استخدم ميشيل فوكو نموذج "البانوبتيكون Panopticon" أو السجن الذي يمكن فيه إخضاع جميع النزلاء للرقابة، بوصفه خير تمثيل لمفهوم السلطة في العصور الحديثة. في السجن المركزي المذكور، يتقيد السجناء ــ النزلاء بالمكان، ولا يبارحون زنازينهم أو أماكن عملهم، وهم لا يعلمون إذا كان الحراس فعلاً يراقبونهم أو لا، بينما ينعم الحرّاس والمراقبون بحريّة الحركة. وهكذا تمكّنت السلطات من أن تمارس القهر الشديد على الأتباع، من دون أن تضطر إلى الحضور الدائم، إذ يكفيها الإيحاء بالوجود كي ينتظم السجناء.فكرة السيطرة هذه، كانت رغم فعاليتها في مرحلة ما من التاريخ، تعاني عيباً كبيراً. فهي استراتيجية باهظة الثمن. يقول زيجمونت باومان في كتابه عن الحداثة السائلة، إن غزو الأماكن والالتزام بإدارتها والإبقاء على النزلاء داخلها خاضعين للسيطرة والتحكم، إنما يستولد نطاقاً واسعاً من الأعمال الإدارية الثقيلة، والمرتفعة التكاليف: فثمة بنايات ينبغي تشييدها وإدامتها، وثمة كوادر ومراقبون لا بد من إعاشتهم ودفع أجورهم، وثمة حاجات حتى للنزلاء أنفسهم ينبغي توفيرها لمنع تحول الأماكن إلى مكرهات صحية.
كل ذلك يتطلب الحضور والارتباط من قبل المسؤولين، ما يجعلهم على مقربة من "الحدث"، وهو ما يفتح دوماً مجال المواجهة والصراع العنيف.
تنعدم في الحرب السورية الرغبة في الحسم عند المحورين المتنازعين

تحولات التكنولوجيات الحديثة للسيطرة عن بعد، نقلت البشرية إلى مرحلة ما بعد البانوبتيكون. لقد انعدمت الحاجة إلى الارتباط المتبادل المباشر بين الرؤساء والمرؤوسين، بين رأس المال والعمل، بين القادة والأتباع، وحتى بين الجيوش المتحاربة.
سمة السلطة الأهم هذه الأيام ــ وفق باومان ــ هي في الابتعاد والإغفال، والرفض الفعال لكل تقيّد في المكان، وتجنب بناء النظام على الأرض، أو الحفاظ عليه بما يتضمنه ذلك حكماً من تكاليف مالية وبشرية عالية.
هذا الأسلوب الجديد لشكل السلطة انعكس بالطبع على استراتيجيات الحروب والغزوات المعاصرة، بدءاً من حرب الخليج بالذات، والتلكؤ الظاهر حينها في بدء العمليات البرية، وهو تلكؤ يرى الخبراء أنه لم يكن بسبب التحفظات من الآثار السلبية الممكنة على السياسات الداخلية بقدر ما كان بسبب انعدام جدوى المعركة البرية. بل إمكانية تحول الانتصار الساحق في القتال عن بعد، من خلال الطيران والصواريخ (الذكية) الموجهة (وحديثاً من خلال الروبوتات المقاتلة) إلى خسارة فادحة في القتال البري، وهو ما كاد يحدث في معارك مطار بغداد وحصار الفلوجة. وهي المعارك التي لم تحسم إلا باستخدام أسلحة غير تقليدية. وحتى عندما انهارت الدولة العراقية بالكامل، فإن الأميركيين والبريطانيين بدوا كأنهم غير مستعدين للتعامل مع متطلبات إدارة البلاد المحتلة، وتسببوا بتخبطهم في تحويل العراق إلى مأساة بشرية تامة، تفوّقت في مفاعيلها على قنابل هيروشيما وناكازاكي.
ليس غرض الحرب الحديثة إذاً غزو أراضٍ جديدة، والاحتفاظ بقوات احتلال على الأرض، بل تحطيم الجدران التي تعوق تدفق القوى المعولمة الجديدة العابرة للقارات، إلى كل مكان يتبادر إلى ذهن قيادته أنه يمارس سيادة مطلقة من أي نوع على أراضيه، ومن ثم ممارسة السيطرة عن بعد. الحرب اليوم كما ينقل عن كلاوزفيتز "ترويج للتجارة المعولمة بطرق أخرى" تستهدف أساساً كسر كل الموانع، والحدود، والشبكات المحلية، والأسواق المكتفية لمصلحة رأس المال المعولم.
كان منظرو الإمبراطورية الأميركية الاستراتيجيون أول من نفذ تجربة انتقال فعلي من حروب الجيل الثالث ذات الصبغة الاستباقية مع استخدام قوة النار الشديدة، وخطوط الإمداد عبر العالم، إلى الجيل الرابع الذي يقوم على إسقاط الأنظمة الصلبة المنتمية إلى عصر الحداثة المنصرم من خلال حروب بالوكالة تشنها على الأرض مجموعات تتسم بأنها سائلة، محليّة، فوضوية وغير مرتبطة بنظام أو مؤسسات ظاهرة، ويسهل إدارتها من خلال التكنولوجيا المتطورة وإمرار الأسلحة الصغيرة، لكن الكاسرة للتوازن لها عبر الحدود المخترقة من آلاف النقاط.
يستحيل تقريباً على أي نظام تقليدي، يعمل وفق معطيات شكل الدولة، في معظم القرن العشرين مواجهة مثل هذا الهجوم. لذا سقط حكم العقيد معمر القذافي خلال أشهر، وانكفأ النظام السوري عن مناطق واسعة من البلاد، ولم يعد مجدياً من ناحية التكلفة البشرية والمادية الاحتفاظ بها. وهذا ليس خياراً استراتيجياً للنظام السوري، بقدر ما هو استيعاب لتحولات الأزمنة المعاصرة، التي فرضت نفسها على الجميع.
حزب الله اللبناني كان قد راكم تجربة ممتازة في الجنوب اللبناني، خلال سنوات عدّة، كقوة سائلة في مواجهة الجيش الإسرائيلي المحتل، الذي اضطر في النهاية إلى الانسحاب وإزالة مراكزه الرسمية ورموزه من الأرض اللبنانية (ومن غزة أيضاً)، ذلك لوقف نزف الخسائر المترتبة على السيطرة المباشرة على الأرض.
هذه الخبرة جعلت لحزب الله قدرة فائقة على التعامل مع قوى سائلة مماثلة معادية للدولة السورية بأفضل مما يمكن لجيش كلاسيكي أن يقوم به. الجيش السوري الذي دفع أثماناً عالية في الدفاع عن الدولة والبلاد، وفي ظل سقوف التسليح التي يفرضها عليه الحلفاء الذين لهم أجنداتهم الخاصة في هذه المواجهة مع الأميركي، تحول بدوره وبحكم الأمر الواقع إلى قوة هجينة ما بين القوى السائلة والجيوش الكلاسيكية، ولم يعد معنياً بالدفاع عن خطوط ثابتة طويلة، إلا حول العاصمة والشريط الساحلي.
وفي ظل هذه الحرب، التي لا يبدو أنه يمكن لأي طرف الانتصار فيها لانعدام الرغبة في الحسم عند المحوريين الدوليين المتنازعين، نظراً إلى المحاذير والأكلاف، يبدو التدخل التركي العسكري في الجهة الخطأ من التاريخ.
فالأتراك إذا أقاموا مراكز دائمة لهم في الشمال السوري فإنهم يكونون قد دخلوا في لعبة التمركز على الأرض، والأمر سيكون مكلفاً على المدى المتوسط في مواجهة قوى سائلة مضادة، سواء في الجيش السوري في تشكّله الجديد ما بعد الحرب الأميركية ــ أو حلفاء الجيش السوري الذين تحولوا بحكم الأمر الواقع إلى قوى سائلة مناظرة لقوى العدوان، وحتى الأكراد الذين هم قوى سائلة بحكم النشأة والتطور. وهو إن انسحب وترك قوات سائلة حليفة على نسق قطاعات "الإخوان المسلمين" و"الجيش الحر" وغيرها، فهذه ستتدفق بعيداً عن هذه الأراضي في مواجهة أي دفع من قبل الجيش السوري وحلفائه في وقت لاحق.
إردوغان وزمرته بتورطهم في شمال سوريا يدخلون تركيا في صراع دموي مكلف لمصلحة الأميركي، لا خدمة لمصالح استراتيجية تركية عليا. الأميركي الذي يتقن فن إدارة حروب الجيل الرابع سيلعب بالبيادق التركية لتحقيق أهدافه في كسر النظام السوري، ومرة أخرى من دون أن يخسر جندياً واحداً.
لا أحد يعاند مسار التاريخ ويكسب. وعندما تبدأ أكياس الجثث البلاستيكية بالتوافد على المدن التركية قريباً، سيعلم الأتراك إلى أية هاوية أخذتهم "العدالة والتنمية".
* باحث عربي