بعد سنوات من ديمقراطية الصراخ واللطم والضرب بالكراسي في برامج الرأي والرأي المخالف والاتجاه والاتجاه المعاكس التي قدمت صورة للعالم عن ديمقراطية النخب السياسية والفكرية العربية لا يحسدون عليها... ولسان حال العالم يقول إذا كان هذا حال نخبهم فكيف تكون حقيقة عامتهم ورعاعهم ولا يخلو مجتمع في العالم من الرعاع... وهكذا كان الأمر ففي اواخر سنة 2010 انتقل الصراخ واللطم من الشاشات إلى الشوارع ومن النخب إلى العامة. بدأ الزلزال الكبير بخبر عن حوادث بسيطة في المغرب تضخمت وتحولت إلى تحريض قوي من طرف قناة «الجزيرة» ضد الحكم. ولأوّل مرّة يذكر اسم الملك وهو خط أحمر فأغلق المكتب على عجل وطوي الأمر. بعدها بأسابيع وجدوا في حادثة حرق البوعزيزي في تونس، وهي حادثة كغيرها كان من الممكن أن تمر خبراً في صفحة الحوادث المحلية، ولكنهم حوّلوها إلى عمل ثوري نسوا أن الثائر كائن مفعم بالحياة وحالم بالمستقبل ولا ينتحر وسلاحه موجه ضد أعداء الثورة... بيد أن الاعلام جعل منه مفجّراً للربيع العربي مثل اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانس فرديناند الصاعق الذي فجّر الحرب العالمية الأولى. اتخذوا البوعزيزي ذريعة. وفي عالمنا المعاصر صارت الكذبة المنتشرة أكثر صدقاً من الحقيقة الموضوعية المجهولة. المهم انتشار الخبر وليس صدقه... بل لم يعد الاعلام في حاجة للكذب لأن قول الحقيقة هي الطريقة الأذكى لتمرير المغالطات من خلالها.وانطلق ضخ الآلة الاعلامية الكبرى بدأت «الجزيرة» في الاشتغال والقنوات العالمية الموجهة للعرب مثل «سي آن آن» و«بي بي سي» و«فرنسا 24» تشتغل هي الأخرى... إذاعات وشبكات تلفزیونیة ومواقع اخباریة وشبكات افتراضیة وشبكات المحمول الشاشة كلها تحرّض التونسيين على الثورة.
شعب بأسره انتزع من أمام شاشات كرة القدم ووضع أمام شاشات تحريض وبدأ الضخ لمواطن محتقن من الغضب منذ خمسين سنة من جراء حكام وأوضاع ساهم هو نفسه في صنعها بقوة...
مواطن ينتمي إلى مجتمع تقليدي مموّه بطبقة شفافة من الحداثة العصابية. مواطن لا ملكة نقدية له. مواطن يؤمن بما يرى ويسمع، تتحكم الاشاعة في توجهاته وخياراته السياسية ويختلط عليه العالم الواقعي بالعالم الافتراضي المصنّع وهو لا يفقه في أيهما يعيش. مواطن ضائع في غابات فايسبوك وتويتر وغيرها من المواقع الاجتماعية يتصور أن له صوتاً وهو بلا صوت، مواطن تحكمه ذهنية القطيع والمسايرة. هو طاقة انفعالية بدائية منطلقة بلا عقل دمية ميكانيكية كائن جاهز للتحكم فيه من بعيد بالريموت كنترول الاعلامي. هذا ما وقع واندفع التوانسة إلى الشوارع وتبعهم المصريون وانتشر الحريق في بقية الدول العربية.
هذا الدفاع عن الشعوب كان بكل بساطة زعزعة لاستقرارها كان التحريض يتم على مدار الساعة في قنوات تقوم بتضخيم وقائع عادية، وتصنع للناس عالماً افتراضياً يعيشون فيه. يقال إن القذافي اسقط افتراضياً في التلفزيون وفي الاعلام الالكتروني قبل أن يغادر طرابلس ويسقط واقعياً.
وبذريعة الديمقراطية وحرية التعبير صاروا يدعون أياً كان من العامة للكلام على الهواء في الشأن العام ومستقبل الأمة داخل استديوهات إذاعات وقنوات أنشأت على السريع بالمال الفاسد من رجال أعمال هم في الواقع مجرد لصوص، وبمال السفارات الأجنبية. قنوات تشغل صحافيين هم في حقيقتهم مخبرون لمن يدفع أكثر ولا تسال عن المهنية ولا عن اللغة ولا عن النحو والصرف والثقافة. ناس استقدموهم من الشوارع.
وأنا أعبر الحاجز الالكتروني في مطار تونس قرطاج سألني البوليس: صحفي؟ قلت لا... ناشر بطّلت هذه الشغلة.
قال: معاك حق صار الانسان يخجل في تونس يقول أنه صحفي.
هكذا صار رأي الناس في الصحافيين.
... وشباب شغّال ينشط على «فايسبوك» وغيره من المواقع الاجتماعية. شباب كان قد تلقى دورات تدريبية من برنامج «فولبرايت» حول الشباب والتغيير... الشباب والاعلام الفايسبوكي. أحزاب تلقت دورة تدريبية من مؤسسة «هانز زايدل» الألمانية للتعلم من تجربة الاحزاب المسيحية الديمقراطية.
أساتذة جامعة وموظفون سامون في الدولة يتلقون أموالاً من مؤسسات أمثال «هنريش كونراد» و«فريديريش ايبرت» و«هانز زايدل» مقابل مشاركاتهم بأوراق في ندوات تغطي مجمل الخريطة الاجتماعية والادارية والثقافية التونسية أو حضور دورات تدريبية في الادارة المحلية، وحوالى 120 منظمة مجتمع مدني وهي صورة حديثة وزائفة للجمعيات الأهلية أيام الاستعمار ولكنها في غالبيتها تشتغل للجهات التي تموّل لأنه من البديهي لا يوجد فلوس بلا مقابل والدول ليست جمعيات خيرية ودافعو الضرائب في الغرب لديهم مؤسسات ومنظمات تراقب الصناديق وأوجه صرفها.
رسامون انخرطوا في شيطنة الاسلام امتلأت لوحاتهم باللحى الاسلامية مثل الرسوم الهولندية ورسوم شارلي ايبدو.
روائيون وشعراء يشيطنون الاسلام يحصلون على منح وزمالات في البلدان الغربية الساهرة على الربيع العربي. سينمائيون ينخرطون هم أيضاً في أبلسة الاسلام يحصدون الجوائز في فرنسا وكندا، ويقومون بزيارة الكيان الصهيوني.
اساتذة جامعة سوقوا أنفسهم مفكرين وفلاسفة يقدمون أطروحات استشراقية معروفة في المراجع الأكاديمية، وكأنها من بنات أفكارهم وكلها شيطنة وأبلسة للاسلام والمسلمين.
شباب ألبسوهم اللحى ودفعوا بهم للتخريب واكتظت الاذاعات والقنوات ومواقع التواصل الاجتماعي بالكلام السوقي والعام والمغرض والكيدي، بدا كما لو أنها حرب اهلية افتراضية وحجبت أصوات تلك المعارضة المتشكلة من نخب قومية واسلامية ويسارية قبع قسم منها في السجون سنوات طويلة وقسم آخر مات في أقبية التعذيب، تم إغراق أصواتها في هذا السيل الجارف من كلام العوام الذي يملأ الفضاء من كل جانب، بل تمت شيطنة هذه المعارضة وتسفيهها، وتحميلها أخطاء ستين سنة من الحكم البورقيبي.
أحزاب هي دكاكين من كل صنف ولون إيديولوجي. عدد قادتها يفوق عدد منتسبيها وقواعدها كما كان يقال عن الجيش المكسيكي حيث عدد الجنرالات يفوق عدد العساكر، وأحزاب أخرى فبركت على عجل. صار عدد الأحزاب في تونس يفوق عددها في الديمقراطيات العريقة: فرنسا والمانيا وانجلترا واميركا مجتمعة...
وذئاب منفردة تبث من واشنطن ومونتريال وباريس رسائل على يوتيوب تعمل على التحريض والبلبلة.
ومعارضة افتراضية... تلفزيونات وقنوات ممولة من دول أجنبية معروفة وإعلام رقمي، ومواقع اخبارية يشرف عليها صحافيو النظام السابق ومواقع تواصل اجتماعي، وما صار يسمى بالناشطين السياسيين هم أيضاً ذئاب منفردة تشتغل للحساب الخاص أو حملان منفردة أيضاً مقتنعة بكل ما ترى في التلفزيون قبل أن يأخذها النعاس، حملان تعيش غيبوبة تاريخية.
مراكز ثقافية حرّة تمول من الخارج... ومراكز بحث استراتيجية وجمعيات وهمية انبثقت على عجل وتمول هي الأخرى من الجهات الأجنبية وتنفذ أجنداتها.
الكل يشتغل على صناعة الربيع العربي الذي هو في ظاهره وشعاراته وخطابه ثورة رفعت مطالب شرعية لا يختلف حولها اثنان: الحرية والكرامة والديمقراطية ودولة القانون، وهي أجندة اولى متشكلة من شعارات وفانتازمات سياسية تخفي الأجندة الثانية المتمثلة فيما كان يتم فوق الأرض من هدم ممنهج للدولة والشعب والأرض والتراث حيث تم في تونس حرق حوالى مئة معلم تاريخي.
قالت لي وزيرة الثقافة الجزائرية السابقة خالدة التومي في دردشة سريعة في معرض الكتاب الجزائري وبلهجة استهزائية وقنابل «الناتو» تدك ليبيا: «خالد جنود الناتو صاروا ثواراً؟!».
كان هذا الربيع هدية القوى الاستعمارية الكبرى للعرب والمسلمين عامة.
النصيب الأكبر من هذه الهدية الدموية تلقته جبهة الصمود والتصدي... من يتذكر جبهة الصمود والتصدي في العراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا والجزائر. هذه الدول تميزت ببروتوكول خاص: هدم الدولة والأرض والشعب وإغراقها في الحروب الأهلية... أصدقاء أميركا كان مصيرهم الحماية: زين العابدين بن علي وحسني مبارك الذي قال بلهجة بطولية لن أخرج ولن اطلب اللجوء أريد ان أبقى في مصر ولكن حسني مبارك ليس سقراط الذي قال اريد ان ابقى في السجن لأواجه مصيري. مبارك لا يواجه مصيره... كانت للرجل ضمانات.
جاء هذا الربيع العربي بعد سنوات من ربيع بكين 1979 ومن ربيع بلاد القبائل في الجزائر 2001 التي أغرقوها في تلك العشرية الدموية، وبعد ربيع كوبا 2003. نسيت، كانت أول هدية من "ربيعات" الشعوب هي تلك التي قدمت للاتحاد السوفياتي سنة 1968 والمتمثلة في ربيع براغ، يومها تحركت الدبابات السوفياتية وحسمت الأمر على عجل وأنهت ذاك الربيع القاتل.
ظل سيناريو ربيع الشعوب يعاد إصداره في طبعات مزيدة وغير منقحة لكل بلد. سيناريو تفكيك من الداخل يتلاءم مع ظرفه الجيوسياسي والثقافي...
النتيجة إدخال الدول في فوضى عارمة كما يقول فرنسوا أسلينو، رئيس حزب UPR، وحدة الشعب الجمهورية الفرنسي تتمثل في تفكك الدولة وتشظي المجتمع واختفاء رأي عام. هدم الثقافة والهوية التي تؤسس للحمة الوطنية وللقواسم المشتركة منع تشكل أي زعامة يتجمع حولها الناس، إعلاء الكل وتسفيه الكل وضرب الكل بالكل. باختصار يعودون بالمجتمع إلى تركيبته البدائية ويصير ما يشد المواطن إلى علاقاته الدموية يطغى على ما يشده للوطن والدولة، مما يقدح شرارة الحروب الأهلية ويصير الأجنبي هو سيد اللعبة.
روائيون وشعراء يشيطنون الاسلام يحصلون على منح في البلدان الغربية

في الحالة التونسية بدأ هدم الهوية مع بورقيبة في خمسينيات القرن الماضي. قدّم له اللوبي الصهيوني ممثلاً في منديس فرانس مشروع تحديث ظاهري وابتلع الطعم. وحقيقة المشروع الواقعية هدم الهوية العمود الفقري لأي شعب. كان بورقيبة يفكر أنه يحدّث وكان في حقيقته يهدم. هاجم القرآن والرسول وحارب رمضان وترك وراءه جيلاً واقعاً تحت تأثير هذه الحداثة الوهمية، لذلك أنت لن تجد بلداً في العالم العربي والاسلامي يحتوي على هذا الكمّ من المثقفين الذين انخرطوا بيسر في موجة شيطنة الاسلام والمسلمين التي تعم العالم الغربي اليوم والتي دشنها شيمون بيريز يوم سقوط جدار برلين، وقال جملته الشهيرة: اليوم انتهينا من الخطر الشيوعي وعلينا مواجهة الخطر الاسلامي.
الشيطنة التي تنبه لها ادوارد سعيد مبكراً في كتابه تغطية الاسلام حيث فكك صورة الاسلام السلبية في الاعلام الغربي.
هكذا تراهم يهاجمون صباح مساء اللغة العربية والاسلام في سياق حداثة ايديولوجية مرضية عصابية نتجت عنها هوية شيزوفرينية، فتونس البلد الوحيد الذي يحوي كل هذا الكم من الدواعش... حوالى ستة آلاف يقاتلون في سوريا وليبيا وفي الناحية المقابلة. وأيضاً ظاهرة نساء «فيمن» اللواتي يتعرين في الشوارع.
في هذا المعمعان التونسي لا أحد يذكر الثلاثمئة شاب أو نحو ذلك، ممن قضوا برصاص القناصة مجهولي الهوية... ولا الاغتيالات السياسية الكثيرة والغامضة،
ولا جرائم قتل الجيش والشرطة والسياح، أي خنق البلد اقتصادياً مما يؤكد وجود أزمة أخلاقية عميقة لدى النخب التونسية.
كل هذا تمخض اليوم على تعيين موظف سابق في السفارة الأميركية في تونس رئيساً للوزراء، فيوسف الشاهد جاء من المجهول لم يكن يوماً من النخبة التونسية ولم يعرف عنه أي نشاط في المجال العام... لا فكرياً ولا سياسياً.
الربيع العربي البدء والمفتاح كان تونس. وقال مدير مركز الدراسات الاستراتيجية التابع للجيش الفرنسي في مؤتمر بيروت 2013 «تونس كانت المختبر». في ثمانينيات القرن الماضي كنت أعمل بمجلة «المستقبل» اللبنانية في باريس حين نشرت المجلة ترجمة لدراسة صادرة عن مركز دراسات اسرائيلي حددت خريطة المجال الاستراتيجي للكيان. يومها كان شارون وزيراً للدفاع قدم أمام لجنة الدفاع والخارجية للكنيست في جلستها المنعقدة في 12/12/1982 تلخيصاً لهذه الاستراتيجية قال: «دائرة المجال الحيوي لإسرائيل هي المنطقة التي تضم مصالح إسرائيل الاستراتيجية وتشمل جميع مناطق العالم العربي المتاخمة. علاوة على إيران وتركيا وباكستان وشمال أفريقيا وحتى زيمبابوي وجنوب أفريقيا.
قال شارون هذا الكلام النظري ولم يقل كيف سيكون الأمر فوق الأرض.
الجواب جاء في سياق آخر في دراسة صدرت عام 1988 عن معهد «فان لير» الإسرائيلي في القدس والمتخصص في الدراسات الاستراتيجية وهي بعنوان: إسرائيل على مشارف القرن الواحد والعشرين. تقول الدراسة وكأنها تصف الربيع العربي: لا بد أن نعمل على نشر الحروب الأهلية على امتداد العالم العربي وعلى تفتيت الدول العربية إلى كيانات عرقية وطائفية، عبر إيهام ومعاملة الجماعات الاثنية الموجودة في العالم العربي كقوميات...
الاسم الأميركي لهذا البرنامج الاسرائيلي: الشرق الأوسط الجديد وشمال افريقيا.
وهذا ما يتم الآن فوق الأرض في العراق وسوريا واليمن وليبيا...
وهذا بعض ما جرى ويجري.
* كاتب تونسي