وسط تزاحم الأحداث وتسارع عناوينها على الساحة الدولية والإقليمية، باتت الرؤية العامة لمنطقتنا الشرق أوسطية تسيطر عليها صور أقرب إلى الرسم السوريالي منها إلى المنطق والواقع. هذا ما يوضّح أمام القارئ والمحلّل أنّ هناك خطة تدميرية ممنهجة ومتّبعة لضرب كيان المنطقة، إذ بات من المستحيل العودة إلى السابق في ظلّ حاضر يعيش مرحلة المخاض العسير، ومستقبل مبهم المعالم، وسط أحداث مفاجئة غير متوقّعة، كالاستدارة الكبيرة لتركيا نحو روسيا بعد الانقلاب الفاشل الذي حصل على أرضها. لم يعد يخفى على أحد أنّ مصير المنطقة قد دخل في دوامة المجهول، التي يتصارع فيها مجموع القوى العالمية والإقليمية. فللأحداث الدائرة قوة تغييرية تعمل على إعادة وضع السيناريوات الجديدة.
بعد إفشال المشروع القومي الذي طرحه الرئيس جمال عبد الناصر مع وصوله إلى الحكم، رزحت المنطقة تحت سيطرة المشروع الصهيوني الذي طرحته الإدارة الأميركية، حيث عمل على تفرقة الشعوب العربية مناطقياً ومذهبياً، من خلال زرع الشقاق والتقاتل في ما بينهم. ومع هيمنة الولايات المتحدة الأميركية على القرار العالمي، تسارعت الأحداث في المنطقة، منذرة بإعلان مشروعها القديم – الجديد الذي تحدّث عنه وزير خارجيتها السابق هنري كيسنجر، وهو «مشروع الشرق الأوسط الجديد».
أعلنت وزيرة الخارجية كونداليزا رايس في حرب تموز 2006 بدء ولادة هذا المشروع، إذ ارتكزت الإدارة الأميركية يومها على سلّة من التقارير التي تشير إلى نهاية قوة الممانعة في الشرق، وأنّ سياساتها باتت أقرب إلى التطبيق.
لقد عملت الإدارة الأميركية منذ تسلّمها رسمياً مفاتيح الحلّ والربط في المنطقة إلى تطبيق خطّتها الساعية إلى:
ستعيش المنطقة مرحلة المخاض الأليم قبل الولادة النهائية

ــ ضمان أمن إسرائيل والحفاظ على وجودها في المنطقة، لأنّ الأخيرة قدّمت ذاتها كحارسة أمينة للمصالح الأميركية في المنطقة.
ــ ضمان استمرارية قيادتها للمنطقة من خلال المحافظة على السيطرة على آبار النفط والتحكّم في أسعاره كسياسية تعتمدها للضغط على كلّ من يقف في وجه أطماعها. هنا يرى العديد من الخبراء الاقتصاديين أن ما يجري في أسواق النفط اليوم يعدّ عقاباً جماعياً (اتّفق منتجو النفط الكبار في العالم والولايات المتحدة، رغم خسارتها من النفط الصخري، على خفض الأسعار من أجل معاقبة كلّ من روسيا وإيران على سياساتهما العدائية لأميركا).
ــ ضمان الأسواق العربية كمستهلكة للمنتجات الأميركية، لا سيما تجارة الأسلحة اليوم، في ظلّ التقاتل الدائر في المنطقة، إذ وفقاً لدراسة أعدّها معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، «سيبري»، حول تجارة الأسلحة في العالم بين عامي 2010 ــ 2014، فإنّ الولايات المتحدة تأتي في الصدارة بنسبة 31% من نسبة تصدير الأسلحة إلى المنطقة.
مع دخول المنطقة في ثورة الربيع العربي، دخلت معها مجموعة من الدول الكبرى التي حاولت كلّ منها تطبيق مشروعها. هذا ما جعل الصراع يتأجّج أكثر فأكثر، خصوصاً مع تداخل المصالح وتوسّع رقعة القتال جغرافياً، ما أنتج جملة من المشاريع المعارضة للمشروع الأميركي.
أما أبرز هذه المشاريع:
ــ مشروع الشرق الأوسط الجديد التي تقوده الإدارة الأميركية، وشركاؤها الأوروبيون والمحليون في المنطقة. هذا المشروع الذي ينسجم مع المخاوف الإسرائيلية التي عبّر عنها رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية هرتس هليفي بأن القتال ضد تنظيم «داعش» في العراق وسوريا ليس من مصلحة إسرائيل الاستراتيجية ما لم يكن مقترناً بمواجهة حزب الله. إذاً، هي جاهزة للقضاء عليه في حال تمّ وضع استراتيجية للمنطقة للقضاء على كلّ التنظيمات المقاتلة على الأرض.
ــ مشروع الممانعة الذي تقوده إيران مع أدواتها وحلفائها في المنطقة، والذي أصبح اليوم منسجماً مع المشروع الروسي بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، حيث سمحت إيران للطائرات الروسية بالإقلاع من مطار همدان لضرب مراكز المعارضة في سوريا.
ــ مشروع الدولة الإسلامية بالمفهوم الداعشي، حيث يحاول التنظيم بناء خلافته، معلناً البغدادي خليفة على هذه الدولة. هذا المشروع الذي يبدو أنه انتقل إلى مرحلة ثانية من القتال، حيث عمد إلى تكثيف العمليات الانتحارية وتوسيع بقعة جغرافيتها لتطال كافة الدول المحاربة لها، علّها تعمد إلى الضغط المعنوي والنفسي على هذه الدول فتردعها عن محاربتها.
إذاً، ستعيش المنطقة مرحلة المخاض الأليم قبل الولادة النهائية، خصوصاً مع تداخل المشاريع، وما على الشعوب العربية إلا العيش في حالة من الترقّب ودفع الثمن وإراقة الدماء واستنزاف مواردها وتشريد أهلها وتشرذم المنطقة. لأنّ صانعي الحرب مصمّمون على خوض المعركة حتى النهاية، وهذا ما ظهر في أكثر من تصريح لهم. أخيراً، يبقى السؤال: هل اقترب موعد إعلان مشروع الشرق الأوسط الجديد رغم تداخل المشاريع الأخرى في المنطقة؟
* كاتب لبناني