توقُ المعارضة
إلى أداء دور أكبر في الإقليم يتعارض مع
خفّة بعض قواها السياسية
إدارة التعقيدات الإقليمية
لا تبدو الدولة المصرية معنية حالياً باعتبارات تتجاوز هذا التعريف "الضيق" لمفهوم الأمن القومي المصري. والحال أنها تُولي الأمر اهتماماً كبيراً وتعتبره أولوية في صياغة السياسات الخارجية، وحين تفعل ذلك لا تُبالي كثيراً بالتناقضات التي تعتريه ــ وهي كثيرة ــ ولا تبدو مضطرّة في ضوء هذه "اللامبالاة" إلى إيضاح الآلية التي تجعلها تتقاطع إقليمياً مع قوى متعارضة جداً في المصالح مثل السعودية وروسيا وقوّات خليفة حفتر في ليبيا والسلطة والمعارضة السوريتين و... الخ. بالنسبة إليها، هذه ليست تناقضات، فما يجمعها مع السلطة والمعارضة السلمية السوريتين هو ذاته الذي يضع تحالفها مع السعودية في سياق موضعي خارج المسألة السورية، وتحديداً في ما يتعلّق بأمن الخليج. هنا أيضاً لا يكون التقاطع مع السعودية كاملاً، فالاصطفاف إلى جانبها سياسياً في الحرب ضدّ اليمن لا يعني بالضرورة زجّ الجيش المصري في العمل العسكري، بل الاكتفاء بحضور رمزي للقطعات البحرية المصرية، وفي أماكن تكون قريبة من الحدود البحرية لمصر، بحيث تصبح المهمّة دفاعية بحتة، ولا تصبّ بالتالي في مصلحة الاستراتيجية السعودية التي تريد من مصر انخراطاً كاملاً وغير مشروط في الحرب. في النهاية، ما يعيّن هذه التحالفات ويضع حدوداً لها هو مصلحة الدولة المصرية التي يشرف الجيش على إدارتها مباشرةً منذ تدخّله في 30 يونيو ضدّ حكم الإخوان. هذه المصلحة لا تقتضي تدخّلاً مباشراً في المسألة السورية وترى أنّ الدور المصري هناك ــ على رمزيته ــ لا يجب أن يكون رديفاً للدور الخليجي، بل على العكس، يجب عليه القيام بجهود لدعم التسوية السلمية التي تحفظ مصالح الأطراف كافّة وأدوارها، بحيث يكون بقاء الدولة السورية والحفاظ على كيانها ومؤسّساتها وجغرافيتها الحالية هو المدخل للفرز بين القوى التي تريد تحطيمها وإنهاء دورها وكيانها وتلك التي تسعى إلى الحفاظ عليها عبر تفعيل تلك المؤسّسات وإعادة إنتاج النظام السياسي الذي يحكمها. التباعد مع السعودية هنا أفضى إلى تقاطُعٍ كبير مع روسيا التي أوكَلَت إلى مصر لاحقاً مهمّة التنسيق مع قوىً معارِضة (منصّة القاهرة) سيكون لها وظيفة أساسية في البحث عن مخارج للأزمة حين يحين دور تفعيل العمل السياسي التفاوضي مجدداً. من جهة أخرى، انّ هذا التقاطع لا يلقى اعتراضات كبيرة من السعودية عندما ينتقل إلى القاهرة، لا بل تبدو السعودية مرتاحة لهذا التقارب حين ينحصر في المحيط الإقليمي المباشر لمصر، وهو ما يفسّر أيضاً اختلاف موقفها من مصر في ليبيا عنه في سوريا. الدولة في مصر تعي تماماً كلّ هذه التناقضات، وتديرها انطلاقاً من فهمها للمصلحة التي يمليها الأمن القومي لها، ولكن ذلك لا ينعكس كما يجب على المشهد الداخلي، ولا يجري التشاور بشأنه مع الآخرين داخل مصر، بحيث تبقى صناعته من حصّة المؤسسة العسكرية التي أصبحت تنفرد أكثر فأكثر بصياغة السياسات وفرضها لاحقاً على المصريين عبر المؤسّسات المُنتَخبة الموالية بالكامل لها.
قلّة نضج المعارضة
المعارضة المصرية في المقابل (وخصوصاً اليسارية والناصرية منها) تملك تصوّرات أفضل عن المشهد الإقليمي، ولكنها تفتقر إلى الأدوات التي تضع هذه التصوّرات في سياق سياسي يمكن المراهنة عليه. وهذا الافتقار لا يعود إلى تضييق السلطة عليها وحرمانها الحضور في المشهد السياسي المصري فحسب، بل أيضاً إلى عجز تنظيمي قديم مصحوب بقلّة دراية كبيرة بطبيعة المجتمع المصري الذي يحتاج تحريكه إلى عمل تنظيمي طويل ودؤوب لا إلى خفّة ومراهقة سياسية كتلك التي صَدَرت عن الثوريين المصريين عقب انتهاء الموجة الأولى من الثورة. تَوقُ المعارضة إلى لعب دور أكبر في الإقليم يتعارض مع خفّة بعض قواها السياسية في التعامل مع المشهد المصري المركّب والبالغ التعقيد، وثمة شكّ في أنها ستستطيع في حال وصولها إلى السلطة إدارة سياسات مصر الخارجية بأفضل ممّا تفعله السلطة الآن. فافتقارها إلى الأدوات لا ينسحب على التصوّرات التي تبقى موجودة، ولكن يُخشى طبعاً أن تُطبّق كما طُبّقت في الداخل وتفضي إلى نتائج كتلك التي أفضت إلى استعداء غالبية المصريين عليها. هذا لا يعني انعدام الخيارات أو انحصارها في مربّع ما تريده الدولة أو يريده الجيش، ولكن في المقابل على المعارضة إذا ما أرادت الاستفادة من مأزق السلطة الاقتصادي الحالي الدفع ببدائلها. وهو ما تملك فعله داخلياً عبر التحشيد في انتظار ظروف أفضل للمشاركة في الانتخابات، وبالتالي الحصول على كتلة شعبية تمكّنها مبدئياً من انتزاع مشارَكة يمكن على أساسها الوصول جزئياً إلى السلطة، والشروع في تغيير السياسة الخارجية المصرية، ووضع أولويات مختلفة لها، بحيث تصبح متطابقة أكثر مع مصالح المصريين وباقي شعوب المنطقة. ولكن حتى ذلك الحين ستظلّ السياسة الخارجية المصرية تُصنع بمعزل عن الإرادة الكاملة للمصريين، ووفقاً لما تعتقد المؤسّسة العسكرية أنه الأنسب للدولة المصرية ومصلحتها العليا. وهي على أيّ حال أفضل بكثير من سياسة دول الخليج، ويمكن مع إضفاء بعض التعديلات عليها ــ في ما خصّ اليمن تحديداً ــ جعلها أقلّ انحيازاً إلى السياسة الأميركية وأكثر قرباً مما تريده غالبية ضحاياها.
* كاتب سوري