يبدو أن تحرير مدينة الموصل من قبضة تنظيم «داعش»، لم يكن يحتاج إلى سنوات طويلة من الإعداد والتخطيط ثم التنفيذ، كما دأب عدد من موظّفي البيت الأبيض والخارجية الأميركية والبنتاغون على التصريح عقب السقوط المريب والغريب للمدينة في أيدي التنظيم سنة 2014. ولا إلى تحديد مواعيد عاجلة كما جاء على لسان أكثر من موظف أميركي في الأشهر التي تلت السقوط. بل كل ما أحتاجه الأمر دائماً، هو أن يتمّ «داعش» مهمته في المنطقة على أفضل وجه ممكن.في تقرير نشرَته قبل أيام، طرحت صحيفة «ذي غارديان» البريطانية تساؤلات عدة غير بريئة حول ما أسمته «تبعات تحرير الموصل على أيدي القوات العراقية». انطلق التحليل الاستفهامي حول مستقبل المدينة، من البوابة الطائفية، إذ «كيف سيتعامل الجيش الحكومي العراقي الذي يهيمن عليه أبناء الطائفة الشيعية مع مليون مواطن غالبيتهم منَ السُنّة»، يقبعون تحت حكم «داعش» منذ سنتين، وهل بإمكان هذا الجيش أن يستعيد ثقة هؤلاء، وإعادة النظام وإرساء حكم القانون؟ بل كيف ستتعامل الحكومة العراقية مع أبناء المدينة المليون، أبمنطق المواطَنَة؟ هل ستؤمّن لهم الأعمال والأشغال والحقوق؟ أم أن المدينة وأهلها سيتعرضون لقصف انتقاميّ قد يقتل الآلاف منهم ويُسوّي معظم المدينة بالأرض؟ يقول مسؤول أمني عراقي ــ لم تُسمّه الصحيفة ــ إن عمليات تحرير المدينة يجب أن تستغرق أشهراً طويلة، تفادياً للدمار وما سيُخلّفه من بطالة هائلة بين الناجين، ونقمة عارمة قد تُشكّل «بيئة حاضنة لنسخة أكثر وحشيّة من داعش».
ثمة أسباب كثيرة ضغطت وتضغط مؤخراً على الإدارة الأميركية، للموافقة على تحديد «ساعة صفر» قريبة جدّاً، للبدء بعملية التحرير. من هذه الأسباب ما يتصل بوضع أميركا وحلفاؤها في سوريا، فالمواجهة مع روسيا وقوى «محور المقاومة» هناك، وصلت إلى نقطة انفجار الأرض في وجه «الأصيل». فالقتال بالأتباع والأدوات استنفذ جل خياراته في حلب وريفها، ودخول أميركا في حرب مباشرة مع أعدائها هناك، دونه عقبات كثيرة، برغم الحديث الدائر عن الاستعدادات، وتسريب تقارير عن خطط دقيقة جاهزة لهجوم وشيك على مقار الجيش الوطني ومؤسسات الحكومة السورية بهدف إسقاط النظام بالقوة «الناتويّة». بيد أن أعلى جبل المخطط الأميركي للشرق السوري تبدّى في ضرب طائرات أميركا وحلف «شمالي الأطلسي» لمواقع الجيش السوري في «جبل الثردة» في دير الزور، بهدف إخلاء المنطقة بدءاً من دير الزور والرقة
إلى ريف تدمر وبادية الشام المتاخمة للحدود العراقية، أمام مجموعات «داعش» المنتشرة هناك وتلك التي سيُسمَح لها بالهرب من الموصل وجوارها، وبالتالي إغراق الجيش السوري وحلفائه الروس والإيرانيين وقوى المقاومة في حرب استنزاف طويلة مع التنظيم الإرهابي وفلول الفصائل التي ستهرب إليه لاحقاً من حلب وريفها والحسكة ومناطق سيطرة القوى الكردية. ستُحقق أميركا من هذا نتائج عدة توائِم مخططها، لعل أبرزها، قطع طريق محور إيران ـ العراق ـ سوريا ـ المقاومة اللبنانية، بحاجز تكفيريّ يرى في هؤلاء أعداء وجوديين. ثم تظهير الأمر بأعلى قدر من صرخة المظلوميّة الطائفية، حيث «سُنّة» يُقتَلون بنيران شيعة وروس وعلويين، وسيتكفل إعلام أنظمة الخليج بزيادة عدد ساعات بث التحريض والبكاء على «غيرة الدين».
معركة الموصل تمتد من إدلب حتى قلب بغداد

يقابل هذا على الجانب العراقي، الضغط الميداني الذي تمارسه قوى المقاومة الوطنية العراقية من خلال انتصاراتها المتلاحقة على الأرض، وهزيمتها للتنظيم الإرهابي وتحريرها للمناطق تباعاً ودحر «داعش» باتجاه معاقله الأخيرة في الموصل وحولها. ولعلّ تجربة «الحشد الشعبي» العراقي المدعوم إيرانياً، والمتكامل استراتيجيّاً مع رفاقه على المقلب السوري، هي أكثر ما أزعج أميركا و قضّ مضجعها هناك، وجعلها تستعجل محاولة كتابة الفصل الأخير من كتاب الرعب الداعشي العراقي الذي خطّت بنفسها مقدمته، كي تقوم بوضع اللمسات الأخيرة التي تُظهِّر من خلالها مخططها الجغرافي والديموغرافي للمنطقة. إذاً، السؤال الجوهري هنا، لا يتوقف عند عملية التحرير ذاتها، بل حول ما سيحدث بعدها.
يصرّ الأميركيون ومن خلفهم الأتراك وحاكم إقليم كردستان، على رفض مشاركة «الحشد الشعبي» العراقي في معركة تحرير الموصل. وتتواصل تصريحاتهم التي
تلتقي كلها عند هدف التقسيم الطائفي، محذّرة من قدوم «الميليشيات الشيعية» إلى «أرض السُنَّة». فالرئيس التركي قرر أنه لن يسمح «بأية سيادة طائفية في الموصل»، وأردف شارحاً مقصده بالقول إنه «يجب ألا يدخل الحشد الشعبي إلى الموصل»، وإن الجموع التي درّبها جيشه في معسكر «بعشيقة» المحتل، والتي جمعها له النّجيفي والهاشمي وتركمان العراق وينتمي جلها إلى مكوّن طائفي واحد، هي من يقع على عاتقها تحرير المدينة. وقد تبعه وزير خارجيته بتصريح مماثل عن «منع إشراك ميليشيات شيعية في معركة الموصل والاكتفاء بالقوات التي دربناها في بعشيقة». الحنين «العثماني» إلى الموصل، لا يخفى على أحد، إذا ما أضيفت إليه مغريات جديدة تتعلق بتقطيع أوصال الأكراد المعادين لتركيا على جوانب المثلث السوري ـ التركي ـ العراقي، ودعم «غيتو» تركماني شمال غرب العراق، يقوم بدوره الوظيفي في خدمة أنقرة. والأهداف التركية هنا، تتلاقى في أماكن كثيرة مع مسعود البرزاني، حليف تركيا الذي يحكم أربيل ولا يخفي أطماعه في الموصل وعموم سهل نينوى. فمن جهته، يرفض البرزاني أيضاً، مشاركة «الحشد الشعبي» في المعركة، ويصرّح بنيّته عدم الانسحاب من المناطق «التي حررناها بدماء الأكراد». بينما يضع نصب عينيه ــ بعد إغراء الآشوريين والسريان وإقناعهم بالعمل على إقامة فيدراليتهم المسيحية (التي ستكون أربيل ملاذها الآمن) في سهل نينوى بدعم أميركي عنوانه «مشروع حماية الأقليات» ـ بالسطو على ثلاث محافظات من المحافظات الثمان المَنْوي استحداثها في نينوى ضمن خطة التقسيم الأميركية الطائفية والإثنية. أميركا إذاً، وخلفها الأتباع المحليّون و«الحلفاء» الإقليميون، يشحذون سكاكينهم لتمزيق خريطة العراق، وشرذمة العراقيين وتوزيع الأسلاب التي تهلهلت بخناجر «داعش» وأخواته وداعميه، بينما يصرّ «الحشد الشعبي» العراقي وباقي القوى الوطنية على خوض معركتهم الوطنية في الموصل إلى جانب جيشهم الحكومي، ورفض أية مشاركة أجنبية، والعمل بكل ما أوتوا من قوة على الوقوف في وجه المخطط الكبير للعراق والمنطقة، أو على أقل تقدير: التخفيف من أضراره، ولو بالصمود وعدم الاستسلام، لمنع تطبيق ما يُرسَم في الدوائر البعيدة والقريبة بالسهولة التي يريدها المتكالبون على خرائط المنطقة.
معركة الموصل لم ولن تبدأ في الموصل وما حولها من نينوى، بل تمتد من إدلب مروراً بحلب وريفها، والحسكة ودير الزور والرقة، وسنجار وتلعفر والموصل
ونينوى وصولاً إلى قلب بغداد، أما ما بعدها ـ في عقل أميركا وأعوانها ـ فليسَ أقلّ من خرائط جديدة، وديموغرافيا العصبيات والدماء والأحقاد والثارات التي
لا تنتهي. وليست ـ في العقل المقاوم المقابل ـ أقل من «الوطن أو الموت».

*كاتب سوري