يحق للثورة الروسيّة أن تحتفل بمئويتها كأعظم ثورة في التاريخ البشري الحديث ــ على الأقل من حيث تأثيراتها ومفاعيلها. الثورة التي حدثت عام ١٩١٧ لم تغيّر روسيا والأمة الروسيّة فحسب، بل يمكن الزعم بأنها غيّرت العالم كلّه، وأعطته ثراء تجربة يوتوبية لم يسبق لها مثيل، شكلت أحد أهم التحولات بين مرحلة سقوط نفوذ الامبرياليات الأوروبية، وحقبة صعود الإمبراطوريّة الأميركية المعولمة وما بينهما ــ أي فترة الحرب الباردة. أسالت ثورة ١٩١٧ أطناناً من الحبر المؤدلج ــ سواء في مديحها أو في هجائها ــ من قبل عدد هائل من الكتاب والمؤرخين والمحللين السياسيين، وأنفقت المخابرات المركزيّة الأميركية بالذات ملايين الدولارات في دعم كتاب ومثقفين ومؤرخين معادين للاتحاد السوفياتي في إطار سعيها لشيطنة التجربة الجريئة. وساهمت فترة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بداية تسعينيات القرن الماضي في استعادة الاهتمام بالتأريخ للثورة الروسيّة بالنظر إلى فتح جزئي غير مسبوق لأطنان من وثائق المرحلة من أرشيف الاتحاد الذي انقضى. وهكذا شيئاً فشيئاً، أصبحت تفاصيل ما قبل الثورة وما بعدها ملك التاريخ وحده، يفسرها كما شاء. الاستثناء الوحيد ربما كان قصة القطار الألماني الغامض الذي أقلّ لينين ورفاقه المقربين في نيسان عام ١٩١٧ من منفاهم الاختياري في سويسرا عبر ألمانيا والسويد إلى فنلندا على الحدود الروسيّة. مبغضو الثورة يزعمون أن تلك الرحلة دليل عملي ملموس على أن لينين وقادة الحزب البلشفي لم يكونوا سوى أداة للمخابرات الألمانيّة التي أرهقتها الحرب، وأرادت ـ باستخدام استراتيجيات متنوعة ــ تحقيق اختراق ما على الجبهات يوقفها، وماذا أفضل من إسقاط الدولة القيصريّة على أيدي ثوريين تدعمهم ألمانيا لتحقيق ذلك؟
روت مصادر تاريخية عدة حادثة القطار الغامض تلك، ومن أحدثها مايكل بيرسون (القطار المغلق) وكاثرين مريديل (لينين في القطار) وغيرهما. بحسب هذه المصادر، فإن الألمان في الحرب العالمية الأولى لمّا فشلت مبادرات السلام تجاه روسيا القيصرية - التي هندسها السفير الألماني لدى كوبنهاغن - قرروا تبني استراتيجية تركيع روسيا من خلال تقوية الثوريين اليساريين، وهم من أجل ذلك قدّموا دعماً مالياً سخيّاً للمجموعات الثوريّة عبر شبكة معقدة من العملاء والاختراقات.
لينين وقتها كان يعيش في المنفى السويسري، وقد صدمته أحداث آذار ١٩١٧ التي أطاحت بحكم القياصرة، وقرر العودة إلى روسيا فوراً. لقد كانت تلك بحق لحظة تلاقٍ عبقرية لمصالح الألمان والثوريين الروس معاً. فلينين بحسّه السياسي الرفيع، أدرك أن التحولات على الساحة الروسية جذرية ولها ما بعدها، وهو فيما يبدو استطلع فرص التعاون مع دول أوروبية مختلفة لتساعده في العودة، لكنه لم يحصل سوى على عرض ألماني بالتعاون، قبله لينين بتردد شديد، لأنه كان يخشى من كيفية تفسير تعاونه مع أعداء الأمة الروسية خلال الحرب.
اجتمع لينين، تقول المصادر التاريخيّة، مع ممثلي السفارة الألمانية الذين قدّم لهم الزعيم الثوري الغامض قائمة من المطالب. كان أغرب هذه المطالب بالنسبة إلى الألمان أن لينين اشترط أن يعتبر القطار منطقة ذات سيادة أجنبيّة لا تخضع للسلطات المحليّة الألمانية. وهكذا أراد لينين أن يُمنع إيقاف القطار أو تفتيشه أو مطالبة ركّابه بتقديم أوراق ثبوتيّة، وألا يسمح لأي كان بدخوله من دون إذن مسبق. كان ذلك شططاً في التطلّب، لكن الألمان كانوا يائسين وبحاجة إلى تجربة أي شيء قد يوقف الحرب، فوافقوا على طلبات «الرفيق».
تبدو المصادر حول كيف مضت الأوقات في هذا القطار الغامض ــ الذي سافر ثمانية أيام قبل أن يصل إلى بيتروغراد على الحدود الروسية الفنلندية ــ قليلة للغاية، وتميل إلى أن تكون أقرب إلى تخيّلات روائيين أكثر منها أعمال تاريخية موثقة، لكن بعضها طريفٌ فعلاً. يقال مثلاً إن خطاً من الطبشور الأبيض رُسم على أرضية القطار للفصل بين المنفيين العائدين وبين حرّاسهم الألمان، وأن لينين منع التدخين على متن القطار باستثناء دورة المياه حيث كان الرفاق يصطفون في صف طويل والغضب بادٍ على محياهم وهم بانتظار دورهم. ويتوقع بالطبع أن لينين قضى معظم الوقت على متن القطار في الكتابة والتنظير والنقاش، وإن كان التزم وألزم الجميع معه بجدول للنوم.
قدّم لينين لممثلي السفارة الألمانية قائمة من المطالب

كان الرفيق لينين قد حظي باستقبال حار في بيتروغراد. هو لم يتحدث فقط عن التغيير ــ الذي أراده الروس وقتها بحماسة غريبة ــ وعن إيقاف الحرب الإمبرياليّة العبثيّة، بل أعلن مرحلة تاريخيّة جديدة، وثورة اشتراكيّة ستجتاح العالم. جواسيس الحكومة الانتقاليّة الروسيّة في تلك الأثناء بالذات كانوا قد بدأوا في إطلاق إشاعاتهم بوصف لينين بأنه عميل ألماني، ضمن مناخ بارانويا عام في المجتمع الروسي باتهام المعادين للسلطة المترنحة بالتهمة نفسها، حتى أن راسبوتين ذاته ــ عشيق الإمبراطورة ومستشار القيصر المقرب ــ اتُهم بأنه عميل ألماني أفشل خطط الجيش الروسي، وتسبب في خسائره العديدة خدمةً لأسياده الألمان!
تلك الإشاعات تردد صداها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بحجة الكشف عن وثائق أرشيفيّة (انظر مثلاً ديميتري فولكجونوف) تبيّن لاحقاً عدم وجودها، لكن المؤرخين الجادين ــ بمن فيهم المعادون سياسياً للثورة ــ يقولون إن تلك مجرد تلفيقات مغرضة، ضمن «نفايات» البروبغاندا التي تروّجها مطابخ اليمين، وتستهدف المسّ بالأسس الأخلاقية للثورة الأعظم بوصم قادتها بالعمالة للألمان الذين كانوا رسمياً في حرب على روسيا حينها.
لا شك في أن الألمان حققوا انتصاراً استراتيجياً مرحلياً على الجبهة الروسيّة بسقوط الحكم القيصري وتولي لينين ورفاقه قيادة ديكتاتورية العمال والفلاحين الصاعدة، ولا شكّ أيضاً في أن الألمان أنفقوا بسخاء على ثوار روس كانوا متمركزين في أوروبا خلال فترة الحرب إذ إن الثوريين المطاردين كانوا بحاجة ماسّة إلى الدعم المالي للاستمرار في مواجهة جهاز الأمن القيصري، وربما تسرب بعض تلك الأموال إلى ميزانيّة البلاشفة الثوريّة عبر اختراقات ألمانيّة محتملة. أيضاً تأكد أن جورجي بليخانوف، زعيم الماركسيين الروس تعاون مع البريطانيين، وهو أُرسل للتفاهم مع الحكومة الروسيّة المؤقتة باسم بريطانيا العظمى بغرض استمرار المشاركة الروسيّة في المجهود الحربي ضد ألمانيا، بل ووصف وينستون تشرشل عودة لينين وقتها بأن «ألمانيا عزمت على ترويع روسيا، فقد أطلقت باتجاهها السلاح الأمضى ــ أي لينين». لكن لا دلائل مطلقاً (روسيّة أو ألمانيّة أو غير ذلك) على توظيف مباشر للينين من قبل المخابرات الألمانيّة، أو غيرها؛ وسلوك الرّجل الثوري النقيّ في مرحلة ما بعد الثورة، وندّيته في التفاوض مع الألمان على قطار العودة قبلها، يظهران استقلالاً واعتداداً بالذات لا يتوفر عادةً عند العملاء المأجورين، وهو الأمر الذي توافق عليه المؤرخون الجادون من كل الاتجاهات (انظر كتاب «لينين في القطار» لكاثرين مريديل).
إذاً الرفيق لينين بريء من التهمة بالعمالة للألمان، لكنه مدان بالتأكيد بقيادة أهم ثورات السّياسة في التاريخ البشري على الإطلاق.
* باحث عربي