منذ سقوط جدار برلين، وتحول النظام العالمي إلى أحادي القطب ـ دون أن نجافي الحقيقة ـ لا تزال الـولايات المتحدة الأميركية المهيمنة والمؤثرة على مفاصل هذا النظام، ولا يمكن أن يحصل شيء على الساحة السياسية الدولية وفي مطلق الجغرافيا السياسية لبلدان هذا النظام دون موافقتها. لقد تحدثت أدبيات سياسية كثيرة بعد أحداث 11 أيلول عن مؤشرات عديدة متوقعة لمستقبل هذا النظام منها ما أكد بقاءه على الأحادية ومنها ما تحدث عن بدء أفول هذه السيطرة، ولا شك أنّ الطرفين لم يخطئا التقدير، لكن كل بحسب نظريته ونظرته لتلك الفترات الزمنية.يمكن القول إن الهيمنة الأميركية قد لا تكون طويلة كما يخال البعض، لا سيما أننا نرى الإخفاقات المتعددة للإدارات الأميركية منذ حرب العراق 2003 مروراً بالربيع العربي فالحرب على سوريا، والتي قد تكون أحد المسامير الأخيرة في نعش «الأحادي» ويمكن لها أن تؤدي في نهاية المطاف إلى انقلاب المشهد في النظام القائم. وما يحصل اليوم من أزمات شرق أوسطية ما هي إلا دلائل على إدارة اللعبة التي ما زالت واشنطن تسجل فيها الأهداف دون أن تمنع شباكها من الاهتزاز.
دراسات أميركية
تشير إلى قرب حصول نظام
متعدد القطبية

الحقائق التي نشهدها بشكل يومي تجعلنا نقول إن ما يحصل في تركيبة النظام الدولي ما هو إلا مرحلة انتقالية تحمل موجات عاتية ذات خطورة شديدة على الاستقرار العالمي، قد تؤدي إلى تراجع هيمنة واشنطن، لا سيما مع تثبيت روسيا نفسها كلاعب أساس في هذا النظام، والتي بدأت تضرب بقوة لتصل إلى القمة ـ وإن كانت إدارة البيت الأبيض هي التي تتربع حتى الآن على عرش هذا النظام ـ حيث سنشهد نهاية لهذا التاريخ، بأسلوب مغاير عما تحدث عنه فرنسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ» والذي يقوم على تصوير بلاد العم سام على أنها المسيطر الأبدي على هذا العالم وسقوط كل الحضارات، لتبدو أميركا كمشهد هوليودي يستخدم في الحرب الناعمة، على أساس انعدام وجود أي التقدم في مجال المبادئ والأنظمة الأساسية.
ما يزيد الوضع خطورة الآن في هذا النظام العالمي والتحولات التي قد تحصل هو الخطر الذي يمكن للشعوب أن تتعرض له، في أمنها واستقرارها وسلامة حياتها، حيث تعمل القوى المسيطرة بشراسة للحفاظ على مكانتها في قمة النظام، بينما تسعى القوى المتسلقة إلى تغيير شكل علاقات القوة. لا سيما أن هناك دراسات تنشر في الولايات المتحدة عن اقتراب حصول نظام تعدد القطبية وحصول انتقال تاريخي، وكأننا أمام جدار برلين جديد ربما تكون من سوريا وما يحصل في المنطقة العربية نتيجة السياسات المتهورة للولايات المتحدة وفق نظرية الدومينو، التي استخدمت كإطار للتخطيط الاستراتيجي الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية وسعى إلى تطبيقها الرئيس إيزنهاور مع نشوء أزمة الهند الصينية في 1954.
لقد حاولت واشنطن اللعب في سوريا بشكل مشابه لخطة الدومينو التي استخدمتها منذ الحرب الباردة ولا زالت تستخدمها في الشرق الأوسط، لتكون لهذه النظرية أطر استراتيجية منذ إعلانها رسمياً من قبل إيزنهاور، وذلك لإسقاط النظام السوري بهدف توجيه ضربة إلى قوى المقاومة، وتأمين الأمن لحليفتها «إسرائيل»، فتكون قد فرضت سيطرتها في الشرق الأوسط دون منازع. لكن التدخل الروسي السياسي أولاً في سوريا ومن ثم العسكري أسقط هذا المخطط.
لقد باتت المواجهة الأميركية ــ الروسية اليوم ليس من أجل سوريا فقط، إنما من أجل التغيير في النظام الدولي القائم، حيث يعمل الأميركي بشراسة لحفظ سيطرته فيما تسعى موسكو جاهدةً بقيادة فلاديمير بوتين لاعتلاء القمة إلى جانب واشنطن وبالتالي تقاسم «كعكة النظام الدولي القائم»، وهنا تستعر الحرب بين الطرفين من جهة فيما يكون الحديث من جهة أخرى على تسويات بينهما.
ويمكن القول إن المشهد لا يزال يبين أن الولايات المتحدة هي المسيطرة وهذا لا يمكن إخفاؤه أو مناقضته لأنه أمر ظاهر للعيان، إلا أن روسيا تسير سريعة نحو القمة، وإن كانت أية تسوية لا تمشي دون المفاوض الأميركي البراغماتي إلا أنها لا تولد بمعزل عن المفاوض الروسي العنيد.
ويمكن الإشارة إلى أن حلب تعتبر إحدى تجليات هذه العلاقة الجدلية القائمة بين الطرفين، ففيما تشن واشنطن حربها بأداة الإرهاب، تستطيع روسيا الالتفاف والمباغتة وأخذ زمام المبادرة في الكباش الحاصل بمساندتها للجيش السوري، فتعيد الكرة إلى ملعبها ليبدأ التفاوض الذي يعتبر الأساس في حل الأزمة الكبرى وتكريس معادلة القوى المتعددة. فالحرب هي أيضاً أداة صلبة للدبلوماسية لا يمكن الاستغناء عنها.
ما تقدم من مؤشرات يجعلنا نقول إن الهيمنة الأميركية لن تدوم كما يتخيلها الأميركيون وأصدقاؤهم، فسوريا هي المرحلة الانتقالية التي يشهدها النظام العالمي، والتي قد تؤدي مع مؤشرات أخرى وأزمات جديدة إلى نظام متعدد الأقطاب يكون للولايات المتحدة الأميركية وروسيا السهم الأكبر والنصيب الأوفر في إدارته دون الاستغناء عن التنين الصيني الذي سيشكل الاقتصاد الأقوى.
* باحث لبناني