شهدت منطقة الشرق الأوسط ولم تزل، سياسات تدميرية من قبل الدول الغربية الكبرى بهدف تقسيم المنطقة وإضعافها، ونهب خيراتها وتشريد أهلها واستعبادهم. فمنذ إسقاط مفهوم الدولة الإسلامية مع السلطنة العثمانية على يد الزعيم التركي العلماني أتاتورك عام 1924، والغرب يسعى لزرع روح الانقسام بين الأشقاء العرب، حيث عمل على تقسيمهم مناطقياً وطائفياً لشرذمتهم وإضعافهم. كما ساعد في إحداث التغييرات في المنطقة والقضاء على الفكر القومي بعد إنهاء حقبة الرئيس المصري عبد الناصر، واغتصاب أرض فلسطين وإقامة دولة إسرائيل عليها. كل هذه الأحداث كانت الدافع في إدخال الشرق الأوسط في خضّات أمنية تبدأ من غرب آسيا وصولاً إلى الخليج العربي والبحر المتوسط. إنّها المنطقة التي عرفت حدوداً ثابتة على أرض الواقع، ولكنّها دائمة التغيّر بما يتناسب والمصالح الغربية. إنّ منطقة الشرق الأوسط أرض الحضارات والموارد البشرية والطبيعية، تشهد اليوم التغييرات الأخطر في تاريخها... خصوصاً مع بروز تلك الأحداث الدائرة فيها مِن تقاتل تحت عناوين مختلفة، هي بداية مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي رسمته الإدارة الأميركية، بهدف:
- تقويض أسس هذه المنطقة واستنزاف طاقاتها البشرية والنفطية والمالية.
سقطت شعارات
الربيع العربي وتمزّقت حدود الدول

- إعطاء صفة شرعية دولية لبقاء دولة إسرائيل التي تتحوّل بسبب سياسات حكوماتها إلى "دولة اليهود المتطرّفة"، حيث يحتاج وجودها إلى إقامة دويلات طائفية ومذهبية تحيط بها وتتقاتل فيما بينها.
هذه الأحداث تؤكّد أن المخاض لم يزل في مراحله الأولى، وإن المنطقة ستشهد مساراً من النزاعات الوجودية للدول التي ستلجأ إلى المزيد من العنف للدفاع عن كيانها. لقد سقطت شعارات الربيع العربي، وتمزّقت حدود الدول، فلم يعد هناك حواجز تمنع من الدخول إلى المنطقة. فزحف آلاف من المقاتلين من مختلف مناطق العالم لتعمل بطريقة غير مباشرة على تحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشّرتنا به الإدارة الأميركية.
أمام هذا الواقع الجديد، نجد أن المنطقة تمرّ بالتغيّرات الأخطر في تاريخها، من خلال:
- تركيا التي تحارب على أكثر من جبهة، وتعمل على أكثر من صعيد بهدف تحديد هويتها الجديدة التي تأبى أن تسحقها الهوية العالمية. فتعهّد الرئيس أردوغان مواصلة "حتى النهاية" العمليات العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني. وفي مقلب آخر يكافح الجيش التركي الدولة الإسلامية (داعش).
- لقد سلكت إيران سياسة نشطة تجسّدت بتدخل مباشر وآخر غير مباشر عن طريق الدعم المادي والعسكري، فقد دعمت إيران القوات الكردية بالسلاح في شمال العراق للبدء بحرب ضد الحكم المركزي في بغداد. وتدخّلت في اليمن دعماً للحوثيين، وفي سوريا دعماً للنظام.
- أما اللاعب الروسي فيعمد في تدخلاته لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بما يتناسب مع مصالحه ورؤيته الاستراتيجية لوجوده في المنطقة. هذا ما وضع القوات الروسية في مواجهة مباشرة وغير مباشرة مع القوات المتصارعة على الأرض.
تعيش المنطقة أزمات تشكّل في ما بينها رسماً سوريالياً، غامضاً، يترك مصيرها مرهوناً بنجاح الخطة المرسومة أم بنجاح المفاجآت التي تحدثها التطورات العسكرية للدول الممانعة على الأرض. فتنظيم "الدولة الإسلامية" الذي يتعرّض لقصف جوي غير مسبوق من قبل طائرات عشرات الدول، لم تزل عناصره تشكّل تهديداً مباشراً للمنطقة ولما بعد المنطقة. أخيراً، ووسط تسارع الأحداث وتزاحم الصراعات وتداخل المصالح للقوى الدولية والإقليمية وحتى المحلية، تعيش منطقة الشرق الأوسط تغيّرات هي الأخطر منذ سقوط الأنظمة ذات الحزب الواحد، لتدخل في دوامة من الاستنزاف لن تنتهي في المدى المنظور، خصوصاً أنّ إسرائيل لم تزل تعمل على تحقيق دولتها التي تمتدّ من النيل إلى الفرات. فهي تسعى جاهدةً لتؤجج نيران الحرب في المنطقة بغية إنهاك الدول في قتالها الداخلي، علّها توصلها إلى حالة الاستسلام. لذلك، العدو الإسرائيلي إلى اليوم هو الرابح الأساسي من التغيّرات التي تصيب المنطقة، طالما أنّ الشعوب العربية لم تزل نائمة في أحضان الطائفية العمياء، ما يسهّل مرور مشروع خريطة الطريق.
* كاتب لبناني