النقاش حول أعمال القتل والانتهاكات في سوريا أصبح بلا ضوابط، فالاتهامات حين تُكال لهذا الطرف أو ذاك لا تكون بناءً على معطيات لها علاقة بالواقع وإنما وفقاً للانتماء السياسي للجهة التي تتهم أو تُدين. فإذا كانت هذه الجهة معارضة يصبح النظام وحده هو المسؤول عن كلّ الجرائم التي تحصل في سوريا، من عمليات القصف إلى الحصار والتجويع مروراً بالنهب والسرقات، أما إذا كانت الجهة موالية فتغدو العملية عكسية بالكامل وهكذا دواليك إلى أن نصل إلى نتيجة تغدو فيها الإدانة انعكاساً لحالة ذهنية أكثر منها واقعية. في كلّ واقعة تحصل في البلد أو في المنافي التي تحتضن السوريين تتكرّر هذه العملية وتكرّر معها أنماطاً من الأداء لم تعد تعبّر في الواقع عن أيّ حساسية تجاه الوضع الراهن. إذ يفترض بأن تكون أنماط التعبير عن الواقع مطابقة لدرجة تطوّره وتعقيده، وهذا الأمر ينسحب على كلّ إفرازات الأزمة بما في ذلك الموقف من الأنظمة المتعدّدة والمتفرّعة التي باتت تحكمنا. والحال أن ذلك لا يظهر في أيّ من السرديات التي تتعامل مع الواقع حالياً، حيث تسود رواية أو روايتان فقط لما يحدث، في حين أنّ المطلوب هو إبراز الطابع المتناقض للواقع والذي يستحيل اختزاله في سرديتي النظام والمعارضة أو النظام وداعش.

الموقف من اغتيال زهران علوش
ليست «الالتباسات» هنا تعبيراً عن واقع بقدر ما هي تعبير عن مواقف تحتكر تفسيره وتؤوّله وفقاً لما تعتقد أنه «الحقيقة المطلقة»، وقد ظهر هذا الأمر جلياً في المواقف المتضاربة من اغتيال زهران علوش. فقد تمّ التعامل مع عملية الاغتيال انطلاقاً من الارتباطات التي يمثّلها كلّ طرف، وهذا يعني أن الموقف سيكون جزئياً بالضرورة ولن يقدم لمن يريد «الصورة الكاملة» عما حدث. النقاش لم يتطرّق أصلاً إلى الحيثية التي يمثّلها الرجل وظلّ يراوح عند حدود التشفّي أو التعاطف، وحتى عندما قُدّم موقف عقلاني يدين علوش والسلطة معاً بقيت الأمور بالنسبة إلى الناس معلّقة وملتبسة، لأن من قدّم هذا الموقف لم يجرؤ على توضيح الأمور كما هي، وبقيت إدانته في حدود اللياقة السياسية التي يفترضها الانتماء إلى «الثورة». فعند هؤلاء لا تزال «الثورة» هي المرجعية التي يجرى الاحتكام إليها لتفسير الواقع وأخذ مواقف من تطوّراته، وعندما يتم فعل ذلك في موضوع زهران نكون أمام ليس فقط تجاهل لما يقع خارج المرجعية وإنما أيضاً إنكار لكلّ المرجعيات الأخرى التي يحتكم إليها سوريون آخرون لا يعتبرون «الثورة» مرجعيتهم. في أفضل الأحوال يعبّر هذا الأمر عن احتكار للتأويل ويفضي إلى نتائج ليست معبّرة تماماّ عن الواقع، أما في أسوئها فيُعَدّ افتئاتاً على آخرين لا يعنيهم أن يكون زهران علوش ضحيةّ أم لا، وهؤلاء هم على الأغلب المعنيون أكثر من سواهم بنقاش الحيثية الفعلية التي يعبر عنها الرجل والتي جرى تجاهلها تماماً في التأويلات الخاصّة بالحدث، سواء تلك المعارضة منها أو الموالية.
النقاش لم يتطرّق أصلاً
إلى الحيثية التي يمثّلها علوش

في الموقف من سلطة زهران
الشريحة الأخيرة تعتبر نفسها غير معنية بالوقوف إلى جانب السلطة أو المعارضة في موقفهما من زهران علّوش، فهي وإن كانت موالية ظاهرياً إلا أن موالاتها ليست هي المعيار الحقيقي في الحكم على الرجل، بدليل أنها تلوم السلطة على تقاعسها في قضية معتقلي عدرا العمالية، وهي القضية التي لا يجرؤ أحد على تناولها حينما يتمّ التطرق إلى موضوع زهران. بالنسبة إلى مثقفي المعارضة لا تعني هذه القضية شيئاً ولا تدخل أصلاً في الحساب الجاري بينهم وبين الرجل، فعلاقتهم بعلوش لا تحكمها إلا مرجعية «الثورة»، وهذه الأخيرة تقتصّ فقط لضحاياها بينما الضحايا الآخرون لا يقعون في محور اهتمامها، ولذلك تتناساهم أو تترك أمرهم لنخبة المولاة. هكذا، يصبح الموقف المعارِض من زهران محكوماً فقط بتنكّره «للثورة» واعتقاله لناشطيها، ولا يعود أمر سلطته التي تقصف المدن كما يفعل النظام وتعتقل الناس وتحبسهم في أقفاص مهماً. لطالما كان موقفهم منه هكذا، ولم يعمدوا أبداً إلى تطويره رغم كلّ التغيرات التي طرأت على الوقع في الغوطة الشرقية. بالنسبة إليهم لم تكن المشكلة أبداً في طبيعة هذه السلطة وفي بنيتها القمعية التي تتماثل إلى حدود معيّنة مع بنية النظام بقدر ما كانت في توجّهها إلى إنهاء النشاط المعارِض داخل الغوطة وحصره بالقنوات التي يعبر عنها جيش الإسلام وباقي الفصائل المتحالفة معه. وهو ما انعكس على مجمل مقاربتهم للقضايا الحقوقية الخاصّة بسلطة زهران، فعندما لا يكون هنالك أساس مشترك للعمل بينهم وبين معظم ضحايا هذه السلطة يصبح من الطبيعي أن يُتعامَل مع قضيتهم قبل اختطاف رزان والمجموعة أو بعده «كقضيةٍ جزئية» وألا يجرى اعتبارها شأناً عاماً يخصّ كل المتضررين من سلطة علّوش. والمشكلة الأكبر أنّ النخب المعارضة لا ترى في ذلك تناقضاً بين خطابها المُعلَن وانتهاجها لمسلك جزئي في التعاطف مع الضحايا، وهذا بالتعريف هو أصل التمييز الذي يرافق عمل السلطة ويسمح لها بتقسيم الناس وفقاً لتراتبية طبقية أو عنصرية إلى درجات. وإذا طبّقنا هذا الأمر على حالة المعارضة الجزئية أو الموضعية لسلطة علّوش نكون فعلياً إزاء نخب تتعامل بتمييز واضح تجاه ضحايا الرجل، فتُعلي من شأن خمسة أو ستّة مناضلين ومناضلات وتصنع لهم سرديات تليق بهم وبتضحياتهم (وهم يستحقّون أكثر من ذلك بالفعل)، وتترك الباقي (وتعدادهم يصل إلى أكثر من ألفي عائلة) لمصيرهم على اعتبار أنهم لا يستوفون المعايير الخاصّة بالضحايا. هذا لا يَجُبُّ فقط فكرة العدالة التي تتهم المعارضة النظام بتغييبها وتحويلها إلى مقاصّة للمتمرّدين الفقراء بل يؤسّس أيضاً لمنهج في العمل تجاه الفقراء والمهمّشين من البيئات الموالية في حال وصول المعارضة إلى السلطة مستقبلاً.

في الموقف الصُوري
يمكننا اعتبار ذلك بالإضافة إلى التمييز الحاصل تجاه ضحايا بعينهم موقفاً صُوَرياً من السلطة. إذ بعد انتهاء مفاعيل «الثورة» ووقوع البلد تحت حكم سلطات متعدّدة أصبح الموقف الأخلاقي من السلطة مشروطاً بإبداء مواقف من الجميع بما في ذلك السلطات التي يؤيدها المعارضون، حيث لا ينفع أن تدين جرائم السلطة في دمشق وأنت تتغاضى عن جرائم جيش الإسلام في الغوطة الشرقية أو جيش الفتح في ادلب وريفها أو جماعة نور الدين زنكي في حلب. الموقف من السلطة وحدها لا يعود مجدياً هنا، فهي لم تعد منذ فترة الفاعل الوحيد وحتى لو اعتبرناها الأكثر قدرة من بين الفاعلين على ارتكاب الجرائم -وهو محض افتراض- فهذا لا يعني أنها الأسوأ، كما لا يعني غضّ الطرف عن المجرمين الآخرين أو اعتبار أفعالهم «دفاعاً عن النفس» كما يحصل مع المعارضة المسلحة في حلب. هذه الأخيرة لا تسيطر فقط على الجزء الشرقي من حلب وأجزاء أخرى من ريفها مثلما يجرى التعريف عنها في أدبيات المعارضة والإعلام القريب منها، بل تفرض أيضاً (وهذا الأساس) على الجزء الغربي من المدينة حصاراً مُطبقاً وتعاقب أهله عقاباً جماعياً منذ أكثر من سنة ونصف السنة بحجّة موالاتهم للنظام. وحين يقصفها النظام (ويتخلّل هذا القصف جرائم موصوفة ضدّ المدنيين) باستخدام البراميل المتفجرة لا تردّ كما يفترض بمعارضة مسؤولة أن تفعل على ثكناته أو مواقعه العسكرية وإنما تستهدف البنية التحتية للجزء الغربي من المدينة موقعةً بها أكبر قدر من الضرر والتدمير. في كلّ مرّة تفعل فيها المعارضة ذلك تجد من يبرّر لها فعلتها بذريعة أنها تحمي نفسها من براميل النظام، وحين يسقط جرّاء «مدافع جهنم» التي تستخدمها ضحايا مدنيون يكون الردّ بأنهم ثمن يتعيّن على النظام (أو بيئته) دفعه جرّاء ارتكابه للمجازر في البيئة المقابلة. لا تبدو النخب المعارضة وهي تفعل ذلك وتضفي الشرعية على أعمال القتل معنيةً بنظرية الاتساق، حيث تفترِض هذه الأخيرة حداً أدنى من التماسك في صياغة المظلومية والدفاع عنها في وجه السلطة، أيّ سلطة. هذا الحدّ بدأ يغيب منذ فترة، وبالتحديد منذ بدأت «الثورة» في بناء سلطتها على أرض الواقع. منذ ذلك الوقت والنخبة المعارضة في حيرة من أمرها، فهي أضفت في خطابها منذ البداية شرعيةً واضحة على العمل المسلّح، ولكنها لم تعتقد انه سيتحوّل بهذه السرعة إلى سلطة، ويشرع في تقويض الأساس الأخلاقي لعملها ونضالها. ربما ساعدها الخروج من سوريا على التخفيف من تبعات الأمر على وجودها و«مصداقيتها» ولكنه لم يحفظ لها الرصيد الذي بنته خلال وجودها هنا، فأضحت مواقفها تعبيراً عن وجودها في الخارج أكثر منه في الداخل. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تكون المواقف أقلّ كلفةً بكثير، حيث يتطلّب البقاء هنا ثمناً لم تعد المعارضة النخبوية قادرةً على ما يبدو على دفعه، ومن هنا يأتي المنحى الصُوَري المتصاعد في مجمل انتاجاتها الأخيرة. هذا لا يقلّل من قيمة ما تنتجه في الخارج ولكن في غياب الفاعلية التي يتيحها الوجود في الداخل يصبح التعبير عن الموقف أقرب إلى الفعل الرمزي، وهو فوق رمزيته واضمحلال تأثيره لم يتغيّر كثيراً، ولم ينجح في توسيع هامش التضامن مع أصحابه، فبقيوا قلّة رغم ادعائهم تمثيل الأكثرية الشعبية المُضطهَدة. وفي حال لم تتغيّر مقاربتهم للواقع هنا، وظلّت على طورها الراهن فسيصبحون عاجزين حتى عن التعبير عن الحالة الشعبية السورية في الخارج، حيث لا وجود لمرجعة وحيدة يجرى الاحتكام إليها حين يُراد التعبير عن أمر ما. وهذا «مصير» لا يريده «للثوريين» حتى ألدّ خصومهم.
* كاتب سوري