعاظم الأثر السلبي لهذه المعاناة إلى درجة الشعور بأنها باتت «غريبة» في وطن لم تعد فيه حرة ومستقرة. ولم يفعل تعاقب السنين سوى مفاقمة اليأس والخيبات، خصوصاً بعد دخول المنطقة، بكاملها، في أزمات خطيرة مصحوبة بعواصف استهدفت الجميع، وكان ضررها على الأقليات الدينية أو القومية أو المذهبية ...أشد فتكاً وأكثر خطورة. لا شك أنّ إنتخاب عون (بما مثله في أواخر الثمانينيات من أمل في إسقاط سلطة الميليشيات، وفي التمسك بـ «الإمتيازات»، ومن ثم، منذ عودته، عام 2005، في الإصرار على «المشاركة» و«المناصفة» و«الميثاقية»...) قد أثار إرتياحاً قد يتجاوز حجم النجاح المحقق والنتائج الواقعية المرجوة. ما ينبغي التحذير منه، في هذا الصدد، هو الإنزلاق نحو مبالغة وإيقاظ وتغذية عصبيات وفئويات طائفية تخرج عن نطاق التفاعل الإيجابي. وهي قد تجمح وتُؤجج وتُستغل من قبل قوى خارجية متربصة. وقد عانى لبنان من عدة تجارب مريرة في هذا الصدد كان أخطرها تدخل العدو الصهيوني في ثغرات نسيجه الاجتماعي، ومن ثمَّ احتلال نصف مساحته وكل عاصمته عام 1982.
لا شك أنّ الإصلاح حاجة مصيرية وإنقاذية للوضع اللبناني الذي بلغ في السنوات الأخيرة ذروة تدهوره وانكشافه وفشله. أن يُطالب العماد عون بالانطلاق من هذه الحقيقة المؤلمة وبالسعي للتصدي لها عبر اعتماد مقاربات جديدة، من موقعه كزعيم سياسي وشعبي وكرئيس للجمهورية اللبنانية، أمر أكثر من طبيعي. لكن أن تعلق آمال، لهذا الغرض، من نوع أن مجرد الانتخاب سيؤدي، بحكم تاريخ و«قوة» الرجل، إلى نتائج عجائبية، شيء مختلف تماماً.
لنبدأ، أولاً، من القول إن موقع رئاسة الجمهورية مهم. هو أكثر أهمية مما رسخ، طويلاً، لدى الفريق الذي يشغله في التوزيعة الطائفية، لجهة أن هذا الموقع قد بات شكلياً وبروتوكولياً، وأن ذلك قد حصل لحساب مواقع تمثلية رئاسية أخرى. عزّزت هذا الاعتقاد ممارسات من قبل أطراف داخلية وخارجية، بدا بسببها وكأنه قد جرى استبدال هيمنة طائفية بأخرى مثيلة لها، عوض أن ينشأ نظام مؤسساتي جديد يتكامل، تباعاً، بتحقيق البنود الإصلاحية في الدستور. وهي، بالمناسبة، بنود ظلت معطلة منذ انتهاء الحرب الأهلية، بتسوية «الطائف»، حتى الآن. بالمقابل، فإن موقع رئاسة الجمهورية ليس بالقدرة التي يتوهمها بعض الفريق نفسه (المذكور آنفاً) والذي يتصرف وكأن نظام البلاد بات رئاسياً، وأن رئيسه «القوي» المنتخب سيفعل المعجزات!
يقع في المرتبة الثانية، بعد وضع دور الرئيس في مكانه الدستوري الفعلي، التنبيه إلى أن «سلة» من المساومات والتسويات وإعلانات «النوايا» مع قوى متناقضة قد كانت إجبارية من أجل توفير النصاب العددي والقانوني لوصول عون إلى قصر بعبدا. وإذا صحّ مثلاً أن جزءاً من الإصلاح سيرتكز على محاربة الفساد، فالجهات المتهمة بالفساد أكثر من سواها، موجودة بقوة في السلطة إلى جانب الرئيس. هي لم تعلن «سلتها» الخاصة لأنها لم تضطر إلى ذلك كما فعل رئيس المجلس النيابي وحركة «أمل» الأستاذ نبيه بري الذي، عن قناعة أو عن رغبة بممارسة دور مرجعي، استمر يشترط، عبر «طاولة الحوار» أو من دونها، التوصل إلى تفاهمات مسبقة حول مجموعة من العناوين التي أدى استمرار الخلاف بشأنها إلى مزيد من الشلل والتعطيل والتأجيل...
في المرتبة الثالثة، تشير تجربة ممثلي «التيار الوطني الحر» في الوزارة والإدارة إلى ممارسات مشابهة لممارسات الآخرين. بل إنه في بعض الوزارات قد تميزت تلك الممارسات بفئوية وبتجاوزات ما زالت تتراكم، حتى في مرحلة تصريف الأعمال. لا يحجب ذلك أن بعض من اختارهم العماد عون لتولي منصب وزاري قد كانوا من صنف مختلف (ليسوا أيضاً أعضاء في التيار العوني). هؤلاء حاولوا إحداث فارق نوعي لجهة توخي المصلحة العامة ومصلحة الفئات الشعبية خصوصاً. لكن «وقت الحشرة» جرى التخلي عنهم والمساهمة في منعهم من تحقيق أي إنجاز جدي (تجربة الوزير شربل نحاس ما زالت ماثلة في الأذهان).
طبعاً للمعركة الرئاسية ظروفها وشروطها. لكن ذلك لا يمنع العماد عون، عبر موقعه الجديد، من أن يكون مؤثراً وفاعلاً بمقاييس ممكنة وواقعية ولو في الحدود الدنيا. لنبدأ من أن رئيس الجمهورية، حسب المادة 49 دستور «هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن، يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه...». بهذه المواصفات والصلاحيات هو الوحيد الذي يُقسم على ذلك تأكيداً لعظم دوره وجسامة مسؤولياته. يستدعي القيام بهذا الدور الترفع عن الفئويات والمكاسب الحزبية والشخصية. هو يستدعي، في الواقع امتلاك تصور متكامل للمساهمة في إدارة عمل المؤسسات وفق الدستور والقانون، وبالتالي لوقف الاعتداء عليهما، من قبل الحكام وليس المواطنين الذين هم ضحايا دائماً على مذبح شهوات أطراف المحاصصة وجموحهم وتجاوزاتهم، وسوء استخدامهم للسلطة وتنافسهم المعطل وتبعيتهم لقوى خارجية وفسادهم... لقد أشار الرئيس عون بعد انتخابه، في خطاب القسم وسواه، إلى إلتزامه بالدستور دون تجزئة، وإلى منع انتهاك القانون...
هذا مهم لكنه حبذا لو بدأ بالإمتناع عن اقتطاع حصة لنفسه في الحكومة العتيدة. هذه الحصة غير دستورية. الأحرى أن يكتفي بتمثيل حزبه وان يبدأ، فعلاً، بممارسة دوره المنشود كمرجعية وطنية دستورية، لا كفريق في عملية تقاسم المواقع السياسية والإدارية.
واضح أن الأمور لا تسير في هذا الإتجاه. المناخ السائد، منذ مدة، مفعم بإثارة طائفية لا توضع في سياق وطني مرحلي عام حددته وثيقة «الطائف» وكرّسته نصوص حاسمة في الدستور. ما يجري هو تنكر للدستور، ودعوة إلى تكريس الطائفية، بل وإلى تأبيدها خلافاً للدستور ولمصلحة اللبنانيين في إقامة نظام حديث تسوده المساواة لا الإمتيازات والإنقسام والعصبيات والفئويات والتبعية...
لا تقع المسؤولية على عاتق الرئيس عون وحده. يتحمل عتاة المحاصصين مسؤولية أكبر. القوى غير الطائفية مطالبة، تكراراً، بالحضور وبالمبادرة بعد طول غياب.
لكي يترجم الرئيس عون خطاب القسم لا بد من أن يبدأ بإعادة الإعتبار للبنود الإصلاحية في الدستور و«الطائف»: وهي بنود سياسية وإدارية وإقتصادية...
* كاتب وسياسي لبناني