هل يمتلك السوريون خيارات مستقلة تُمكنهم من تجاوز أزمتهم الراهنة، والبدء ببناء المجتمع والدولة بأشكال تتوافق مع مصالحهم وأهدافهم الأساسية والجوهرية؟ إذا كان ذلك ممكناً هل نستطيع تحديد تلك الخيارات وضبط آلياتها؟ أم أنها لا تزال مرتهنة لقوى خارجية؟ نُشير بداية إلى أن المعارضة السورية بأطيافها كافة، وكذلك النظام، يعانيان من أزمة ذاتية، تكشف عنها دلالات موضوعية تتعلق بالبنية والتركيب، إضافة لكونهما لا يعبِّران عن السواد الأعظم من السوريين، وبشكل خاص المظلومين والمقهورين والمفقرين. ويتقاطع ذلك مع علاقة كليهما الإشكالية بأطراف دولية وإقليمية ساهمت في تعميق الأزمة السورية، ووضعت أطراف الصراع كافة بعد تحويلها إلى أدوات وظيفية، في إطار أزمة مستعصية، يستحيل معها توصُّل المتصارعين إلى توافقات سياسية بمعزل عن توافق القوى الدولية التي تشرف على الصراع وتديره. وجميعها عوامل وضعت عامة السوريون في مواجهة استعصاء يزداد تعقيداً مع ازدياد تداخل وتراكب عوامل الصراع ومفاعيله.
من جانب آخر، فإن اتساع هامش تأثير المجموعات الجهادية بشكل خاص، وأخرى «معتدلة»، واشتغال بعض الأطراف على تمكينها من مشاركة «الائتلاف الوطني المعارض» في تحديد مستقبل سوريا السياسي كبديل من النظام الآيل إلى «الانهيار» كما تروج بعض الجهات الدولية والإقليمية، ساهم في تسارع الاستقطاب الطائفي، المذهبي والقومي. وترتبط التحولات المذكورة بمواقف للسلطة أحادية وقهرية. هذا في وقت تشير فيه بعض معطيات المشهد السوري إلى إمكانية إكراه السوريين على الاختيار، بين إعادة إنتاج بنية النظام، وإن بأشكال مُعدَّلة ظاهرياً، وبين استمرار التطرف والإرهاب. علماً أن معطيات المشهد الميداني المرتبط مباشرة بمصالح قوى دولية وإقليمية سيكون له الدور الأساس في صياغة التسوية السياسية. وتحديد مستقبل الدولة السورية الجيوسياسي، بمعنى المحافظة عليها موحَّدة أو إخضاعها للتقسيم.
وضعنا بين سندان التسلُّط ومطرقة الإرهاب للقبول بتسويات لا يُعبِّر عن إرادة السوريين

بالنسبة إلى العوامل والأسباب الداخلية للتحولات المذكورة، فإنها تتعلق أولاً بإقصاء السوريين عن المشاركة في صناعة القرار، وقمعهم عندما حاولوا استعادة حقوقهم المشروعة، ما أسهم في انكفاء عامة السوريين المعنيين بالتغيير الوطني الديموقراطي السلمي. وتزامن ذلك ثانياً مع تراجع دور وتأثير القوى الوطنية الديموقراطية، ما أسهم ثالثاً في الدخول بصراع دموي بين قوى متطرفة من جهة ونظام أحادي يعتمد القوة كخيار وحيد لتثبيت سلطته. وتزامن ذلك نتيجة أسباب مختلفة، مع تناقضات عانت منها فصائل «الجيش الحر»، وجميعها ساهم رابعاً في انسداد آفاق الحل السياسي، وتحويل سوريا إلى ساحات صراع أصوليات دينية وطائفية لا علاقة لها بجوهر الأزمة السياسية. وضاعف من تداعيات ذلك، ربط نتائج الصراع بمصالح إقليمية ودولية متناقضة. إضافة إلى إغلاق السلطة لأبواب الحل السياسي. باستثناء ما يتناسب مع توجهاتها ومصالحها. وتزامن ذلك مع تمسُّك المعارضة السياسية والمسلحة بأجندات خارجية، وإقامة تحالفات مع مجموعات جهادية بعضها مدرج على قوائم الإرهاب: «جبهة النصرة» سابقاً «جبهة فتح الشام» حالياً. والتي يعتبرها بعض من رموز المعارضة حتى اللحظة «قوة ثورية». يُضاف إلى ذلك اعتمادها منطق الثأرية الطائفية والسياسية، وأيضاً فساد عدد لا يستهان به من رموزها، ما أدى إلى تراجع دورها السياسي وتأثيرها الشعبي، بالتالي انكفاء حاضنتها الشعبية. وجميعها أسباب عززت من فشلها في قيادة مشروع التغيير الديمقراطي. ونظراً إلى رفض السوريين التطرف والإرهاب، فإن أعداداً لا يستهان بها من السوريين تُناصر الجيش السوري، ليس محبة بالنظام، لكن لأسباب تتعلق بفشل المعارضات السياسية، وخوفاً من انتصار قوى التطرف «الإسلامي»، ودعماً للجيش في الحرب المعلنة ضد الإرهاب.
من جانب آخر، فإن السياسات والمصالح الدولية وأخرى إقليمية، كانت من أسباب وصول السوريين إلى حالتهم الراهنة. وتجلى ذلك، أولاً بتباين مصالح وأهداف الدول الداعمة للمعارضات السياسية والفصائل المقاتلة «المعتدلة» منها والمتطرفة، وأيضاً بتحُّول ولاءات المجموعات المذكورة للخارج، واستبدالها المشروعية الشعبية بأخرى خارجية. وذلك ينطبق وإن بأشكال مختلفة على السلطة، ما جعل من السوريين الخاسر الوحيد. ثانياً: إن تشابك المشهد الميداني وتداخل أطرافه وتناقضها نتيجة اختلاف أهدافها ومصالحها المرتبطة بمصادر الدعم والتمويل، واستخدامها إضافة إلى داعش وظيفياً، ساهم في تحويل سوريا إلى ساحات صراع وظيفي. ويتقاطع ذلك مع إشارات لنا سابقة، بأن ما يُرسم لمستقبل سوريا في كواليس السياسية الدولية، لا علاقة له بدعم التغيير الوطني الديموقراطي.
ومعلوم أن المشاريع الخارجية تتجاوز في أبعادها تجليات الصراع الراهنة، إلى توظيفه سياسياً لإعادة توضيب سوريا والمنطقة على أسس دينية وطائفية وقومية. وأيضاً لتعديل توازنات القوى الدولية وطبيعة التحالفات وفق أشكال تتقاطع في كثير من دلالاتها مع مصالح إسرائيل الاستراتيجية، وأيضاً مع مصالح القوى الخارجية المتصارعة في سوريا وعليها. ويندرج في السياق المذكور تدمير الدولة الكيانية، إضافة إلى إمكانية إدخال مكوناتها في صراعات بينية لأهداف وغايات خارجية. ما يعني احتجاز سيرورة الانتقال إلى شكل حكم ديموقراطي، وإكراه السوريين على القبول بتسوية سياسية يحدد شروطها ومضمونها القطبان الأميركي والروسي. أما في حال الفشل في التوصل إلى تسوية سياسية، فإن خيارات استمرار دعم النظام من جهة، والمجموعات المقاتلة بما فيها المتطرفة من جهة أخرى، إضافة إلى المشاركة المباشرة لدول أخرى، وأيضاً تمسك بعض الأطراف بشعار إسقاط نظام الأسد، سيكون مفتوحاً.
فهل تنجح الدول التي تدير الصراع وتشرف عليه في فرض بدائلها على السوريين، ما يعني أن خياراتنا ستكون رهينة صراعات وتسويات دولية؟ علماً إن وضعنا بين سندان التسلُّط ومطرقة الإرهاب للقبول بتسويات تفرضها قوى خارجية، لا يُعبِّر عن إرادة السوريين وتطلعاتهم. ما يجعلنا نؤكد أن قدرة الشعوب الكامنة، ومكر التاريخ، لهما أحكام أخرى مختلفة.
* باحث وكاتب سوري