تتجه الأنظار في جميع أجزاء كردستان وأنظار القوى الديموقراطية التقدمية في تركيا، وعموم المنطقة، الى الانتخابات العامة المزمع إجراؤها غداً. هي انتخابات مفصلية على وقع تعاظم حظوظ حزب الشعوب الديموقراطية HDP في كسر حاجز العشرة في المئة الذي ليس سراً أنه شرّع أساساً لتحجيم حضور الكرد وتمثلهم في البرلمان.
وتخطي هذه العتبة يعني أوتوماتيكياً حصول الكرد على نحو 75 مقعداً في البرلمان، ما يشكل كتلة وازنة وأساسية ستكون أشبه ببيضة قبان العملية السياسية والمرجحة للمنهجيات الديموقراطية في التعاطي مع كل معضلات السياسة والاجتماع في تركيا، وفي مقدمها القضية الكردية التي يشكل حلها حلاً عادلاً وحضارياً محك التحول الديموقراطي البنيوي في البلاد، وصولاً الى بناء جمهورية جديدة قوامها التعدد والتشارك، وفق منطوق الأمة الديموقراطية وتآخي الشعوب وتعايشها.
تلك المنظومة القيمية السامية التي يرفع لواءها حزب HDP على هدي طروحات ورؤى عبد الله أوجلان تشكل الترياق لحل كل الاستعصاءات التاريخية المزمنة في هذا الجزء من العالم، لجهة الفشل في بلورة توافقات وتعاقدات وطنية تشاركية بين موزاييك الشعوب والأديان والطوائف الشرق أوسطية. تلك الرؤى التي تحولت الى واقع عملي وملموس على أرض "روج آفا" (غرب كردستان - كردستان سوريا) حيث كانتونات الإدارة الذاتية الديموقراطية التي لا شك أنّ لها دوراً وتأثيراً عميقين في تحفيز واستنهاض الوعي الحقوقي القومي الديموقراطي لدى الكرد في شمال كردستان (كردستان تركيا) ولدى عموم القوى الديموقراطية على اختلاف الانتماءات ترك وأرمن وسريان وعلويين ومسيحيين...
وتكفي الإشارة هنا الى الانتفاضة الشعبية العارمة قبل أشهر على امتداد شمال كردستان وتركيا احتجاجاً على التورط التركي في دعم "داعش" في حربها على كوباني وروج آفا، وبلا ريب فإن نموذج الإدارة الذاتية الديموقراطية يشكّل مثالاً ناجعاً لحل القضية الكردية في تركيا، ويمكن تعميمه على الصعيد الوطني التركي العام بما يسهم في تمثل وتشارك مختلف المكونات في إداراتها الذاتية الديموقراطية في اطار تركيا ديموقراطية تعددية لامركزية.
فالكرد الآن رأس حربة دمقرطة تركيا وسوريا وعموم المنطقة، وهم في الخندق الأول في الحرب ضد الإرهاب الدولي ليس فقط عسكرياً بل وقيمياً، بمعنى بلورة وتقديم نماذج وبدائل ديموقراطية مضادة للفاشية "القومودينية" الداعشية، كما للفاشيات القومية و"القومودينية" التي لطالما مارست شتى صنوف الإرهاب المنظم ضدهم، إلى درجة الإبادة الجماعية الموصوفة.
والواقع أن هذه الانتخابات تؤشر الى أن الكرد باتوا في طليعة الحراك الثوري الديموقراطي إن في ميادين وجبهات المقاومة والحرب ضد الإرهاب والاستبداد أو في معتركات الانتخابات وصناديق الاقتراع، فنحن أمام معركة ديموقراطية برلمانية مصيرية لإثبات أن الكرد لاعب رئيسي لا يمكن شطبه، وأنهم الرقم الفاعل والوازن في المعادلة الديموقراطية ويمسكون بزمام قيادة الحركة الاشتراكية الديموقراطية في تركيا برمتها، فلئن درجت البروباغاندا المعادية للكرد ولأبسط حقوقهم في الدول المقتسمة لهم على أنهم انفصاليون عصاة وإرهابيون مخربون وانعزاليون يلوذون بالجبال... الخ.
أمام تلك الترسانة الاتهامية الرثة، فإن الكرنفال الديموقراطي الذي تعيشه آمد ووان وماردين ونصيبين وكل مدينة وبلدة وحتى قرية في شمال كردستان وفي المدن التركية الكبرى، يدحض تلك الدعاوى العنصرية ويثبت أن الكرد يجيدون وبحذاقة ممارسة اللعبة السياسية واختراق التابوات (المحرمات) بل والتأسيس لجبهة ديموقراطية مجتمعية عريضة تطمح إلى الدفع قدماً بعملية السلام، وصولاً الى بناء وطن تشاركي ديموقراطي يغتني ويفخر بتنوعه وتعدده ويحوله الى مصدر ثراء ومناعة، وفي ظل دستور عصري توافقي. وليس مصدر توتر وفوبيا مزمنة التي لطالما ميزت سياسات الحكومات التركية المتعاقبة حيال القضية الكردية. فالكرد والحال هذه هم حامل المشروع الديموقراطي الوطني العام، عبر حزب عابر للقوميات والطوائف والديانات والمذاهب تقوده شريحتا الشباب والنساء بالدرجة الأولى، حيث نصف عدد مرشحي الحزب من النسوة (268 مرشحة من أصل 550 مرشحاً)، ما يعني أننا حيال تسونامي ثوري عارم يؤسس للمستقبل الديموقراطي التوافقي الخلاق، مجتثاً نظريات التفوق والاستعلاء والأحادية الآفلة لا محالة.
* كاتب كردي