دائرة الاشتباكات والاتهامات المتبادلة ترتفع وتيرتها وتستعر التصريحات السياسية بالتزامن مع تسارع جملة من التطورات بعد انهيار اتفاق (الهدنة)، وهي لوحظت بتغيرات عسكرية ميدانية يحققها الجيش السوري في حلب، ونشر منظومة صواريخ دفاعية استراتيجية في سوريا وتحريك المزيد من قطع البحرية الروسية باتجاه المتوسط بهدف استعراض العضلات والاستعداد ﻷي خطة (ب) أميركية، بعد تلويح واشنطن باللجوء إلى الخيارات غير الدبلوماسية عقب نعيها وتعليقها التعاون العسكري مع موسكو، في ظل معلومات تسربت عن اجتماع ضم لجنة النواب في البيت الأبيض ومسؤولين من وزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية وهيئة الأركان المشتركة طالبت باستهداف مدارج الطيران السوري الحربي باستخدام صواريخ بعيدة المدى من طائرات (التحالف الدولي) وسفنه، وحصر مساحة التفاهم الروسي الأميركي على تنظيم الازدحام الجوي بالسماء السورية.
يبدو أن تحديد الخيارات الأميركية سيكون مؤجلاً لنحو عام
نجاح صقور الإدارة العسكرية الأميركية في إفشال التعاون العسكري مع روسيا وتمسك الأخيرة بالخطوات المتقدمة التي حققتها في سوريا للحفاظ على مصالحها الحيوية وحماية أمنها القومي ومحاربة الإرهاب الدولي وفق تعبير القيادة الروسية، ينبئ بجولات اشتباك وكباش سياسي وعسكري طويلة الأمد، ينتظر أن تظهر في أكثر من جبهة قتال أو استحقاق دبلوماسي دولي ثنائي أو متعدد، سيتخللها انتخاب رئيس اميركي وتأليف جوقة من صقور اﻹدارة الجديدة تحتاج إلى جهود مكثفة تقارب ستة أشهر على الأقل، وهذا يعني أن البحث عن شراكة حقيقية مع الجانب الروسي لحل الأزمة السورية أو التوجه نحو تدخل عسكري خارجي مؤجل حتى منتصف الصيف المقبل. دون أن يعني ذلك عدم وجود إرادة أميركية للإدارة الحالية في تصعيد ميداني كمحاولة لإغراق الجانب الروسي في المستنقع السوري وانعكاس ذلك بتحقيق إنجاز سياسي من خلال فرض صيغة من الحل تحت ضغط الاشتباك، يمهد لتسليم السلطة للمرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون التي أنهت مهامها في وزارة الخارجية بدعوة المسلحين داخل سوريا بعدم إلقاء السلاح.
لذلك تلجأ الإدارة الحالية لسياسة الحفاظ على شعرة معاوية مع الجانب الروسي من خلال الهدن بغرض الحفاظ على صيغة التوازن بالميدان ووقف اندفاعات والإنجازات العسكرية لدمشق وحلفائها، واستخدام كافة الوسائل لخلق المزيد من الأزمات داخل الأزمة السورية للمراوغة والتهرب من الالتزامات وتعقيد المشهد بشقيه السياسي والعسكري، والاستمرار في استنزاف المقدرات السورية والتدمير الممنهج للبنى التحتية. وغير ذلك من أساليب الحرب الناعمة المتاحة ﻹدارة أوباما المكبلة بهامش الوقت الضيق، والحذر في اتخاذ أي خطوة تسمح لحملة الجمهوريين باستثمارها إضافة إلى تعقيد معادلة المشهد السوري وتشعباته وعدم القدرة على احتواء زلزاله المدمر في حال اندلاع أي مغامرة محتملة.
الراجح أن عدم ثقة موسكو بسياسات ونوايا واشنطن، وإدراكها للخيارات المتاحة أمام الإدارة الأميركية في المرحلة المقبلة كفرض المزيد من العقوبات الأميركية والأوروبية عليها، وانتهاج سياسات أطلسية استفزازية تجاهها في السعي لنشر المزيد من نظام الدرع الصاروخي وتسخير طائرات التحالف الدولي كغطاء جوي وحماية لتقدم المسلحين على الأرض، وتزويدهم بأسلحة نوعية ومعلومات وإحداثيات عسكرية دقيقة، والمحاولات المستمرة بعرقلة تقدم الجيش السوري نحو دير الزور والرقة في حربه ضد إرهاب تنظيم داعش من خلال استهداف الجسور والبنى التحتية الواصلة لتلك المنطقة لتكون حاضنة وقاعدة التجاء لإرهابيي التنظيم بعد تحرير الموصل، كل ذلك عكس دوافع وسرعة عودة الانخراط الروسي بكثافة في الميدان السوري إلى جانب الجيش السوري في تحديه بفرض استراتيجيات معارك ما بعد الانتصار في حلب ليس على الداخل السوري فحسب، بل بما يمثله ذلك في تحديد مسارات المواقف الإقليمية والدولية المقبلة.
ولعل من البديهيات الأولى لذلك هو ربط الأمن القومي السوري بمثيله الروسي ووضع منظومات الدفاع الصاروخية الروسية والسورية في حالة الجهوزية لردع أي عدوان اعتبرته وزارة الدفاع الروسية تهديداً لها في حال تعرض له الجيش السوري، مما يساهم في إحداث خرق لمقاربة الانتخابات الأميركية وتغير هذه المقاربة من استثمار الملفات الخارجية ضمن الحملات التنافسية للمرشحين إلى التأثير المباشر ﻷول مرة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية بصلب الانتخابات وتغير مسارها، وهذا مرتبط بما أعدته دمشق وحلفاؤها وبإسناد سلاح الجو الروسي من مفاجآت ميدانية قبيل حلول عتمة كانون المقبلة.

*كاتب وباحث سوري