الأزمة التي يعاني منها المجتمع الأميركي والتي أوصلت مرشحاً مثل ترامب إلى الرئاسة هي أزمة تمثيل بالدرجة الأولى. من صوّت لترامب من الكتلة البيضاء كان يشتكي من التهميش الذي تمارسه بحقّه الإدارة الديمقراطية، ومن صوت ضدّه كان يخشى أيضاً من التهميش الذي سيلحق به في حال وصول إدارة جمهورية منحازة جداً ضدّ الأقلّيات والنساء إلى البيت الأبيض. في الحالتين ثمّة مشكلة تتمثل في عجز الأشكال الحالية من التمثيل السياسي عن التعبير عن احتياجات السكّان، والتي تفاقمت كثيراً في الآونة الأخيرة، وأصبحت تهدّد بسبب عدم انتظامها في قنوات سياسية النظام السياسي الأميركي برمّته.
انتقال الاستقطاب إلى الشارع

عندما يحصل ذلك لا تعود الشرعية التي تملكها المؤسّسات التمثيلية قائمة، ويلجأ الناس بدلاً منها إما إلى خيارات متطرفة لا تعبّر تماماً عن المؤسّسة كما في حالة ترامب، أو إلى الشارع كما يحدث الآن بعد شعور القاعدة الديمقراطية التي صوّتت لكلينتون بالخذلان. في وضع كهذا يتضاعف الاستقطاب الناجم عن أزمة التمثيل، ويصبح الانتخاب الذي يُفترض به أنّ يكون وسيلة لحلّ هذه الأزمة مدخلاً إلى مزيد من الاحتقان الاجتماعي. ولا يُعرَف في ظلّ استمرار هذه الحالة إن كان النظام سيقدر بالفعل على ضمان انتقالٍ سلس للسلطة، إذ إنّ ذلك يبقى مشروطاً بالشرعية التي تمنحها له المعارضة، والتي لا يبدو أنها تلقى تأييداً من أيّ نوع لدى القواعد الديمقراطية سواءً منها تلك المؤيدة لكلينتون أو التي استنكفت عن المشاركة بعد خروج بيرني ساندرز من المنافسة. الحالة الاعتراضية التي يعبّر عنها هؤلاء مرشّحة للازدياد، وهي بلا شكّ ستكون عائقاً أمام توافق الحزبين الكبيرين على طيّ صفحة الانتخابات والانتقال منها إلى إتمام عملية التسليم وفقاً للتقليد السياسي المعمول به أميركياً. وعلى الأرجح أنّ الاعتراض لن يكون محصوراً فقط بمزاولة ترامب لمهامه كرئيس بل أيضاً سيتعدّاه إلى الديمقراطيين داخل مجلسي الشيوخ والنواب الذين سيمنحونه الشرعية. وفي هذه الحالة قد نكون إزاء حركة شعبية اعتراضية داخل الحزب الديمقراطي بقيادة شخصيات مثل بيرني ساندرز (وبمساندة شخصيات عامّة مؤثرة مثل مايكل مور الذي دعا مؤخراً إلى تأجيج الاحتجاجات وتوعّد القيادات الديمقراطية التي تسببت بهذه الهزيمة بالمحاسبة). الوصول إلى هذه المرحلة لا يبدو سهلاً، وهو يتطلّب من الحركة الاحتجاجية أن تكون منظّمة جيداً، بحيث تستطيع تجاوز الرغبة السياسية لدى المؤسّسة الحاكمة بجناحيها في إبقاء الشرعية داخل المؤسّسات. وبالإضافة إلى التنظيم الجيّد لا بدّ من الانتباه إلى أداء الشرطة التي ستتلقى على الأرجح أوامر مشدّدة بقمع الاحتجاجات حين تتجاوز حدودها المرسومة وتهدّد بتعطيل عملية الانتقال. ثمة مشكلة هنا حتى لو انقضت الاحتجاجات باحتواء النظام لها، فمؤسّسات هذا الأخير التي سيُعاد تشكيلها بعد تسلم ترامب السلطة ستكون من دون شرعية فعلية، وسينحصر تمثيلها بالفئات التي صوّتت للرجل، وهي غالباً فئات تتغذّى على الاستقطاب الاجتماعي ولا ترى في استمراره أيّ مشكلة، طالما أنّ أزمة تمثيلها قد حُلتّ.

أفق الاعتراض الحالي

هذا سيترك فئات عريضة من المجتمع الأميركي من دون تمثيل فعلي داخل المؤسّسات وسيخلق حالة يعاد فيها إنتاج المظلومية التي كان يشعر بها البيض - من الطبقتين الوسطى والفقيرة - تجاه إدارة أوباما. ولكن هذه المرّة لن تكون المشكلة اقتصادية بالضرورة، فالنمو حين يعود إلى «حالته الطبيعية» بعد تعافي الاقتصاد ورفع أسعار الفائدة لن يصبّ لمصلحة فئة بعينها وسيعاد توزيعه على الجميع، بما في ذلك الفئات المعارِضة لترامب (والتي تنتمي في معظمها إلى الطبقة الوسطى). العودة إلى الحقبة النيوليبرالية بهذا المعنى ليست من ضمن الأمور المطروحة على أجندة الرجل، وحتى لو فكّر في ذلك فسيجد صعوبة حتى لدى مناصريه الذين استفادوا كثيراً من «الإعفاءات الضريبية» أيام الديمقراطيين. هو وعَد الأميركيين جميعاً بخلق وظائف وهذا يتطلب آليات محدّدة من ضمنها استمرار العمل بالضرائب التصاعدية لتصحيح التفاوت في الدخل عبر وضع قيود على عملية التراكم. الالتزام بذلك لا يعني الانزياح باتجاه اليسار بقدر ما يعبر عن توجّه لحفظ الاستقرار وضمان عدم حصول اضطرابات اجتماعية تُضاف إلى ما يعانيه أصلاً من أزمة شرعية سياسية. هو يعرف أنّ الأزمة الآن هي أزمة تمثيل، ولذلك فإنّ مساعيه ستتركّز على احتواء الفئات التي تقود الاعتراض على انتخابه، سواءً عبر الاحتجاجات في الشارع، أو عبر الدعوات التي بدأت تظهر - وهي لا تبدو جدية كثيراً - لانفصال بعض الولايات عن الاتحاد الفيدرالي. لن يحصل ذلك عبر تفعيل المشاركة في المؤسّسات لأنّ الحزب الديمقراطي نفسه يعاني من أزمة انقسام، وعلى الأرجح أنّ القواعد الديمقراطية التي تقود الاحتجاجات ضدّ ترامب في الشارع هي التي كانت تعارض ترشيح هيلاري كلينتون من الأساس. هؤلاء لن يقنعهم أحد بالعودة إلى منازلهم وستبقى أزمة تمثيلهم معلّقة بانتظار تبلوُر قيادة فعلية تقدِر على مجابهة المؤسّسة، وتلتزم في الوقت ذاته بسقفٍ يتيح لها التفاوض على المكاسب الممكنة في حال قرّر النظام المضي قدماً بعملية الانتقال.
* كاتب سوري