هنا القطيف والدمام، وهنا الأحساء... وهنا المدينة المنورة أيضاً. التوقيت الآن الساعة الثامنة ليلاً من يوم الأربعاء العاشر من محرم الحرام. تنفّس المراقبون الصعداء بعد أن كانت أنفاسهم محبوسة والأعصاب مشدودة لعشرة أيام مضت تترقب، في أي لحظة، صوتاً مدوياً لحزام ناسف أو زخات من رصاص تتطاير لتحصد أياً من المعزين في الحسينيات ومجالس العزاء المكشوفة في كل زوايا المدن والقرى، وبعض منهم من شدة الازدحام يفترشون الطرقات، فيكونون صيداً سهلاً يسيراً وثميناً لكل من أراد بهم سوءاً.
محرم وما أدراك ما محرم. في بلادي كانت بداية الاستهداف الإرهابي لمأتم العزاء، فكانت الحصيلة في الدالوة ثمانية شهداء، ومثلهم من الجرحى، كان ذلك في التاسع من محرم سنة 1436هـ.
ومحرم الماضي (1437هـ) كانت الحصيلة في سيهات أربعة شهداء، من بينهم بثينة العباد، طالبة طب في مرحلة الامتياز ومثلهم من الجرحى.
وما بينهما كانت القديح والكويت والعنود ونجران وعسير وجدة والمدينة كلها كانت ضحية الإرهاب الأعمى.
عشرات الألوف محتشدةً، ختمت مع غروب شمس الأربعاء مسيرة سلمية، وكان أقصى «عنف» مارسته تلك الألوف، شعارٌ بالحناجر يقول: لبيك يا حسين، وآخر يقول هيهات منا الذلة.
رجال أمن يحيطون بالمنطقة في حزام أمني واقٍ للملاحظة والمراقبة لمنع ما يخلّ بالأمن ودوريات ومصفحات تحمي أغلب مقارّ العزاء، أما الخدمات الأمنية المساندة والمتممة لرجال الأمن فهي السواعد الشبابية الأهلية التي تراقب وترصد الحالات المشبوهة في داخل المآتم، والتي ينظر إليها الأهالي بكل محبة وود واحترام وهم في تنسيق مباشر مع الجهات الأمنية الرسمية لأي حالة شبهة.
كانت القطيف والأحساء إلى ما قبل أربعين عاماً تستورد الخطباء من الخارج، وتحديداً من العراق كالسيد حسين الشامي والسيد مرتضى القزويني في سبعينيات القرن الماضي كان آخرهم. أما اليوم، فالمفارقة تكمن في تصدير الخطباء إلى الخارج، وعلى سبيل المثال لا الحصر الشيخ فوزي السيف إلى المجالس الحسينية في لندن، والسيد منير الخباز إلى الكويت، اللذان يعدان اليوم أبرز الخطباء وغيرهما.
الفعاليات
المرافقة للمجالس توحي لمن يشاهده بأنه ليس
في السعودية

في عاشوراء

الفعاليات المصاحبة للمجالس الحسينية مشهد يوحي لمن يشاهده أنه ليس في المملكة العربية السعودية حيث الوهابية المذهب الرسمي للدولة.
لن أتحدث هنا عن المحاضرات أو ما يطلق عليه القراءة لأنها تحصيل حاصل، ولكن لا شك في أنها تطورت بشكل مقبول ويكفي إلى أن أشير إلى أن هناك لجان تقويم لتلك المحاضرات تعقد بعد انتهاء العشرة الأولى ومفتوحة للعموم، ويلقي فيها جمع من المثقفين والأكاديميين آراءهم وانتقاداتهم ومقترحاتهم لغرض التطوير.
ــ أول ما يمكن أن يلفت الانتباه إلى تلك المناطق لبس الأسود من اللباس، ثوباً وكوفية وقميصاً وبنطالاً، وآلاف الأعلام السوداء والحمراء والخضراء فوق المآتم والبيوت والأزقة والطرقات التي يقصد بقاء الراية الحسينية خفاقة فيها.
ــ المضايف، وهو عبارة عن خيمة شعبية أو مقر مكشوف يقام من متبرعين لتوزيع الحلويات والمرطبات على كل من يستمعون للخطيب وحتى أولئك المارة إلى جانب المجالس الحسينية، وقد أصبحت ظاهرة في كل النواصي.
ــ أما الإطعام، وأعني به توزيع الأرز كما هي العادة في مثل هذه المجالس لدى عموم الشيعة في العالم، فقد أصبح بشكل يصل إلى حدّ الإسراف، وإن كان يوزع حتى على الأجانب، وأعني بهم العمالة الآسيوية المسلمة وغير المسلمة المتناثرة في البلاد.
ــ المراسم واللوحات والمعارض الفنية المتخصصة في واقعة كربلاء هي من أبرز المعاني الحضارية لإبراز واقعة كربلاء بصورتها الأجمل.
ــ معارض الكتاب الشعبية المتخصصة وغير المتخصصة هي الأخرى تنشط في هذا الموسم.
ــ برامج خاصة للناشئة وللأشبال يتعلمون فيها عن واقعة كربلاء وما يناسب أعمارهم وإبراز الشبل القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وعلي الأكبر بن الحسين قدوات وأبطال من الواقعة.
ــ منتديات الشعر الحسيني تزخر منذ سنوات بعد يوم عاشوراء يشارك فيها أدباء رائعون (ملتقى شعراء الطف الذي يقيم ندوته الثامنة عشرة هذا العام هو أبرز المنتديات المتخصصة في هذا الجانب).
ــ من باب الإنصاف وتقديم المشهد كما هو، فإنّ المنطقة ليست منفصلة عمن يعتقدون بالتطبير وغيرها من الطقوس التي يجيزها بعض مراجع الشيعة ويستشكل عليها البعض الآخر.
ــ مسارح وساحات التمثيل هي الأخرى تطورت وتطور معها النص والأداء، وهذه المسارح هي من أبرز الأنشطة الإبداعية، ويتجلى فيها الفن نصاً وتمثيلاً، وتستوعب المئات من الطاقات الشبابية خاصة.
وفي هذا فإن مسرحية مهر الشيطان، وهي عمل فني يُعَدّ له منذ ستة أشهر يزدحم فيه الحضور الرجالي والنسائي على انفراد.
ــ مراكز التبرع بالدم حيث تنشط بنوك الدم بالمتبرعين وتقوم بعض المستشفيات بوضع سيارات متنقلة للتبرع. هذه المبادرة يعتبرها البعض بديلاً لعملية التطبير وشق الرؤوس وإسالة الدم، وهي في حالة تطور، وهنالك إقبال ملحوظ عليها في القطيف والبحرين خاصة.
على الرغم من حالة الاحتقان الطائفي التي ربما حصدت مزيداً من النقاط في بلادنا على غيرها، إلا أنّ زواراً من السنّة المعتدلين حضروا المجالس وشاركوا بكلمات لاقت الاستحسان والترحيب، كان من أبرزها زيارة الشيخ عبد الرحمن المحرج (سلفي نجدي معتدل) ومعه آخرون.
قدّر أحد المتابعين أن عدد المحاضرات التي ألقيت في الموسم بـ19000 محاضرة في القطيف ومثلها أو أكثر في الأحساء، ولا يوجد إحصاء أو إشعار بعدد المحاضرات في المدينة المنورة والدمام، إلا أن المحصلة النهائية بالتأكيد يفوق 50000 محاضرة يلقي فيها كل الخطباء بمختلف انتماءاتهم الفكرية والثقافية للمدارس والمشارب داخل البيت الشيعي.
* ناشط سياسي سعودي