دُفنت الهدنة التي رأت النور وسط حقل من الألغام وبعد مخاض طويل من التجاذبات الأميركية الروسية في أروقة جنيف الباردة، بعد أيام قليلة من ولادتها. عوامل عدّة مهدت لنعي هشاشة مخرجات جنيف، منها تبادُل الاتهامات وفشل تدوير الزوايا وغياب الثقة المتبادلة بين أطراف الصراع، وإبقاء التفاهم الأميركي الروسي طي الكتمان من دون الكشف عن تفاصيله واتساع دائرة الخروقات في ظل غياب آليات ووسائل واضحة ومحددة للمراقبة وضمان التنفيذ، وبقاء الرابط العضوي يحكم علاقة ووجود الفصائل المسلحة مع القوى العنفية اﻹرهابية من دون بذل مساعٍ جادة لفصلها، وعدم اتخاذ قرار ملزم لتكريس الهدنة كنواة جهد دولي لمحاربة الإرهاب ودفع العملية السياسية، إضافةً إلى نجاح صقور الإدارة الأميركية في تطويق رجال السياسة بخطوط أيديولوجيتهم الحمراء بتجريم التعاون مع الجانب الروسي عسكرياً والخروج عن اللياقة الدبلوماسية في الاشتباك السياسي الذي شهده مسرح مجلس الأمن ما عكس شدة حالة الصراع بين القطبين الدوليين.
حساسية المرحلة الراهنة تنبئ بفترة تأزم سياسي وتدهور ميداني
وصول الهدنة إلى حائط مسدود لم يكن عاملاً مفاجئاً بحد ذاته، بل ذهاب دمشق إلى إعلان انتهاء مفعول سريان نظام التهدئة وفقاً لبيان القيادة العامة للجيش السوري، عكسا حالة استعداد دمشق وإدراكها مع حلفائها في طهران و«حزب الله» بعدم جدوى هذه التهدئة التي أصبحت «من دون معنى» وفقاً لتعبير موسكو، وبالتالي الرغبة في امتلاك زمام المبادرة في الميدان بعد تدهور جبهات القتال وبزوغ التدخل الخارجي المباشر في تأزيم الوضع الداخلي السوري، من إدارة إسرائيل وإشرافها على تغيير معادلة الجنوب عبر تنظيمات إرهابية، والأهداف العبثية للغارات المقصودة للطيران الأميركي على مواقع الجيش السوري في الشمال الشرقي لإخراجه من تلك المنطقة وتمهيد الطريق أمام حلفاء واشنطن من «قوات سوريا الديموقراطية» أو «جيش سوريا الجديد» لتوسيع نفوذهم في تلك المنطقة بدواعي محاربة إرهاب «داعش» وتحميل وزير الخارجية الأميركية جون كيري الجيش السوري مسؤولية تلك الغارات، باﻹضافة إلى ضلوع الأمم المتحدة بعرقلة استكمال المرحلة الثانية من مصالحة الوعر في مدينة حمص وسط سوريا، تزامناً مع السعي التركي لتغيير الحقائق الجغرافية على الأرض في الشمال السوري وإعلان أنقرة عن احتمال زيادة التوسع نحو الجنوب بمسافة تزيد عن 900 كلم، في إطار عملية «درع الفرات».
حساسية المرحلة الراهنة التي تنبئ بفترة تأزم سياسي وتدهور ميداني ستنعكس إثارةً في المشادات والقصف السياسي المتبادل داخل أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة نتيجة انخفاض مؤشرات التوصل إلى مخارج وحلول سريعة لإحياء التفاهم الاميركي الروسي في اللقاءات الدبلوماسية، الأمر الذي استثمرته كل من السعودية وقطر لممارسة دورهما في الرقص على حبال المستجدات وتعقيد المشهد السوري من خلال حشد كل الإمكانيات لعقد المجموعة الدولية لدعم سوريا وخلط الأوراق من جديد والعودة إلى نقطة الصفر والمطالبة برحيل الرئيس السوري بشار الأسد وتسليم السلطة وتزويد المجموعات المسلحة بمختلف تصنيفاتها بالغطاء السياسي لما تقوم به... في انتظار الرد السياسي والعسكري لدمشق وحلفائها ضمن الخيارات المفتوحة قبيل الانتخابات الأميركية.
* كاتب وباحث سوري