أصبحت قادراً على استخدام تعبير «الربيع العربي» فقط حين شاع أن يُكتب، كما في عنوان المقالة، بين مزدوجين؛ للدلالة على عدم جديته، أو للسخرية منه، أو لتبيان المفارقة بين الوعود التي حملها المصطلح حين تمّت صياغته وبين الواقع القائم.كالكثير من العرب، رفضنا تعبير «الربيع» حين بدأ بالانتشار، قادماً من الغرب، لتوصيف ما اعتبرناه وقتها ثورات منتصرة في مصر وتونس، وأخرى توشك على الظفر في بلاد العرب. صُكّ المصطلح في الاعلام الأميركي، ثم صار، سريعاً، التعبير المفضّل لدى المسؤولين الغربيين للاشارة الى أحداث المنطقة.

المشكلة لم تكن فقط في الاحالات التي يستبطنها التعبير، وتحديده المسبق لمكنون الحركة الشعبية واهدافها بما يشبه المصادرة؛ بل في أنّ اعتماده بترحيب من قبل رجال السياسة الغربيين (بعد شهورٍ من الارتباك في مواجهة الهبّات الشعبية، والتمسك بالأنظمة الحليفة) كان، في حد ذاته، نذيراً بالغ السوء.
بل أنه يمكن المحاججة بأن صعود التعبير كان، بشكلٍ ما، اعلاناً عن نهاية هذه الثورات بما هي ثورات مفتوحة الأفق؛ لا بمعنى أن هناك علاقة سببية بين الأمرين، بل بمعنى أن حكومات الغرب، التي ترعى النظام القائم، لم تكن لترتاح الى مثل هذه الحركات وتطمئن لها، وتتبناها وتعطيها اسماً، الا لأن القلق من احتمالاتها التغييرية قد انزاح، وقد دخلت في طورٍ مختلف. من المثير هنا أن مجلة «فورين بوليسي» الأميركية، في مقالٍ يؤرخ لتعبير «الربيع العربي»، أشارت الى أن المصطلح قد شاع واعتمد في الصحافة تحديداً عندما لم يعد من المناسب استعماله لتوصيف أحوال المنطقة (الا أنها لم تنتبه لمغزى المفارقة).
لحظة «الربيع العربي» تشبه لحظة «ثورة الأرز» في لبنان (التعبير الأخير صكّه، ايضاً، مسؤول اميركي لتوصيف حركة «14 آذار»، وقد اعتمدته حركة «الاستقلال والسيادة» حتى صار اسماً رسمياً لها)؛ أو لحظة بدء غزو الـ «ناتو» لليبيا، حين صار لازماً ــــ على كلّ عاقل ـــــ أن يتنبّه ويعيد النظر بما يجري، وأن يتذكر أن المعلومات عن ليبيا كانت تأتينا من مصدر واحد، منخرط في المعركة، وأن القذافي نعرفه، ولكن «الثوار» ومن خلفهم لا نعرف عنهم الا ما تقدّمه «الجزيرة».
يقول البعض، عن حسن نية، أن الانتفاضات الشعبية، وان لم تفض الى التغيير المرجو، لا يجب النظر اليها كحركات فشلت، بل كـ «مرحلة أولى»، سيتبعها تجذيرٌ للنمط الثوري في المستقبل (على طريقة ثورات القرن التاسع عشر في اوروبا). ولكن هذه النظرة ــــ الى جانب اعتمادها على امكانية «تكرار» مسار غيرنا ــــ تفترض تحقيباً معينا للتاريخ يتماشى مع عقلية «الربيع»، يكون التاريخ فيه مساراً افقيا ينحو في اتجاه ثورة شعبية ديمقراطية.
على عكس الصورة النمطية التي أنتجتها «الثورات الملونة»، فإن مفهوم «الثورة» (سواء لدى أكاديميين كمور وسكوشبول، أو لدى لينين) لا يعني مسيرات متلفزة وتعديلاً في النظام الانتخابي والطاقم الحاكم، بل تغييراً على مستوى طبقات المجتمع وبنيته، وتوزع الانتاج والدخل والقوة فيه. من هذا المنطلق نجد أن المجتمع المصري، بعد سنوات من الانقلاب الناصري (الذي لا يعتبره العديدون ثورة)، كان قد خضع لعملية تغيير «ثورية» بالفعل، في حين أن مصر اليوم، بعد «ثورتين» ربيعيتين، ما زالت كما تركها مبارك.