منذ أشهر، أعقد رهاناً مستمرّاً مع صديقٍ حول الانتخابات الأميركية. هو يصرّ منذ البداية أنّ ترامب سيفوز على هيلاري كلينتون، بغض النظر عمّا يقوله الإعلام والاحصائيون، وموقفي هو أنّ النّظام الأميركي من الصّعب جدّاً أن يسمح بوصول شخصٍ مثل دونالد ترامب الى البيت الأبيض ــــ فيما كامل مصفوفة المؤسسة والإعلام ورأس المال لا تثق به ولا تريده.في الحقيقة، فإنّ المراهنة على فوز المرشّح الجمهوري في وجه هيلاري كلينتون ــــ ولو كان من عيار دونالد ترامب ــــ لا يخلو من المنطق، بل إن الأرقام تقاربت لبرهة بين الإثنين، وأُصيب معسكر كلينتون بالذعر. هيلاري تأتي في أعقاب ولايتين لرئيس ديمقراطي، والشعب الأميركي يميل الى تغيير الإدارة دورياً، والحزب في الحكم تتآكل شعبيته مع الزمن. لم يحصل، مثلاً، أن انتخب رئيس ديمقراطي بعد ولايتين ديمقراطيتين متتاليتين منذ أيّام فرانكلين روزفلت عام 1940 ــــ والحالة التي سبقتها كانت في 1836. المسألة الأهم هي أنّ هيلاري كلينتون، في ذاتها، "مرشّح سيئ" الى أبعد الحدود، لم تحظَ يوماً بحبّ الجمهور أو بشعبية زوجها وموهبته الطبيعية مع النّاس. وقد خسرت ــــ على الرغم من سلطتها الهائلة داخل الحزب الديمقراطي ــــ أهمّ المنافسات الانتخابية التي خاضتها (باستثناء انتخابات ولاية نيويورك لمجلس الشيوخ، حيث أهدتها قيادة الحزب طريقاً سهلاً للفوز في ولايةٍ ديمقراطية بالكامل).

بين مرشَّحين

هذا يفسّر لنا التسريبات الأخيرة التي خرجت من حملة كلينتون، والتي تقول بأن هيلاري والحزب الديمقراطي حاولا تسهيل وصول دونالد ترامب الى الترشيح الجمهوري، لكي يكون هو الخصم في وجهها ــــ فهذه فرصتها الوحيدة للوصول الى البيت الأبيض. الأرقام، بعد المناظرة الرئاسية الأخيرة، تقول بأنّ هيلاري كلينتون ستفوز بالرئاسة الشهر المقبل لو لم يحصل أمرٌ استثنائي. هذا ليس مستغرباً، ليس لأنّ ترامب عنصري وكريه ولا يفهم في السياسة (فالأميركيون انتخبوا رؤساء من طراز رونالد ريغان وجورج بوش)، بل لأنّ هذه الانتخابات (بإجماع المراقبين الموضوعيين) هي أكثر الحملات الرئاسية انحيازاً في التاريخ الأميركي الحديث: الإعلام والمؤسسة السياسية والنخبة بأكملها (من "وول ستريت" الى هوليوود) تقف صفّاً واحداً لمنع ترامب من الفوز، وهي تضخّ، على مدار الساعة، كمّاً لا يصدّق من الدّعاية.
المسألة لا تتوقّف على انتقاد ترامب وتقريعه والسخرية من مؤيديه، ولكنّها تمتدّ الى إعفاء هيلاري من المساءلة عن جملة قضايا وفضائح كان من الممكن أن تدمّر حملة أيّ مرشّح ــــ الّا أن أحداً لا يتكلّم عنها اليوم. فضائح ترامب، التي تملأ فضاء الإعلام طوال الوقت (من "نيويورك تايمز" الى البرامج الكوميدية)، هي من نوع أنّه قال كلاماً سيئاً عن النّساء، أو أقام شركات تجارية فاشلة، أو اعتمد خطاباً عنصرياً ضد المسلمين والمهاجرين (مع عدم التقليل من فداحة هذه الأفعال الّا أنّني، بصراحة، كنت أتوقّع أن ينبش الديمقراطيون أموراً أكثر فضائحية بكثير في حياة رجلٍ مثل دونالد ترامب). بالمقابل، هيلاري متّهمة جدّياً بارتكاب أفعالٍ من نمط تلقّي "تبرّعاتٍ" بالملايين من أوليغارشيين روس لصالح "مؤسسة كلينتون"، وتمريرها احتيالياً عبر حسابات كندية حتّى تتجنب التصريح عنها. أو قضيّة البريد الالكتروني، حيث تبيّن أن هيلاري قد أجرت مراسلاتها وهي في وزارة الخارجية على عنوانٍ خاصّ بها، حتّى لا تقع رسائلها تحت رقابة الدّولة ولا تدخل أرشيفها كما يطلب القانون (التفسيرات التي تقدّمها كلينتون للدفاع عن نفسها أكثر شبهةً من الفعل نفسه، فقد حاولت مثلاً التقليل من شأن فضيحة البريد الالكتروني والإدعاء بأنها قضية نافلة مرّت من غير أن تفكّر بها؛ وحين سألها صحافي عن أيّ نوعٍ من الناس يحتفظ بخادمٍ (سيرفر) خاصّ لحفظ بريده الالكتروني في قبو منزله، ادّعت بأنّ الجهاز موجودٌ منذ أيام زوجها، وقد "وجدته مرمياً هناك" واستخدمته فحسب ــــ من يصدّق مثل هذا الكلام؟).
كتوضيحٍ للفكرة أعلاه، خطاب ترامب وتعابيره عنصريّة من دون شكّ، ولكن من الأمور التي رشحت عن حملة كلينتون، مثلاً، نقاشٌ بين مستشاريها حول سياسات الهجرة، يؤكّد فيه هؤلاء "التقدميون الليبراليون" أنّهم يرغبون بتشجيع الهجرة من شرق آسيا والهند، وتجنّب المهاجرين الأفارقة والمسلمين، بدعوى أنهم غير منتجين و"هم بحاجة دائمة الى المساعدة". هذه الأشكال من العنصرية "المؤسسية"، على عكس خطابات ترامب البلهاء التي لا يمكن أن تتحول الى سياسات، تُترجم الى انحيازات فعليّة وبعيدة المدى في عملية صنع القرار ــــ وهي تمرّ من دون اعتراض أحد. مهما يكن، فإنّ هيلاري كلينتون ستكون الرئيسة القادمة للولايات المتحدة الأميركية

كلينتون وسوريا

من جهةٍ أخرى، كما في كلّ موسمٍ انتخابي اميركي، تبدأ نخبٌ عربيّة بزرع الآمال والمراهنة على رئيسٍ اميركي جديد كـ"ورقة يانصيب": يحقّق أحلامهم ويقلب الواقع، فجأة، لصالحهم. وقد سرت لازمة بين عرب "الاعتدال"، الذين "جرحهم" اوباما وخيّب ظنّهم، بأنّ كلينتون "تدخليّة"، وهي دعمت الحرب على العراق والحرب على ليبيا وستكون، هذه المرّة، رئيساً في البيت الأبيض على هواهم.
المشكلة ليست فقط أنّ هؤلاء لا يفهمون السياسة الأميركية، ولا يعون أنّ كلينتون ليست الّا امتداداً لإدارة اوباما، بل أنّهم لا يجهدون أنفسهم للاستماع لما تقوله هيلاري كلينتون، ويخلطون بين أقوالها والتزاماتها وبين تصريحات عشرات الخبراء والمعلّقين الذين يحيطون بها (وهم من كلّ التيارات والمشارب ويقولون، في هذه المرحلة الانتخابية، ما يريد أن يسمعه كلّ الناس). باختصار، وبالمعنى العملي، فإنّ الفارق الوحيد بين رؤية باراك اوباما للملف السوري ورؤية هيلاري كلينتون هي أنّ اوباما لوّح، لفترةٍ، بالخيار العسكري المباشر ثمّ تراجع عنه، فيما كلينتون تتعهّد سلفاً بأنّها لن تشنّ عمليات عسكرية أميركية في سوريا، ولن تصطدم حربياً مع النظام أو روسيا أو ايران (هي صرّحت بأنها قد توافق على وضع جنودٍ على الأرض، في حالات محدودة، ضدّ "داعش" فقط، ولكنّها أكّدت أن ذلك لن يتطوّر الى "عمليات قتالية").
المسألة هي أنّ كلينتون، حين تصير في الحكم، ستجد نفسها أمام السيناريوهات والاحتمالات والخيارات ذاتها التي واجهت اوباما، وستأخذ، على الأرجح، قرارات مشابهة. حين جهد فريق كلينتون لتبيان فوارق بينها وبين اوباما في المسألة السورية، قاموا باستعادة مشروعٍ اقتراحٍ قديم، دافع عنه كيري وكلينتون عام 2013، حول انشاء "مناطق آمنة" برعاية اميركية في سوريا، تستلزم منطقة "حظر جوي" فوق أجزاء من البلاد. ولكن، ما أن طُرحت الفكرة على بساط البحث الجدّي، حتّى اعترفت هيلاري (خلال مناسبة أقامها مصرف "غولدمان ساكس") بأنّ حظراً جوياً سيعني حرباً مع سوريا وروسيا، وهذا غير مقبول، وأنّ سوريا تختلف عن ليبيا. ثمّ تقترح خيارات لا تختلف بشيء عن السياسات القائمة، كالمناداة بجعل التسليح الأميركي لميليشيات واشنطن "أكثر ذكاءً".
عودة الى ترامب وكلينتون، لعلّ الفارق الأساسي بين المرشّحين، في السياسة الخارجية، يتمحور في النظرة الى روسيا. ترامب يهاجم الصين والمكسيك واوروبا وكلّ "الاجانب"، خصوماً وحلفاء، باعتبارهم أخطاراً أو منافسين، ولكنّ نظام فلاديمير بوتين هو الوحيد الذي لا يناله ترامب بأي نقدٍ أو تهديد. أكثر المراقبين يتوقّعون أن ترامب، اذا ما وصل الى الحكم، سيسعى الى عقد "صفقة" مع بوتين والتراجع عن استراتيجية الصدام مع روسيا ومحاصرتها في كل مكان، والتي أطلقها اوباما وستتابعها كلينتون. في الواقع، فإنّ مصالحة بين أميركا وروسيا، وعودة الى "الشراكة" والتهدئة في المسرح الأوروبي، قد تكون، بالتحديد، ما يسمح لواشنطن بإطلاق يدها في الشرق الأوسط، في غياب الخصومة والقلق من ردٍّ وتصعيد.
يبالغ الكثيرون في تقدير التأثير الذي يولّده شخص الرئيس وقدرته الفردية على الفعل والاختيار، ويغفلون أنّ الأساس يتعلّق بأميركا وبمنطق الامبراطورية، وليس بأفكار الرئيس. هيلاري كلينتون ستكون كمن سبقها، أكثر تأييداً لاسرائيل على الأرجح، تؤمن مثل اوباما بأهمية "العمليات السرية" والتدخلات الخفية، وستفعل أيّ شيء للحفاظ على الامبراطورية ومصالح نخبتها. أمّا بالنسبة الى الجماعات العربية التي تتأمّل قدوم "سيّدٍ أكرم" لها في واشنطن، فلا ضرورة لأن تنشغل بالتحليل، فهم (عن وعيٍ أو غير وعي) سيخدمون الرئيس القادم في المكتب البيضاوي أيّاً يكن.