خرج راشد الغنّوشي مؤخراً ليعلن فصل عمل حزب النهضة الدعويّ عن السياسيّ، منهياً بذلك، في الشكل، ارتباط المسارات السياسيّة والدينية في أحد أكبر وأنجح أحزاب الإخوان المسلمين. ربط معظم المحللّين هذه الخطوة بالتدهور الذي أصاب مشاريع الإسلام السياسي على امتداد العالم العربي بعد عام 2013 ووضعوه في خانة اجتراح حلول جذرية للخروج من أزمة بنيويّة، بدأت تهدد هذه المشاريع.في المقابل، يرى البعض الآخر هذه الخطوة مجرد تغييرٍ للعناوين دون المسّ بجوهر المشروع، أي أنّ أهداف التنظيم لا زالت على حالها، ولكن جلّ ما حصل هو دفع الطابع الدينيّ إلى خلفيّة الصورة.
هذه الخطوة دفعت بموضوع أساسيّ، لم يكن في الحسبان، إلى الحيّز العامّ: هل بإمكان حركات الإسلام السياسيّ تقديم مشاريع جامعة تشمل كل أطياف المجتمع؟ وإن صحّ هذا، ما هي الأسس النظريّة التي ستُبنى عليها هذه المشاريع؟
لا يمكن مقاربة هذا النوع من الأسئلة دون البحث في أدبيّات المنظّرين الإسلاميين الذين خرجوا من قوقعة الشكل التاريخي للحكم في الدول الإسلامية، إلى قراءة للإسلام تعيد الاعتبار للأهداف الإنسانيّة الجامعة، من مبدأ الحكم والسلطة. وأبرز هؤلاء الشهيد علي شريعتي.

إسلام الثورة على الطغيان

يُعتبر شريعتي من أهم منظّري الثورة الإسلامية في إيران، ومن أوائل علماء الاجتماع الإسلاميين الذين قرأوا التاريخ الإسلامي قراءة اجتماعيّة أكاديميّة. ولم يكن منظراً فوقيّاً منعزلاً عن الجماهير، بل كان من الذين توجّهوا بخطابهم إلى الجماهير عبر طرق غير مألوفة لدى نخب ذلك الوقت، بالأخصّ النخب العلمانية. فبالإضافة إلى مؤلّفاته ومقالاته في الصحف المحلّية، استعمل شريعتي منبر «حسينيّة الإرشاد» في طهران، حيث حرص على أن يلقي خطبه التي سُجّل جزء كبير منها ووُزّع، ليعاد سماعها في كافّة المناطق الإيرانيّة. ويوصّف حامد كار، في مقدّمته لكتاب شريعتي «الماركسيّة وغيرها من المغالطات الغربيّة»، تأثير جهود شريعتي بعمليّة إيقاظ اهتمام وثقة جديدين بالإسلام. إذ قدّم شريعتي الإسلام بصورة العقيدة العالميّة الشاملة والثوريّة المتفوّقة على سواها من العقائد السابقة واللاحقة. اجتذبت هذه الجهود جزءاً كبيراً من طبقة المثقفين العلمانيين، الذين كانوا قد نفروا من الدين ومن الجموع الإيرانيّة، وأعادهم إلى الإسلام كحجر زاوية في الحيّزين الشخصيّ والوطنيّ. وكان أساس هذه القدرة فهمه للإرث الفكريّ الغربي، وتبحّره في أدبيات دعاة «الحداثة السطحيّة» و{مواءمة العالمين» (أي الحداثة والتراث الإسلامي)، فتمكن من تقديم نظريّة متينة وجديدة ألهمت وأقنعت الملايين من الإيرانيين.
يقول ولي نصر، في كتابه «الديمقراطية في إيران: تاريخ البحث عن الحريّة»، إن شريعتي كان شديد الشعبيّة بين الطلاب وفئات الشباب في الطبقة الوسطى الدنيا، من الذين اجتذبتهم الماركسيّة. فقد وجدوا في ما قدّمه شريعتي نظرة «شيعيّة تقدّميّة» تسعى إلى المقاومة الاجتماعيّة والثوريّة السياسيّة.
اختلف شريعتي مع الماركسيين التقليديّين بشأن أهمّية القوميّة كفكرة

ألبس شريعتي نظريّته السياسيّة لبوساً ماركسيّاً فوق هيكل إسلامي. وصنّفه الكثير من الباحثين الغربيين بالماركسيّ، حتى أنّ بعضهم ابتدع له تصنيفاً جديداً: الإسلامي الماركسيّ. في الحقيقة علاقة شريعتي بالماركسيّة معقّدة وتشوبها الانتقائيّة. يقول يرفاند أبراهميان، في مقاله البحثيّ «علي شريعتي: منظّر الثورة الإيرانيّة»، إن شريعتي رأى في ماركس ثلاثة أشخاص، الأول ماركس الشّاب الفيلسوف الملحد الذي يدعو إلى الماديّة الديالكتيكيّة والذي ضخّمته الاشتراكيّة الأوروبيّة والشيوعيّون في سياق صراعهم مع الكنيسة لينسفوا في طريقهم أي شكل آخر من أشكال الدين. أمّا ماركس الثاني فهو ماركس الناضج، عالم الاجتماع الذي وضّح كيف يستغلّ الحاكم محكوميه، إضافةً إلى إيضاحه كيف تعمل قوانين «الحتميّة التاريخيّة» وليس «الحتميّة الاقتصاديّة». وماركس الثالث، وهو السياسيّ المتقدّم في العمر الذي «يصنّع» حزباً ثورياً ويطلق توقّعات سياسيّة عمليّة ومناسبة ولكن ليست بالضرورة مطابقة أو على مستوى منهجيّته كعالم اجتماع.
رفض شريعتي ماركس الأول والثالث، مصنّفاً ما ينتج عنهما «بالماركسيّة المبتذلة»، واستعان بالكثير من ماركس عالم الاجتماع الناضج. فقبل بنموذج الصراع الطبقيّ السياسي - الاقتصادي، والبنية الفوقية العقائدية السياسية، حتّى أنّه وافق على أنّ معظم الأديان تشكّل عامل تخدير للجماهير بوعود أخرويّة. ولكنّه في المقابل رفض الماركسيّة «المُمأسسة» التي حملتها الأحزاب الشيوعيّة، التي فقدت حماسها الثوريّ تحت تأثير البيروقراطيّة، وانتقدها لأنّها ترفض الاعتراف بأن الصراع الحاليّ (في حينه) لم يكن صراع رأسماليين وعمّال، بل صراع إمبرياليين مع العالم الثالث. ووصّف الأحزاب الشيوعيّة والاشتراكيّة الأوروبيّة بالرجعيّة على خلفية مواقفها (بالأحرى ضعف مواقفها) من حركات التحررّ في الجزائر وتونس وفييتنام.
كما اختلف شريعتي مع الماركسيين التقليديّين حول أهمّية القوميّة كفكرة، فبينما اعتبروها أداة يستعملها الحكّام لإبعاد الجماهير عن الأمميّة والاشتراكيّة، وجدها شريعتي ضروريّة لإعادة اكتشاف الهويّة الشعبيّة والقوميّة، حتى تتمكّن الشعوب من استعارة التكنولوجيا من الغرب دون فقدان الثقة بنفسها وتالياً ضياعها في ركب المخطّطات الاستعماريّة.
يقول علي رهنما، في كتابه «إسلامي مثاليّ: سيرة سياسيّة لعلي شريعتي»، إنّ شريعتي حدّد شرور الرأسماليّة بثلاثة: الاستبداد و{الخيانة الدينيّة» والاستعمار، واضعاً الاستعمار كأولويّة. وعلّل هذا بأنّ أيّ صراع آخر سيؤدّي إلى فقدان الزخم الثوري وتصديع جبهات الوحدة الداخليّة.
بنى شريعتي مفهومه للخيانة الدينيّة على أساس تفريقه ما بين الإسلام السائد، وهو أداة في يد الحكّام لتطويع الشعوب، وبين الإسلام الحقيقيّ الذي رآه في نموذج النبي محمد، ومن بعده علي. وهذا الإسلام الحقيقي، بحسب شريعتي، اختفى تدريجياً مع دخول طبقة قريش البرجوازيّة إلى الحكم، ولم يبق منه إلّا بعض النقاط المضيئة في التاريخ الإسلامي، والتي تمثّلت في معارضي استبداد الحكّام (الخلفاء)، وهم بأغلبيتهم شيعة، ومعارضي المؤسسّة الدينيّة السائدة، وهم متصوّفة.
في الحقيقة لا يمكن تجاهل نزعات شريعتي الغنوصيّة (العرفانيّة/ التصوفيّة)، وآثارها على نظريّته السياسيّة. ويشير رهنما إلى صراع شريعتي مع نفسه بما يخصّ هذه النزعة العرفانيّة، فبينما تقتضي ممارسته للعرفان أو التصوّف اعتزال الناس، وجد أنّ واجبه هو العمل السياسيّ في الحقل العام. ولم يصل إلى سلام فعليّ مع نفسه، إلّا حين واءم بين النزعتين، حين اعتبر أنّ تجارب الانسان الغنّوصيّة ما هي إلّا طريق لتعليم الذّات على تخصيصها في سبيل مصلحة الناس لتفتح الطريق إلى الخلاص من القيود الدنيويّة، ومن ضمنها حبّ الحياة الدنيا، فتتحقّق مرتبة المقاتل في سبيل الله.
نشأت على إثر هذا عند شريعتي ثنائيّة التوحيد والشرك. فالتوحيد الحقيقيّ ليس الالتزام بالطقوس الدينيّة بل الالتزام بمصلحة الناس وذوبان الذّات بذات الجماعة، بينما الشرك هو العمل ضدّ مصلحة الجماعة مع المستبدّين. وعليه نظّر لما سمّاه بالتشيّع العلويّ (أو الأحمر نسبة للون الدم في إشارة إلى قيم الثورة المتجذّرة منذ الحركة الحسينيّة)، الذي هو مصداق الذوبان في ذات الجماعة، ويقابله التشيّع الصفويّ (الأسود نسبة للون الحداد، في إشارة منه إلى الإحياء العاشورائي السائد حتى زمنه، والذي يطمس قيم الثورة في الحركة الحسينيّة) الذي يخدم السلطان. ظهّر شريعتي هذه الفكرة في أدبياته عبر استحضاره الدائم لعاشوراء، فالحسين (ع)، حسب قوله، هو الشاهد على كل شهداء الظلم عبر التاريخ، ووريث كل القادة الذين سعوا إلى الحريّة والمساواة والعدل، وهو رسول الشهادة السرمديّ وتمظهر الثورة الدمويّة. هذه النظرة تضع كلّ من ناضل من أجل رفع الظلم والاستبداد في مصاف الموحّدين، وإن كان من غير أتباع الأديان الإبراهيميّة، وتضع الخانع أمام السلطة في مصاف المشركين.
في الحيّز السياسيّ العامّ، شارك شريعتي، مع آية الله طالقاني ومهدي بزركان ومصطفى شمران ويدالله صحابي وصادق قطب زاده، بتأسيس حركة تحرير إيران عام 1961. كان لهذه الحركة تأثير كبير قبل وبعد الثورة الإسلاميّة. فقد تقلّدت هذه المجموعة من الأسماء (باستثناء شريعتي المستشهد في حينها) مناصب أساسيّة ومحوريّة مباشرة بعد الثورة. وكان لشريعتي التأثير الفكريّ الأكبر على أعضاء الحركة، وحتّى على بعض مؤسّسيها. ولكن تأثير الحركة ومؤسّسيها لم يقتصر على إيران فقط، بل تعدّاه إلى لبنان. فقد كانت علاقة الإمام موسى الصدر القويّة بالحركة معروفة، وتوطّدت أكثر مع انخراط مصطفى شمران بحراكه في لبنان وانضمام صادق طبطبائي (ابن أخت الإمام) إلى الحركة.

إمام الجماعة

كان من نتائج هذه العلاقة فتح الطريق أمام مئات الشباب الإيرانيين المرتبطين بحركة تحرير إيران، ليتدرّبوا في مخيّمات منظّمة التحرير الفلسطينيّة في لبنان، واستعمال بيروت كملاذ آمن للعشرات من كوادرها الأساسيّة، بحسب مذكّرات شمران. ولكن لم تنحصر علاقة حركة تحرير إيران بحراك الإمام الصدر بالحيّز التنظيميّ، بل تعدّتها إلى استلهام الكثير من المخزون الفكري الناتج عن شخصيّات الحركة ومحاولة تركيبه ضمن منهج عمل الإمام بما يتناسب مع الظرف اللبناني.
ويستنتج رودجر شاناهان، في كتابه «شيعة لبنان: العشائر والأحزاب ورجال الدين»، أنّ لشريعتي تأثيراً على شكل حراك الإمام الصدر. ويعللّ ذلك بتقاطع أفعاله في لبنان مع محتويات خطب ومقالات شريعتي بما يخصّ دور رجال الدين في الحيّز العام وضرورة توجيه جهودهم ضدّ الاستبداد. ويوصّف مؤلّفو كتاب «توقّعات الألفيّة: التشيّع في التاريخ»، ما قام به الإمام الصدر بأنّه إلغاء الفصل بين ما هو دينيّ وما هو دنيويّ، وهو ما كان سائداً بين رجال الدين الشيعة وقتها. ويضيفون بأنّه وسّع دور رجل الدين، من قيادة الطقوس الدينيّة، ليشمل كل ما هو محطّ اهتمام ومصلحة المجتمع. وتشهد على صحّة هذا التحليل كلمات الإمام الصدر ذاته في توصيف دور «إمام الجماعة»، فهو السبّاق إلى السعي في مصالح المجتمع إلى درجة أنّه يجب أن يكون مستعدّاً للشهادة دونها.
ويتّضح هذا الرابط بين الإمام الصدر وشريعتي، أكثر، في أوجه استعمال عاشوراء ضمن الخطاب السياسيّ والاجتماعيّ للإمام. ويسلّط برنارد رايخ الضوء على هذه الجزئيّة من حراك الصدر في كتابه «القادة السياسيّون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المعاصريْن». فيقول إن الصدر قد أجاد استعمال كربلاء ليحفّز مناصريه. والأكثر إيضاحاً في شرحه لكيفيّة استعمال الإمام لعاشوراء كان فؤاد عجمي في كتابه «الإمام المغيّب: موسى الصدر وشيعة لبنان». يشرح عجمي كيف نقل الإمام الصدر السرد الكربلائيّ من نفَس الهزيمة ومحدوديّة الهدف بإثارة الحزن، إلى «احتفاليّة تحدٍّ» ضدّ الطغيان، يستعملها لنقل أفكاره إلى الجماعة.
لم يقتصر جهد الصدر على منبره أو صوته فقط، فيروي هوشناغ شهابي، في كتابه «علاقات بعيدة: خمسة قرون من الروابط الإيرانيّة اللبنانيّة»، عن لسان مصطفى شمران كيفيّة توسيع الإمام لدائرة تأثيره ووصول أفكاره إلى المجتمع. فيتحدّث عن مشاركته في إلقاء محاضرات في العقيدة الإسلاميّة ضمن حلقات دروس في صور مخصّصة للأساتذة والمعلّمين من كل القرى المجاورة. ثم يشرح كيف انتقلت هذه الحلقات إلى بيروت فيما بعد، وكيف أصبح خرّيجو هذه الحلقات الأساس الأول في حركة المحرومين.
حقيقة الأمر هي أنّ الإمام الصدر قد أتى إلى مجتمع، بحسب توصيف عجمي، مشرذم ويفتقر اللحمة والتعاضد الداخليّين. يوصّف يسري حزران، في بحثه «المجتمع الشيعيّ في لبنان: من التهميش إلى الصعود»، ما قام به الصدر بأنّه عمليّة تعبئة للوعي الجماعيّ الشيعيّ عن طريق تظهير هويّة فريدة للجماعة ودور سياسيّ خاص ضمن المجتمع اللبنانيّ.
يمكننا القول إنّ هذه الهويّة المبنيّة حول أولويّة مجابهة الطغيان ساهمت بشكل كبير بانتقال هذه الجماعة اللبنانيّة من الشرذمة تحت عباءات الإقطاعيين إلى النظر باتجاه أهداف أسمى، محورها رفع الظلم. ويعيد مؤلّفو «توقّعات الألفيّة: التشيّع في التاريخ» سبب التلاحم، الذي أظهرته هذه الجماعة، مع الثورة الفلسطينيّة إلى ما أوجده الإمام الصدر داخلها من هويّة تتمحور حول قراءته السياسيّة لكربلاء.

الهويّة وصناعة البيئة

مع الإمام الصدر تحوّل العمل الإسلاميّ في مجتمع تعدّديّ من هادف لإقامة دولة إسلاميّة، إلى هادف لمواجهة الظلم والطغيان. هذا النموذج الذي يمكن أن يخلق أرضيّة مشتركة للعمل مع كلّ القوى الموجودة على الأرض يجب أن يأخذه الإسلاميون، من أصحاب المشاريع الساقطة مؤخّراً، بعين الاعتبار. لم يفرّق الإمام الصدر بين الدين والدنيا ولكنّه مع ذلك خرج بنموذج قادر، نظريّاً، على الريادة في إدارة دفّة السياسة في المجتمعات التي تتميّز بتنوّع الألوان السياسيّة.
ولكن أهم ما في هدف مواجهة الطغيان، ليس صناعة الأرضية المشتركة مع الآخرين، بل مواجهة مشاريع الهيمنة الإمبرياليّة. فهذه الهويّة التي أسبغها الإمام الصدر على هذه الجماعة اللبنانيّة خلقت البيئة المناسبة لنموّ المقاومات المختلفة ابتداء من المقاومة الفلسطينيّة، مروراً بحركة أمل ومن ثمّ أحزاب الجبهة الوطنيّة، وانتهاء بالمقاومة الإسلاميّة اليوم.
* باحث لبناني