بيروت 1982. الهدف: كسر مدينة الفدائيين. نصف اللبنانيين تهجّروا ولجؤوا إلى بيروت، أما اليوم فبيروت، أيضاً، تحت النار. العدو من ورائهم، وفي المبنى المجاور. قليلة هي الخيارات. أسهلها صعب، وأصعبها سهلٌ على العقل والقلب معاً. المدينة تهتزّ لسبع وستين يوماً، دون أن تقع.

■ ■ ■


«يا مهيرة العلالي فرسانك ناطرين/ وإن يهدر الشمالي قوليلن حاضرين». الصوت يضرب الأذنين في المسيرة. أحاول رفع رأسي لكن شيئاً ما يثقله... إمّا شمس إبل السقي ثقيلة في هذا اليوم من أيلول، أو ثقل ما نمشي خلفه. كسيقان هزيلة من دوّار الشمس ندور حيثما دار الحمل. التابوت المرفوع فوق الأكف، والأحمر فوقه.
كان للشمس خفقان مختلف لفّت الأعلام الحمراء بحنوّ. كان لون الضوء جميلاً، حنوناً، سعيداً بما صُنِع هنا، بما شهدته مصطبات هذه البيوت، وبما صنع الرفيق كمال.
خطوات بطيئة، فالمسيرة كبيرة. كنّا نمشي على كل تلك التويجات الحمراء والبيضاء التي يرميها أهل القرية. «فرش لنا الأرض بالأحمر» قلت في نفسي. بين زواريب القرية روائح التين، والعنب، والسرو، والصنوبر المسلوقة تحت الشمس. تفاجؤنا تلك الرائحة الدافئة. هل كان الرفيق كمال يحبّ أن يمرّ من هنا؟ فلا يشبع من الرائحة ويسرق حبتي تين وعنقود عنب...

■ ■ ■

شمس إبل السقي
ثقيلة في هذا اليوم
من أيلول

كيفما التفتَت، ترى الدخان حولها. لا شيء سوى بقايا حيوات. في الطريق، تجلس فتاة على ركبتيها، كوع الحجّة السبعينية غارز في كبدها، وعلبة كرتونية كبيرة تفصل بينها وبين باب السيارة. صرخت أمّها بها أن تنزل من السطح : «اتركي السمّاقات هلق، يحرق****، بلّش القصف!». تراكضن ولملمن ما استطعن حمله من الثياب، والقليل من التين، ورغيفين كبيرين، وثلاث قطع جبن. ركضت وجاراتها والأطفال إلى الساحة. هناك تجمّع من معه سيارة، وحمل ما أمكن من نساء وأطفال.
قبل صيدا بقليل، أحسّت بخدر في أصابع يدها اليسرى. انتبهت إلى أن الأصابع كانت مشدودةً على شيء ما. فتحتها ووجدت طرف فستانها متكوّماً في كفّها. كانت تحس بأنها تغرق. تقع في حفرة لا قعر لها، فتمسّكت دون وعي بنفسها للنجاة.

■ ■ ■


المئات في المسيرة. كأننا هنا في مهمّة حزبية... نمشي كعساكر متعبين دون انكسار. أرى تلامذته يحملون النعش. بدلات عسكرية «كاكية»، وأجسام رياضية، ورؤوس بيضاء أو رمادية، تحتضن الخشب الأشقر.
تميل تحته، تهتزّ أحياناً، تتبدّل لترتاح... وعيونها دائماً عليه. الكثير من الدموع تحت تلك الجباه القاسية. في القاعة الكبيرة، جلست النسوة والنعش بيننا. كلنا نرتدي الأسود، إلا سيدة سبعينية وكأني بها الأصغر بيننا، بقميص قطني أحمر عليه مطرقة ومنجل، تكسر رتابة سوادنا ووجوهنا الباكية.

■ ■ ■


منذ سنة وهي في بيروت. منذ سنة وهي تحاول الرجوع. بيروت اليوم تحت الحصار. تشعر بأن ما تهرب منه هو قَدَرها. أين تهربين من المحتل؟
ستة أسابيع وخمسة أيام والمدينة محاصرة، تهتزّ كعلبة الكرتون التي رافقتها في السيارة من قريتها. 17 أيلول، «بيروت تحت الاحتلال». وقفت أمام نافذتها تراقب الشارع. «أريد أن أنزل وألاقيهم تحت قبل أن يصلوا هم إلي». ساعة ونصف وهي واقفة تراقب مارّة متشنّجين، يركض أحدهم بخوف أو تمشي إحداهنّ كغائبة عن الوعي.
ثم انقسم مشهد الشارع من النافذة. دخلت جزمة خضراء تبعتها جزمة الرجل الأخرى ثم خوذة حديدية من اللون نفسه. مشى حتى زاوية إطار النافدة ثم توقّف، ملكاً متوّجاً على شارع و»زاروبين» وست قطط وسبع «كومات» زبالة والكثير من الجرذان.
شدّت على الستارة مزّقتها. ربطت شعرها، ونزلت إلى الشارع.

■ ■ ■


نحمله لآخر مرّة. فجأة، صمت عميق يحلّ على قافلة من بضع مئات. لم يطلب منّا أحد أن نسكت. في خطوات هي أشبه بركعات متتالية، زحفنا به منحدرين نحو شجرات كثيفة. ارتفع التابوت لدقائق، رفاقه يحيونه. تلامذته. تراقص التابوت فوق، ووراءه كان جبل الشيخ.
بدا المشهد وكأنه مخطّطاً له. «هو» بالذات، «المعلّم» يحمله تلامذته، يرقصون معه أمام جبل الشيخ، يقول له «حرّرنا منك ما استطعنا يومها، وسنحرّر الباقي يوماً ما».
كان للشمس ضرب خفيف على الأعين. أودعناه هناك. أنزلناه عن الأكف، ولم ننزل حمل غيابه عنّا. هناك، أودعنا الأرض أغلى من كان.

■ ■ ■


من الغبيري، إلى المزرعة والمنارة ـ والحمرا والمصيطبة والبسطة، نزل الناس إلى الشوارع... «وحدهم يقاتلون». مشت بين شوارع لا يعرفها هو وتعرفها هي جيداً. ركضت تختبئ بين السيارات، خلف كومة زبالة وبقايا بناية لفظت حجارتها وأهلها. رأت شابين يختفيان داخل مدخل المبنى الحديث في أوّل شارعها، فلحقت بهما.
صعدوا إلى شقّة الجار العجوز. فتح لهم الباب، ودون أن يتكلّموا، دخل وأحضر لهم بندقيته.
نزلوا إلى الشارع حيث حملت البندقية للمرّة الأولى. شدّت عليها كما شدّت على فستانها يوم الهجرة من الجنوب، تمسّكت مرّة أخرى بنجاتها.
في غرفة الكنيسة، وقفنا أمام النافذة الكبيرة. هواء بارد يدخل منها، وأمامنا تلال إبل السقي، ووراؤها جديدة مرجعيون وعلى جانبها بلاط. أراض حرّرها الرفيق كمال.
تحت النافذة، كانت صنوبرتان، وبضع شجرات سرو، وتين، وكروم عنب... والكثير الكثير من السنديان.