لا ريب في أهميّة الخطاب الحسيني ودوره في بناء الوعي العام والثقافة المجتمعية في شتى المجالات، باعتبار أن هذا الخطاب يلقى انتشاراً كبيراً، سواءً في المواسم العاشورائيّة أم في غيرها من المناسبات المختلفة طوال العام، إذ تجد عناية خاصة به في المنتديات الحسينيّة وفي غيرها من الأماكن، وفي القنوات التلفزيونيّة، بل في مختلف وسائل الإعلام الدّينيّة وغير الدّينيّة، حيث تلحظ إقبالاً عاماً وتفاعلاً كبيراً من قبل عامّة النّاس مع هذا الخطاب ومنتدياته ومناسباته. وهذا ما يستدعي التّأمل والبحث الدائمين في هذا الخطاب بهدف تجديده وتطويره، بما ينسجم مع أهداف ثورة الحسين وقيمها، والمبادئ التي قامت من أجلها.ومن هنا نجد من الأهميّة بمكان البحث في أهم تلك المقومات أو الميزات، التي ينبغي أن يراعيها الخطاب الحسيني، وينبني على أساسها، حتى يتسنّى له أن يقوم بدوره بشكل أفضل، وأن يؤدي إلى مقاصده بالطّريقة الأمثل، التي تحقّق أهدافه التّربويّة والاجتماعيّة والثّقافيّة وغيرها، في بناء الإنسان ووعيه، والمجتمعات وثقافتها، وفي تحقيق الإصلاح وإقامة العدالة.
وقبل البحث في أهمّ تلك المقوّمات والميزات، التي ينبغي أن ينبني عليها ذلك الخطاب، لا بد من الإشارة إلى أن المراد بالخطاب الحسيني هو مجمل ذلك البيان الذي يرتبط بالإمام الحسين (ع) وثورته، ويكون موضوعه أحداث تلك الثّورة وسيرتها، ودلالاتها، وفلسفتها، ونتائجها، وقيمها، ورسالتها، والمبادئ التي ترتكز عليها، بل والمدرسة التي تنتمي إليها.
مشكلة أغلب مجتمعاتنا تكمن في كونها تجهل الكثير من تراث أهل البيت

أما أهم تلك المقومات، أوالميزات، التي ينبغي أن تراعى في بناء الخطاب الحسيني وتشكيله، فهي ما يلي:
1- فضائليّة الخطاب وتكامليته: المراد بفضائليّة الخطاب أو الخطاب الفضائلي، هو ذلك الخطاب الذي يتمحور حول فضائل أهل البيت (ع) ومناقبهم. ومن المعلوم أهميّة هذا البعد الفضائلي، الذي يعرف بأهل البيت ومقامهم، ومراتبهم وجملة من خصائصهم... وهو يعبّر عما جاء في تراث أهل البيت من أحاديث تؤكد على هذا الجانب من فضائلهم، وهو مما لا شكّ فيه وفي جدوائيته، ومطلوبية العناية به.
لكن ما ينبغي الإشارة إليه، هو أن هذا البعد الفضائلي أو المناقبي، الذي يؤكّد على أفضليّتهم وتقدّمهم على غيرهم، وأنّهم يمثّلون المرجعيّة الدّينية والمعنويّة والسياسيّة بعد رسول الله (ص)؛ إنما جاء ليقول للنّاس إلى أين يجب أن ترجع في دينها، وأخلاقها، وسلوكها، ومعارفها، وقيمها وبناء مجتمعاتها... من أجل أن تأخذ منهم كلّ ذلك، وتستمدّ من تراثهم كل ما تحتاج إليه، في ثقافتها، واجتماعها، وسياستها، وتربيتها، وحياتها المعنويّة والدينيّة.
أي إنّ القضيّة هنا تحتوي على شطرين: الأوّل هو من يجب أن نرجع إليه؟ وهو ما يتولّاه البعد الفضائلي والمناقبي. والثّاني هو ما الذي يجب أن نأخذه ممن نرجع اليه، وما الذي ينبغي أن نتعلّمه منه، لنتعرّف عليه، ونعمل به؟ وهو ما يتولّاه التّعريف بعلوم أهل البيت، وأخلاقهم، ومحاسن كلامهم، ومعارفهم، ومجمل ما يتصل بهم... والاقتصار هنا على الشّطر الأوّل، لا يوصل إلى المقصود. لأنه إذا كان المطلوب أن نعرف عمن يجب أن نأخذ، فذاك من أجل أن نأخذ عنه، ونعمل به. أما إذا علمنا عمن نأخذ معالم ديننا ومن أين نأخذ معارفنا وأخلاقنا؛ لكنّنا لم نأخذها، ولم نتعلّمها، ولم نعمل بها؛ فما الذي نكون قد فعلناه؟ ألا يكون حالنا كحال من علم من أين ينبع الماء الزلال، لكنّه لم يذهب إلى ذلك النّبع، ولم يستقِ منه، ولم يرتوِ من عذب مائه، شراباً سائغاً روياً؟ ألا يمكن القول إن مشكلة أغلب مجتمعاتنا، ليس في كونها لا تقرّ بمرجعيّة أهل البيت في دينها، وأخلاقها، وقيمها، وسلوكها ... بل تكمن المشكلة في كونها تجهل الكثير من تراثهم، ولا تعلم الكثير من قيمهم وأخلاقهم، ولا تفقه الكثير من محاسن كلامهم، وغاب عنها الكثير من علومهم وفكرهم وثقافتهم؟ أليس هذا هو جوهر المشكلة التي نعيش؟ وعليه، هل يصحّ الاكتفاء بتعريف الناس من أين يأخذون ثقافتهم، دون التعريف بتلك الثّقافة ومحتواها؟
وهل من الحكمة تعريف النّاس من أين يأخذون أخلاقهم وقيمهم، دون التّعريف بتلك الأخلاق، وتلك القيم؟ وهل من الصحيح تعريف الناس من أين يأخذون معالم دينهم، دون تعريفهم بتلك المعالم، والمعارف والسنن؟
نعم ربما يحتاج ظرف ما إلى التأكيد أو الاقتصار على البعد الفضائلي والمناقبي، لأسباب ومبررات عديدة ــ قد يخرجنا الخوض فيها عن حدود هذا البحث ــ وهذا صحيح، لكن ما ينبغي التّأكيد عليه، هو ضرورة أن نتناول البعد الفضائلي بشكل هادف، وألا نتناوله بشكل منفصم عن أهدافه ومقاصده. كما ينبغي التأكيد على أن تعليم الناس محاسن كلام أهل البيت ومعارفهم، يساعد أيضاً في إثبات مرجعيّتهم. مثلما أن إثبات تلك المرجعيّة، يدعو إلى الأخذ عنهم، وتعلّم علومهم، والاستنان بسنّتهم.
2- تاريخيّة الخطاب ومعاصرته: من الواضح أن جانباً من موضوع الخطاب الحسيني، هو ما حصل مع الإمام الحسين وخروجه، وصولاً إلى شهادته. وهذا قد حصل في التّاريخ، فمن الطّبيعي أن يكون هناك بعد تاريخي في الخطاب الحسيني. لكن ما ينبغي التّأكيد عليه، هو أن أهداف ثورة الإمام الحسين وقيمها، ورسالتها، وجميع دروسها؛ هي مفاهيم وقيم تتعدّى الماضي إلى الحاضر، وتتجاوز التّاريخ إلى المستقبل. بل هي في مدياتها متعالية على الزمان والمكان والحدود. ومن هنا ينبغي أن يكون ذلك الخطاب متضمّناً لذلك البعد المعاصر، غير مقتصر على الماضي، وشاملاً لذلك البعد الحاضر، غير مكتفٍ بالتّاريخ. بل ينبغي في ذلك الخطاب الوصل بين الماضي والحاضر، بين التّاريخ والمستقبل. وذلك بأن يتمّ تناول الوقائع التاريخيّة بشكل هادف، يصل بينها وبين الحاضر، من خلال جسور القيم والأهداف. أي إنّ أهداف ثورة الحسين وقيمها ورسالتها، ينبغي أن تلعب ذلك الدور الذي يربط بين ما حصل في التّاريخ مع الإمام الحسين وأئمّة أهل البيت، وبين ما يحصل اليوم في عصرنا ودهرنا. وهذا الوصل يجب أن يكون وصلاً هادفاً إلى تحفيز الالتزام بتلك القيم، والعمل بتلك الرّسالة، وتحقيق تلك الأهداف، من خلال الاستعانة بأحداث التّاريخ، وما حصل في الماضي. أما تناول أحداث التّاريخ بشكل منفصم عن الحاضر، والاستغراق في الماضي دون ربطه مع الحاضر، فعدا عن كونه قد يبني ثقافة منفصمة عن حاضرها وغريبة عنه، هو يتجاهل أهداف الثّورة الحسينيّة، ويهمل قيمها، ويتجاوز رسالتها. فضلاً عن أنّه يعطّل دور الخطاب الحسيني، ويبعده عن مقاصده التي يسعى لتحقيقها.
من هنا، يجب التأكيد على أن تناول البعد التاريخي ينبغي أن يكون فعلاً هادفاً. وأنّه بمقدار ما يحقّق تلك الأهداف والمقاصد، في زرع القيم، وتثمير العبر؛ بمقدار ما يكون ناجحاً في دوره، ووظيفته. وإلا فإنّ عجزه عن تحقيق أي من تلك الأهداف والمقاصد، سوف يجعل منه موضوعاً تاريخيّاً بحتاً بعيداً عن أهداف ثورة الحسين، وغريباً عنها وعن رسالتها.
ربما يجد المرء إمتاعاً خاصاً في تناول الموضوعات التاريخيّة، بل وتحقيقاً لجملة من الفوائد ــ وهذا صحيح ــ لكن ما لا ينبغي إغفاله، هو أن تناول تلك الموضوعات يجب أن يكون منتظماً في سياق الخطاب الحسيني، وأهدافه، وميزاته، ومقوّماته، وجميع وظائفه.
3- العاطفة والفكر: أو ما يتمّ البحث فيه تحت عنوان العِبرة والعَبرة، أو الدّمعة والفكرة، أو القلب والعقل...؛ والمراد البحث في البعدين العاطفي والفكري في الخطاب الحسيني، وطبيعة العلاقة بينهما.
بداية لا بدّ من الإقرار بأن البعد العاطفي والوجداني هو بعد حاضر بقوّة في الخطاب الحسيني، بل وفي القيم الحسينيّة المؤسّسة لذاك الخطاب. وهو يقوم بأكثر من دور من خلال تموضعه في ذاك الخطاب ومطاويه:
أولاً: هو يحفر عميقاً في القلوب محبّة الإمام الحسين ومودّته، ومودّة أهل البيت.
ثانياً: يستثير مشاعر التّعاطف مع مظلوميّة الحسين وأهله.
ثالثاً: يستولد النّقمة على المشروع الذي قتل الحسين ورموزه، ورجاله.
رابعاً: يعد النفوس لتلقف قيم الثورة الحسينية، ومعانيها ورسالتها.
خامسا: يهيئ القلوب لتقبل جميع المعاني الدينية والعمل بها.
وبالتالي، لا بد من القول إنه لا غنى عن هذا البعد العاطفي والوجداني في الخطاب الحسيني، لكن ما يجب التأكيد عليه، هو أن هذا البعد العاطفي هو بعد هادف في جملة من مقاصده، وهو ما يتطلب الوصل بين ذلك البعد والأهداف التي يسعى اليها، وعدم الاكتفاء بإشباع البعد الوجداني، دون الالتفات الى المقاصد التي ينبغي الوصول اليها.
فإذا كنا نرى أن من وظائف الخطاب الحسيني زرع القيم الدينية الأصيلة في النفوس، وإذا كان البعد العاطفي يسهم في تهيئة تلك النفوس لتقبل تلك القيم والعمل بها، فهل سوف يكون من الصحيح أن نعمل على تهيئة تلك النفوس، من دون الاستفادة من تلك الفرصة، لزرع القيم الصالحة والهادفة فيها؟ ألا يكون حالنا عندها، كمن هيأ أرضاً للزراعة، وبذل جهداً في إعداد تربتها، لكنه لم يزرع البذور المنتجة، ولم يغرس فيها الأشجار المثمرة؟
إن المطلوب بيانه في هذه المعالجة، هو التأكيد على إيجاد التكامل في الخطاب الحسيني بين العاطفة والفكر، أي بين الدمعة والفكرة، بأن ندرك بأنهما معاً يؤديان أكثر من دور في تحقيق أهداف ومقاصد ذلك الخطاب، و بأن لكل منهما فعله وأثره، الذي ــ وإن كان يتكامل مع الآخر ــ قد يختلف منسوبه، والجرعة المطلوبة منه، تبعاً لظروف الزمان والمكان، وخصوصية المخاطب والمتلقي. مع التأكيد على أن يبقى الخطاب مشدوداً إلى الجانب الهادف فيهما، وما قد يقتضيه ذلك من مقاربة كل منهما، وكيفية تناوله، أو تكامله مع الآخر.
4- الواقع أم الانفصام عنه:
لقد بينّا أن الخطاب الحسيني، يهدف إلى تحقيق قيم الثورة الحسينيّة ومقاصدها، في الإصلاح، والعدالة، ومواجهة الظّلم والفساد... وعليه سوف يكون من الطبيعي أن يسعى إلى تحقيق تلك القيم ومقاصدها في الواقع الذي يتوجّه إليه، ويتفاعل معه. وأن يعمل على الوصول إلى أهدافه، في المجتمعات التي يقصدها ويخاطبها، وتتلقّى هي مضمونه ومحتواه.
وهذه المجتمعات قد تختلف من ناحية طبيعتها، وظروفها، وأزماتها، ومشاكلها، أو طبيعة الفساد والانحراف الذي تعاني منه. فلربّما تجد بعض المجتمعات تعاني من الفساد الاقتصادي أو المالي، وأنّه يمثّل جوهر المشكلة التي ترضخ تحت ثقلها. وعليه سوف يكون من المنطقي جداً أن يتوجّه الخطاب الإصلاحي إلى معالجة تلك المشكلة بالدّرجة الأولى، بأن يغلب عليه التّركيز على الإصلاح المالي والاقتصادي، وأن يسعى إلى حشد المفاهيم التي تشدد على مواجهة الفساد في جانبه المالي والاقتصادي.
ولربّما تجد مجتمعات أخرى تعاني من الفساد القيمي والأخلاقي، أو من الفساد السياسي، أو من الفساد الإداري والمؤسساتي. فسوف يكون عندها من الطبيعي، أن يتوجّه ذلك الخطاب بشكل أساس إلى مواجهة ذلك الفساد المستشري في تلك المجالات والميادين المذكورة. ولربّما تجد مجتمعات تعاني بشكل أساس من غياب العدالة الاجتماعيّة، أو العدالة الاقتصاديّة، أو العدالة في توزيع الفرص والثروات والأموال، أو العدالة السياسيّة، وأن الظّلم (اللاعدالة) قد استشرى بشكل أكبر في هذا الجانب من الحياة الاجتماعيّة أو ذاك؛ فهنا، سيكون من الطّبيعي جدّاً أن يتوجّه الخطاب الحسيني إلى مواجهة طبيعة الأزمة أو المشكلة كما هي عليه في المجتمع، فإن كان الغالب عليه مشكلة اللاعدالة الاجتماعيّة، فينبغي أن يركّز عليها. وإن كان الغالب عليه اللاعدالة السياسيّة، أو اللاعدالة في توزيع الفرص والثّروات، فينبغي التّأكيد عليها في ذاك الخطاب. وكذلك الأمر بالنّسبة إلى بقيّة مجالات الظّلم واللاعدالة.
وهو ما يتطلّب معرفة كافية بالواقع المعاش وظروفه، وطبيعة مشكلاته، وأخطر عوارض الفساد أو الظّلم التي تتهدّده وتنهش فيه، حتّى يكون معلوماً كيف يجب أن يبنى ذلك الخطاب، وأهم المفاهيم التي يجب أن تودع فيه، وأين تكمن أولويّاته، وما هي أولى مواطن استهدافه... ليكون ذلك الخطاب خطاباً هادفاً في مضمونه، جادّاً في مقاصده، ساعياً بحكمة إلى تحقيق قيمه، مريداً بوعي بلوغ أهدافه وغاياته. وحتّى لا يكون منفصماً عن الواقع ومشكلاته، أو غريباً عن المجتمع وأزماته. إن ما يجب قوله في هذا المورد، هو إنّه لا يوجد أولى من الخطاب الحسيني، ليعنى بتلك المشكلات. ولا يوجد أجدر وأقدر من ذاك الخطاب على مواجهة تلك الأزمات. أما أن نبقى نتحدّث في الإصلاح الذي خرج من أجله الإمام الحسين في التّاريخ، ثم نتغافل عن تحقيق الإصلاح في مجتمعنا المعاصر، فهذا يعني تعطيلاً للخطاب الحسيني عن دوره وغاياته، وجوهر وظائفه.
أن نشرح جميع أوجه الفساد الذي ثار لمواجهته الإمام الحسين، ثم نتجاهل الفساد الذي ينخر مجتمعاتنا ومؤسّساتنا وأنظمتنا السياسيّة؛ فهذا نوع من الإقصاء الذي يمارس بحقّ الخطاب الحسيني عن وظيفته وأهدافه.
أن نبحث في اللاعدالة أو الظّلم الذي استشهد في سبيل مواجهته الحسين، ثم نتعامى عن الظّلم أو اللاعدالة الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة أو الماليّة أو السياسيّة التي تعاني منها مجتمعاتنا، فهذا يعني إسقاط نوع من الغربة على هذا الخطاب عن مقاصده، وقيمه، ورسالته، التي استشهد من أجلها الإمام الحسين، وقصد إيصالها بدمّه وشهادته.
قد يقال إن في ذلك إقحاماً لخطاب ديني يتميّز بقداسته في شؤون دنيويّة، وفي قضايا السياسة والاجتماع، وما يمكن أن يترتّب على ذلك من محاذير. في الجواب ينبغي القول: إن في ذلك توجيهاً للخطاب الحسيني ليؤدّي وظيفته، التي ينبغي أن يؤدّيها، ولا يصح لأي تبرير أن يخرج الخطاب عن وظيفته ودوره. لكنّه عندما يؤدّي الخطاب تلك الوظيفة، فينبغي أن يكون ذلك بمنتهى الحكمة، والوعي والرّشد، والدّراية بظروف الزّمان والمكان، وخصوصيّات المجتمع وأزماته، وطبيعة الأولويّات. وأن يبقى ذلك الخطاب تعبيراً صادقاً عن تلك القيم الحسينيّة، وترجمة وافية لأهداف ثورة الحسين ورسالته.
أما الحديث عن القداسة، فأيّ قداسة هي تلك القداسة التي تهمل شؤون الناس وآلامهم، وآمالهم، ومشاكلهم وأزماتهم. وإذا لم تعمل القداسة على تطهير المجتمع من الفساد والظّلم واللاعدالة... فما الفائدة منها؟ ومتى يحين دورها؟ وأين هي وظيفتها؟ أو ليس من دروس كربلاء أن الحسين، قد خرج بقداسته إلى ميدان المواجهة، ليواجه الظّلم والفساد، واستشهد هو وأهله وأصحابه في طريق العدل والإصلاح؟
5- رساليّة الخطاب وقدرته التّعبيريّة:
من الواضح أن للخطاب الحسيني قيمه وأهدافه ورسالته... مثله مثل أي خطاب آخر. لكن ما يميّز الخطاب الحسيني أن موضوعه هو الإمام الحسين وثورته ورسالته، والمدرسة التي ينتمي إليها، ويعبّر عنها. ومن هنا ينبغي أن يكون الخطاب الحسيني بمستوى موضوعه. أي أن يكون ــ ما أمكن إلى ذلك سبيلاً ــ تعبيراً صادقاً عن ثورة الحسين وأهدافها ورسالتها. بل أن يكون تعبيراً وافياً عن مدرسة أهل البيت وقيمها ومبادئها، ووسيلة ناجحة في بيان علومها، وأخلاقها، وما يمكن أن تقدّمه للإنسان والإنسانيّة.
ما يجب قوله هنا، هو إن المبدأ الأساس في بناء الخطاب الحسيني يتمحور حول هذا السؤال: كيف ينبغي أن نعمل حتى يكون ذلك الخطاب تعبيراً صادقاً عن قيم الثّورة الحسينيّة وأهدافها، بل تعبيراً وافياً عن مدرسة أهل البيت، ورسالتها ومعارفها؟
إن ما ينبغي طرحه هنا هو: هل من الصحيح أن يكون الخطاب بحجم واقعة، أم يجب أن يكون بمستوى رسالة؟
هل من الصحيح أن يكون الخطاب مجرّد تعبير عن مظلوميّة، أم ينبغي أن يكون تعبيراً عن مدرسة في جميع قيمها، ودروسها، وعبرها؟
هل من الصّحيح أن يكون الخطاب مجرّد حاكٍ عن حدث أو راوٍ لسيرة، أم ينبغي أن يحكي أيضاً عن أهداف الخروج، ويروي مقاصد السيرة وغاياتها، وما قبلها وبعدها؟
ما ينبغي الالتفات إليه هو أن تناول الواقعة والحدث، أو المظلوميّة والسيرة، وذاك الزّمان وذاك المكان؛ كل ذلك ينبغي أن يكون في سياق التّعبير عن تلك المدرسة ورسالتها، وسمو قيمها، ورفعة أهدافها، وعظمة مبادئها وأخلاقها... وإلا فإننا نمارس عمليّة تحجيم لثورة الحسين، عندما نختزلها في واقعة، أو نحبسها في يوم، أو نفصلها عن معانيها ودلالاتها.
إن نجاح الخطاب الحسيني يقاس في مدى قدرته على التّعبير عن قيم الثورة الحسينيّة وأهدافها. فبمقدار ما يكون معبراً عن تلك القيم والأهداف، بمقدار ما يكون ناجحاً. وبمقدار ما يسمو إلى رسالة الحسين ومقاصد ثورته، بمقدار ما يحمل قوته، ويستبطن صدقه ومصداقيّته. وبمقدار ما يستطيع أن يتوجه الى الأزمات والقضايا المعني بها في المجتمع من أجل علاجها، والعمل على تغيير تلك المجتمعات نحو الأفضل في مختلف المجالات والميادين، بمقدار ما يكون هادفاً. وبمقدار ما يمتلك من المعرفة بقيم الثورة وأهدافها من جهة، ودراية بالواقع وظروف زمانه ومكانه من جهة أخرى، بمقدار ما يحسن الوصل ما بين تلك القيم والأهداف، وما بين الواقع ومشاكله وتعقيداته، شرط أن يقوم ذلك الوصل على أساس من الحكمة، والوعي، وحسن البناء، والبيان، والتوظيف.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية