يسمّونه في العراق مجلس النواب، وفيه هيئة رئاسة مكونة من رئيس من الطائفة السنية، ومرشح غالباً من حصة الحزب الإسلامي العراقي، فرع جماعة «الإخوان المسلمين»، بتأييد تحالف القوى العراقية الذي يعتبر نفسه المتحدث باسم المكون السني في العراق رسمياً. ونائب أول له من الطائفة الشيعية يعينه «التحالف الوطني»، ونائب ثان من الإثنية الكردية يتفق عليه التحالف الكردستاني. هذه الصورة أصبحت قاعدة سارية، من دون أن يكون لها بند دستوري أو عرف مسبق أو اتفاق علني معروف. حوّلها القائمون على إدارة العملية السياسية إلى ذلك من دون استشارة الشعب أو استفتائه، أو وضعها مادة دستورية بتوافق، كما أعلنوا مشاركتهم في صياغة مسودته الأخيرة التي وصلتهم.نشبت أزمة البرلمان العراقي منذ بداياته بعد 2005، وتعرّض لاختلالات ومشاحنات عكست حينها مآلات ما وصل الآن إليه، أكدتها الحساسيات المذهبية والإثنية ولعبت عليها المحاصصة والتوافقات والتراضي السياسي على حساب المصالح الوطنية ومهماته ومستقبل البلاد.
احتلال ما يسمى إعلامياً «داعش» لمناطق شاسعة من أراضي العراق أشار الى طبيعة الصراعات الداخلية ومشغليها الخارجيين، الإقليميين والدوليين. وباتت الأزمة متسابقة مع الأحداث. والمضحك أن بعض أعضاء مجلس النواب يتهمون بعضاً آخر منهم بـ«الداعشية» أو التعامل مع «داعش»، نتيجة تصريحات ومواقف إعلامية مكشوفة، ولم يجر أي إجراء قانوني أو أخلاقي أو أي شيء آخر ضدهم. ويرد هؤلاء على الأولين باتهامات العمالة أو التابعية أو تلقي الأوامر من طرف خارجي، أيضاً مستندين إلى مواقف أو زيارات أو علاقات معلومة، و«تضيع الطاسة بين حانة ومانة»، كما يقال في الأمثال، ولا سيما حين تفتقد المحاكمات والعقوبات وتزدهر التناحرات والخلافات والاختلافات وتصبح هي القضية الشاغلة وتغيب المهمة الرئيسية للبرلمان.
اشتعلت الأزمة من جديد بعد استجواب وزير الدفاع خالد العبيدي

انكشف وضع الأزمة المتفاقمة للبرلمان في خروج عدد من نوابه على رئاسته ودعوتهم إلى استقالتها أو شخص رئيس البرلمان، وانقسم حينها البرلمان إلى قسمين، كل له رئيس يديره، وعقد جلسات واتخذ قرارات.
فاقم من الأزمة أيضاً اقتحام متظاهرين مبنى البرلمان (30 نيسان/ أبريل 2016) والاعتداء على نواب فيه، وتكرار هذا الاقتحام لمبنى مجلس الوزراء وتصعيد التيار الصدري برئاسة زعيمه مقتدى الصدر بالاعتصام داخل المنطقة الخضراء التي تعتبر المنطقة الأكثر أماناً في العراق بحكم ضمها معظم المباني الحكومية الرئيسية، ومنها البرلمان نفسه، وبعض السفارات، مثل الأميركية والبريطانية، وبيوت معظم المسؤولين الحاليين والسابقين. وحلت الأزمة بقرار من القضاء العراقي، الذي يصدر قراراته كما تريد جهات معينة تقطن المنطقة الخضراء نفسها، وتتسلم قياداتها إدارة البلاد بالريموت كونترول. والمضحك في الأمر، أنه كلما تتعقد العملية السياسية في العراق يقوم نائب الرئيس الأميركي جو بايدن (المسؤول عن الملف العراقي في الإدارة الأميركية، كما يعرف إعلامياً) بالتسلل إلى بغداد وأربيل وفرض أسلوبه الأميركي في إنهاء التناقضات، أو تلوينها وفق التوقيت المطلوب لها وخدمته للهدف الرئيسي الذي رسمته الإدارة الأميركية في غزوها واحتلالها العراق. ويكمل وزير الخارجية الأميركي جون كيري دور بايدن في أحيان كثيرة في تبريد سخونة الصراعات الداخلية بين التحالفات السياسية وكتلها البرلمانية، أو بين بغداد والإقليم، وبين مؤسسات النظام السياسي القائم على أساس المحاصصة الطائفية والإثنية. هذا فضلاً عن دور السفير الأميركي المكلف في بغداد بكل المهمات والخطط المرسومة مسبقاً.
لم تستقر أمور البرلمان بعد انكشاف مفضوح لسيرته المعلنة، وعادت أزمته واشتعلت من جديد بعد استجواب وزير الدفاع خالد العبيدي الذي كشف بعض المستور في ثنايا العملية السياسية والتواطؤات القائمة داخل البرلمان والسلطات الأخرى، ولا سيما القضائية، التي لما تزل جزءاً من المشكلة الوطنية في العراق. ومن ثم تصاعدت الأزمة في المطالبات بحكومة إصلاح وطني وتشكيلها من التكنوقراط، وتداخلت من جديد صراعات القوى السياسية، بل زادت حدتها، داخل كل مكون سياسي. وتباينت المواقف من دلالات ومعاني المطالبات بالإصلاح، وتتبارى مع انتفاضات خجولة في الشوارع العراقية، أيام الجُمعة. وكلها تقول بفشل المشروع الأميركي في العراق، بل وفي كارثيته برغم كل المعالجات والعمليات التجميلية. فبعد انسحاب القوات الأميركية نهاية عام 2011 التي كانت رمزاً للاحتلال الغاشم، تركت مؤسسات بأسماء عراقية ولكنها تسير على سكة أميركية، إشرافاً وقراراً، ما حوّلها إلى أداة أو لعبة مسيّرة. ولما شعرت الإدارة الأميركية بمحاولات التخلص منها، حتى ولو بالنيات وتأثيرات خارجية، حسب التصورات الأميركية أو ضغوط إقليمية عليها، ولو تعارضاً أو تضخيماً لعقد وتعقيدات تاريخية ومذهبية، لإيقاف وضع العراق على صحن من ذهب وتقديمه إلى إيران، كما صرح أكثر من مسؤول خليجي ومؤتمر ووسيلة إعلامية متخادمة مع المشروع الصهيو أميركي أساساً في العراق وخارجه، أعادت حركتها إلى ضبط غزو «داعش» وسهلت له احتلال المنطقة الغربية من العراق وتهديد العاصمة المركزية والإقليم به.
لم تنته أزمة البرلمان بعد كل هذه الصولات، إذ عادت بعد جلسة استجواب وزير المالية هوشيار زيباري، (قيادي في الحزب الديموقراطي الكردستاني، وخال زعيمه مسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان العراق)، الوزير الذي كلف بمهماته منذ عام الغزو والاحتلال 2003 وحتى تاريخه! وكان زيباري قد صرح على فضائيات، بالصوت والصورة، عن تناقضات حادة بين كتلته والكتل الأخرى، واتهم بعضها بالتآمر عليه، سياسياً، ومن ورائه طبعاً كتلته، التي تعاني هي الأخرى تصدعاً داخلياً، حالها حال التكتلات الأخرى.
لم يسع البرلمان، منذ اختياره بعد انتخابات 2005 وإلى الآن إلى لعب دوره الحقيقي في الرقابة والتشريع، بل قدم في كثير من الأوقات نموذجاً للفساد السياسي، والمشاركة فيه أو تغطيته والتهاون مع أقطابه، والتي تجمع في الأخير إلى أزمة اسم البرلمان، أو مجلس نواب الشعب، الذي لم يسهر لخدمة الشعب والوطن، ويعبر فعلاً عن تمثيل حقيقي للشعب وخياراته. وبينت الأزمة طبيعة الصراعات داخل الطبقة السياسية التي تعتاش على الريع النفطي والتفكير أو التخطيط لاقتناص أكبر حصة لها منه، بكل الطرق المشروعة وغيرها، وعنوان الفساد الأبرز في تلك المرحلة التاريخية من التاريخ المعاصر للعراق. ولهذا، فإن الفترة التي انقضت ليست قليلة، ولما تزل إشكاليات الحل السياسي تمنع سبل التقدم والازدهار في العراق، وتبتعد طرق الإصلاح والتغيير عن التطبيق أو الإنجاز. وهنا تكمن معاني الأزمة في البرلمان العراقي وفي ما حصل ويحصل في العراق بعد 2003، مقارنةً بما كان طموحاً فعلياً بعراق جديد، بمعنى الكلمة لا بلفظها.

*كاتب عراقي