«ليس الهولوكوست الأميركي تاريخاً مضى وانقضى، إنّه واقعٌ يعيشه
العالم، وإنّه خطرٌ يُهدّد مستقبل الإنسانية، بمصير الهنود الحمر».
وينونا لا دوك (المرشّحة لمنصب نائب رئيس الجمهورية عن
حزب الخضر عامَي 1996 و2000).

ـ«إنّني أخاطبُ الملايينَ منَ البشر، الذين تمّ حقنهم بمهارة الخوف،
وعقدة الدونيّة، والهلع، والخنوع، واليأس، وتحقير الذات».
إيمي سيزير (خطاب حول الاستعمار).


ليس ثمّة كتاب رُعب في تاريخ العالم، يمكن لصفحاته أنْ تُزلزلَ قلوب قارئيها جزعاً، كما قد يفعل كتابٌ رصينٌ ودقيق ووافٍ، يؤرّخ لمسيرة حياة الولايات المتحدة الأميركية. حتى الحبر، سيسيلُ ألماً ورعباً.
لمْ يتغيّر أيّ شيء في «العقل الأبيض» الحاكم، مُنذ وطأت أقدام «الحُجّاج والقدّيسين» الأرض الجديدة. حتى لغة «رُسل الربّ» أولئك، تكاد تكون هي ذاتها الآن لدى أحفاد
المؤسّسيْن، ربّما طوَّروا أساليبهم في الخداع اللفظي، كما طوّروا أسلحتهم. العالم تغيّر، العالم جثا على ركبتيه أمام «السيد الأبيض»، أهل الأرض بمعظمهم، اختاروا
أن يكونوا «هنوداً حمراً» خانعين، لا يشبهون (سوى في العقل الأميركي) بأيّ حال، أولئك الهنود الذين قاوموا وأُبيدوا في سهول ووديان وصحارى الأرض الموعودة.
الكوكب كلّه، صار أرض «الزنابير» (1) الموعودة.
في عام 1919، وقف ونستون تشرشل (وكان يترأس المجلس الجوّي البريطاني) ليخطب في «آباء الحضارة» البريطانيين قائلاً: «لا أستطيع أنْ أفهم كل هذا التمنّع في
استخدام الغازات. إنّني مؤيّدٌ جدّاً لاستخدام الغاز السام ضد القبائل غير المتحضّرة. سيكون لهذا العمل أثر أخلاقيّ جيد، وسينَشر رُعباً دائماً». بعدها بما يقرب من عشرين
سنة (1937)، تابَعَ أستاذ الفضيلة هذا، تقديم دروسه في الأخلاق وفي الطرق الفُضلى لنهوض الأمم، قائلاً أمام «اللجنة الملكية لفلسطين»: «أنا لا أوافق على أنّه قد اقتُرِفَ
أيّ شيء سيئ مع ذوي الجلود الحمراء في أميركا، ولا الزنوج في أستراليا، حين جاء عرقٌ أقوى، عرقٌ من نوعيّة أفضل، واحتلّ أمكنتهم» (2). ليس ونستون تشرشل
سوى أحد الأحفاد البررة لقطعان اللصوص وقطّاع الطرق وصيّادي الثروة والبشر الأنغلوسكسون الذين علّقوا الصلبان الكبيرة في رقابهم، وامتشقوا الأناجيل والفؤوس،
واقتفوا أثر كولومبوس، ليُنفّذوا «مشيئة الله»، حيث كلّ من وجدوه في طريقهم، هو «كنعانيّ»، دمهُ وبيته وأرضه وامرأته وأولاده وكل ما يملك، حلالٌ وحقّ إلهي أقرّه
الله لشعبه الفريد، وأيّ تقصير في السلب والنهب والقتل والاغتصاب، هو عصيان لمشيئة الرّب: «يجب مساعدة الحضارة على إبادة الهنود، كما أمر الله يشوع أنْ يبيد
الكنعانيين الذين لم يكونوا يختلفون عن هنود اليوم، ثم إنه عوقب على تقاعسه عن الانصياع لأمر الله» (من محاضر جلسات الكونغرس 33، الجلسة 23) (3).
بهذا «المنطق»، بهذه «الأخلاق»، وبتلك «الفضائل»، بدأت أطول مجزرةٍ في التاريخ البشريّ، المجزرة المُريعة التي انطلقت من أرض الهنود الحمر والزنوج، ولم تتوّقف من ساعتها أو تنحصر في مكان أو زمان. كان «بلفور» يفكّر ويتحدث بمنطق أجداده، حين قرّر وصحبه منحَ فلسطين لأساتذتهم الصهاينة، حيث يعرف «العبرانيون» (وهم كانوا ـ وتلمودهم ـ دائمًا، قدوة للزنابير) ما يجب فعله بالكنعاني. أليس «العربي الجيد هو العربي الميت»؟(4). أليس الهندي الجيد هو الهندي الذي تُعلّق فروة رأسه على خصركَ بزهو الصيّاد؟ أليس قتل العربي وسلب بيته وأرضه، كما اغتصاب نساء «كنعانيي» أستراليا وأميركا و«سرقة أطفالهم، وسرقة أراضيهم، وسرقة أجورهم، أمور لا يعاقب عليها القانون»؟ (5)، كذلك إقرار قادة المحافظين الجدد لقوانين تمنع ضحايا الغزو الأميركي حول العالم من رفع الدعاوى على قتلَتهم وجلّاديهم، وتعفي الجندي الأميركي المجرم من الوقوف أمام أيّة محكمة في العالم، وإجبار الحكومات الضعيفة والتابعة على القبول بتلك القوانين. ألمْ يَقُل جورج بوش الإبن إنّ الله ذاته قد تمنّى عليه أن يسير بجيوشه إلى العراق وأفغانستان ليُخلّص العالَم من الأشرار؟ بل إنّ القنبلتين النوويتين اللتين ألقيتَا على هيروشيما وناغازاكي كانتا «قنبلتي الله»، كما أكد الرئيس الأميركي «هاري ترومان». يا لهذا «الله» الأبيض، ما أشدّ عطشه للدمّ!
لقد اجتمع «زنابير» العالم كله وخَدمهم وعبيدهم على تدمير سوريا لأنّ هناك في تلك البقعة مَن قالَ «لا»

لا يزال البشر في عين وعقل «الرجل الأبيض»، «أغياراً». لا يزال الفقراء والضعفاء هدفاً مشروعاً للإبادة، من حيث كونهم ينتمون لجنسٍ أدنى، جنس غير جدير بأن يتنفس الهواء ذاته، أو يحتل مكاناً ولو قصيّاً على الكوكب ذاته. عليه أن يَفنى، أو عليه أنْ يتغيّر، أنْ «يتمدَّن» ويصبح مسخاً خادماً لدى النّاهب المقدس، عليه أنْ «يتثقّف» بثقافة السيد، أنْ يصبح عبداً لجشعه، أنْ يُغيّر عاداته وطُرق تفكيره، «إنّ القتل والسلخ ضروريان لإنقاذ أطفال الهنود من العادات الكريهة لآبائهم ومنْ لا أخلاقيّتهم» كما قال مفوّض الشؤون الهندية وليم دول سنة 1882. ولا يظنّ توماس مكولاي (مهندس سياسة التعليم الإنكليزيّة للشعوب المستَعمَرَة) «أننا سنقهر هذا البلد (الهند) ما لم نكسر عظام عموده الفقريّ، التي هي لغته، وثقافته، وتراثه الروحي» (6). كذلك «علينا تغيير العقل العراقي كمقدّمةٍ لتغيير العقل العربي»، كما قالت ــ بعد أكثر من قرنٍ من الزمان ــ حفيدة ضحايا دول ومكولاي وإخوتهم، كونداليزا رايس، (لعلّ المناضل فرانتز فانون هو أجدَر من حلّل حالة رايس وأمثالها من السود الذين تشبّهوا بجلاديهم حتى تفوقوا عليهم في التنظير لأفكار «السّيد» والإيمان بها، حين تحدّث عن حالة «الاغتراب الأسوَد» واستفاض في مناقشتها في كتابه «جلد أسوَد، أقنعة بيضاء»). علينا قطع دابر نسل 570 مليون امرأة حول العالم، كي
نرتاح من هؤلاء الفقراء الأغبياء الذين يُشكّلون خطراً على «حضارتنا». لقد وضع هنري كيسنجر حين كان مستشاراً للأمن القومي سنة 1974 وثيقة من 107 صفحات (أوصى بألّا تُرفَع عنها السريّة إلّا من قِبَل البيت الأبيض)، وُضعَت بتوجيه من الرئيس جيرالد فورد، «ترسم بدمٍ بارد، خطّةً لتعقيم وقطع نسل نساء 13 دولة في العالم الثالث، بينها مصر، وذلك في مهلة لا تزيد عن 25 سنة» (7).
الزنابير لم يتغيّروا، لقد غَيّروا العالَم. استطاعوا فرض أسلوب حياتهم وطرق تفكيرهم على غالبية أقوام هذا الكوكب، هناك من تماهى مع «السيد» إلى درجة التلذّذ بالرضوخ والخدمة والوضاعة، هناك من تحوّل إلى عدوّ لنفسه وأهله وقومه، ابتغاء مَرضاة الرجل الأبيض. لقد وصل التماهي بين هؤلاء وأسيادهم، أنْ وجدت الوهابية في إرثها العربي والإسلامي أفكاراً ومذاهب يُمكن عجنها وإعادة تفسيرها وصياغتها وتقديمها لتصبح نسخة من «تلمود» المؤمن الاستعماري الأبيض، ووضعتها في خدمته وخدمة مشاريعه.
وحين انتفت الحاجة إلى هذه الأداة، طلب الأسياد من عبيدهم إجراء عمليات تجميلٍ لأفكارهم وعقائدهم وأساليبهم، لقد أمرَ الأميركيون أتباعهم في الخليج بتغيير قرآنهم،
وليس فقط مناهجهم الدراسيّة. هناك من عبدَ هذا المستعمر وتشبّع بأفكاره وآمَنْ بـ«قيَمهِ» لدرجة أنْ ركع تحت قدميه متضرّعاً: أرجوك اقصف بلادي بصواريخك
وقنابلك وحِمَم جشعك، وانصب لي كُرسيّاً فوق جثث أهلي وخراب وطني، لأخدمك من فوقه كعبدٍ أزليّ. لقد اجتمع «زنابير» العالم كله، وخَدمهم وعبيدهم على تدمير
بلدِ صغير مثل سوريا، ومحو مؤسساته ومكتسبات شعبه، ونهب أوابده وتاريخه، وتمزيق خريطته، لأنّ هناك في تلك البقعة من العالَم، مَن قالَ «لا». لأنّ صرخات
سُمعَت تُدوّي في وجه المستعمر، من دمشق إلى ضاحية بيروت الجنوبية، تقول: «والله لن نُعطيكم بأيدينا إعطاء الأذلّاء، ولا نُقِرُّ إقرارَ العبيد».
هناك من حوّله «السيّد» إلى نسخة مشوّهة عنه، هناك من رفض أسلوبه في العيش، واعتنق «أخلاقه وفضائله» في التعامل مع كل من يختلف عنه. في كتاب «داعش»
المقدّس (إدارة التوحّش) فصول تكاد تُقسم أن ثلّة من «الزنابير» هم من خطّها، (سوف لن نُصدَم إذا ما عرفنا بعد سنوات أو عقود، أنّ «أبا بكر ناجي» ــ مؤلف
الكتاب ـ هو اسمٌ مستعار جديد لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية). لم يكن ينقص الكتاب سوى أن يبدأ برسالة الرئيس الأميركي تيودور روزفلت إلى أحد علماء النفس سنة 1899: «لن تنتصرَ قِيَمنا الحضارية، ما لَمْ نَتخلَّق بالأخلاق البربريّة». فالمجازر مُشروعة وضروريّة دائماً، خدمةً لإعلاء كلمة الرجل الأبيض، وترسيخ قِيَمه الحضارية: «لم تكن مذبحة دير ياسين ضروريّة فحسب، وإنّما، بدونها ما كان لدولة إسرائيل أن تنبثق وتقوم» (8).
لكن، هناك دائماً من قاوم، قلّة قليلة استبسلت ورفضت الرضوخ، هذه القلّة أطلق عليها «الزنابير» الأسماء والصفات التي تليق بالواقفين في وجه «مشيئة إله الرجل الأبيض»، فهؤلاء متخلّفون قذرون، إرهابيون مارقون، شيوعيّون ملوّثو العقول خطِرون على الحضارة وعلى نهضة العِرق الأعلى والأنقى، إنهم كلاب (لقد وقف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق أنتوني آيدن في مجلس العموم البريطاني كالمسعور، يصفَ الرئيس جمال عبد الناصر بـ«الكلب»، لأنّ ناصر قرّر ـ يا للفظاعة ـ أنّ قناة السويس المصريّة هي ملكٌ لشعب مصر). هؤلاء، منذ سياتل مروراً بغيفارا وناصر وهو شي منّه، والجنرال جياب وغيفارا غزّة وسناء محيدلي، وليس انتهاءً بعماد مغنيّة وسمير القنطار وحسن نصرالله والجندي السوري، هؤلاء جميعهم ورفاقهم في كل زمانٍ ومكان، صنّفهم رجلُ «الله» الأبيض، الواقف فوق أعلى كومةٍ منْ جثثِ البشريّة، كَجنودٍ في «محور شرّ» يقف في وجه «مدنيّة» النهب و«حضارة» الجشع، ويعارض إرادة إله القتل.
هؤلاء وتلامذتهم الذي قضّوا ويقضّون الآن مضجع «رجل الخير» الاستعماري ويُبْلغونه بأن أوان سقوط امبراطوريته القذرة قد أزف. بينهم من أخرَجَ الأسطول الأميركي ذليلاً من شواطئ بيروت في صبيحة يوم لن ينسوه أبداً، ولم ينسوه حين تمكنوا من قتل الرجل في دمشق بعد ربع قرن من المطاردة. بينهم من منع ـ لأكثر من ستين سنة من حرب الإبادة ـ أن يُحَال شعب فلسطين، إلى مقبرةٍ منسيّة في ركن التاريخ، من جَعل من أرض فلسطين بركاناً لا يهدأ، تحت أقدام المستعمر. هناك من صرخَ ويصرخ صباحَ مساء في وجوه وحوش العالم: «نحن لا نستسلم، ننتصرُ، أو نَموت» (9).

ــ هوامش:
1ـ الزنابير: الاسم المُختَصر المتداول في الولايات المتحدة للبيض الأنغلوسكسون
البروتستانت. (منير العكش: أميركا والإبادات الجنسيّة).
2- إدواردو غاليانو: أبناء الأيام. ترجمة صالح علماني.
3- منير العكش: أميركا والإبادات الثقافيّة.
4 – الحاخام الصهيوني مائير كاهانا.
5 - منير العكش: أميركا والإبادات الجنسية.
6 – منير العكش: أميركا والإبادات الثقافيّة.
7 – منير العكش: أميركا والإبادات الجنسيّة.
8- رئيس وزراء كيان الاحتلال الأسبق: مناحيم بيغن.
9- عمر المختار: قائد الثورة الليبية ضد المستعمر الإيطالي.
*كاتب سوري