ماذا إن كانت الفكرة التي يمثلها "داعش" ــ وكل الأصولية الدينية ــ هي تنويعة جديدة على خط عبارة روزا لوكسمبورغ المعروفة: «يقف المجتمع البرجوازي على مفترق طرق: إما أن يتحول إلى الاشتراكية (تقرأ في عالم اليوم المؤدلج «العدالة الاجتماعية») أو أن ينحسر نحو الفوضى»؟ تعرّض مجتمع الطبقة الميسورة في الخرطوم لهزة عنيفة، في العام الماضي، عندما قرّر عدد غير صغير من طلاب أفضل جامعة خاصة التخلي عن مستقبلهم الباهر، والرحيل إلى العراق وسوريا للانضمام إلى "داعش". تكرُّر حوادث الهروب بين طلاب هذه الجامعة، جعل تجاهل الأمر كمشكلة فردية أمراً مستحيلاً، وفي الوقت ذاته كانت منظومة النخب الفكرية بائسة، بحيث صعُب عليها تفسير الأمر. ربما تجدر الإشارة هنا إلى أنه في أوساط النخب المتعلّمة يحتل «نقد الأصولية» حيزاً هامشياً، إذ يتم التعامل معها على أنها ظاهرة سترحل عنّا من تلقاء نفسها «مثلما حدث في أوروبا». وفي أفضل الأحوال، نطالع من وقت لآخر أحد العلمانيين يتحدث في وسائل الإسلام بعمومية سطحية عن «سماحة الإسلام ونبذه للعنف»، الأمر الذي يقابله الأصوليون بسخرية مستحقة. الاستراتيجية هنا تعمل كالآتي: أنا كليبرالي أكره العنف وأحب الحرية، وأعلم أنني لن أستطيع التخلّص من الإسلام، وبالتالي فإنني سأدعي أن كل ما يمثلني موجود أصلاً في الإسلام، بغض النظر عمّا إذا كان حقيقة أم لا، وهذا يمكن أن نسميه كسلاً فكرياً. لكن دعونا نعود للسؤال: ما الذي يجعل هؤلاء الشبان، الذين يملكون الحاضر والمستقبل، ما الذي يجعلهم هم «بالذات» أكثر عرضة للتأثر بالبروباغاندا الداعشية؟
قد يكمن الشق الأول من الإجابة في حقيقة أن هذه الجامعة هي من الجامعات القليلة جداً في الخرطوم التي يختفي في داخلها أي أثر للنشاط السياسي، فالنشاط السياسي ممنوع من قبل إدارة الجامعة أولاً (ربما لأن النشاط السياسي يمكن أن يؤثر على أرباح الشركة)، وثانياً تلعب الخلفية الاجتماعية للطلاب دورها في جعلهم بعيدين عن أي اتصال جاد مع مشكلات المجتمع (عدد كبير منهم يتلقى تعليمه الأساسي باللغة الإنكليزية في مدارس نخبوية خارج وداخل السودان، ويعيش في أحياء راقية وفي رفاهية، بعيداً عن المشكلات الاجتماعية التقليدية للإنسان السوداني). باختصار، فإن ما يعايشه هؤلاء الطلبة هو نسخة مصغرة من مجتمع «ما بعد السياسة» الليبرالي، الذي ينتظرنا جميعاً. في هذا النوع من المجتمعات، يعتبر الواقع الراهن مسلّمة طبيعية لا يجهد الإنسان نفسه في محاولة تغييرها، وعليه فقط أن يتعايش معها، كما يكون على كل إنسان أن يشغل موقعه في المجتمع بصمت، فالمدير عليه أن يكون مديراً، وعامل النظافة يؤدي مهمته بكفاءة كذلك. أما المشاكل التي ستنتج عن هذا الواقع، فإن إعلاماً ذا كفاءة عالية سيتولى مهمة تقديم التفسيرات بشأنها للناس (من شاكلة أن الفقير عليه أن يلوم نفسه، فهو «فاشل» Looser كما يقول الأميركيون).
وهذا المجتمع، من جانب، هو مجتمع ذو ضغوط عالية: كان على هؤلاء الطلاب أن يقوموا من جهة «بواجبهم»، أي أن يكونوا ناجحين ويحققوا أعلى المراتب المهنية. ومن جهة أخرى، فإن من «واجبهم» أن يستمتعوا بالحياة! وهو أمر لا يُطرح كخيار يذهب إليه الفرد بمحض إرادته، بل هو أقرب إلى الأمر الخارجي. أن تكون «سعيداً» و«مبتهجاً» هي صفات لا يمكن أن تكون من دونها جزءاً من المجتمع، فهنا سيولد الفرد الذي يشعر «بالذنب» لأنه «تعيس». باختصار، فإن المجتمع الليبرالي المفتوح، الذي يتمتع فيه الإنسان بملذات الحياة وبفرص النجاح، له جانب آخر مظلم حيث يشعر الإنسان بأنه مكبّل وتعمل على قهره منظومة أوامر هو لم يخترعها.
وأما من الجانب الآخر، فإن هذا المجتمع هو مجتمع «فاسد»: سيكون من السهل بالنسبة إلى الجميع ملاحظة أن المجتمع ذا التراتبية الصارمة ستتولد في داخله منظومة فساد وفقر بشعة، وسيكون على الناس أن يجدوا «سبباً» لهذا البؤس. ولأننا نتكلم عن مجتمع «عضوي» لا يراد له أن يعترف بأن الصراع الأساسي هو صراع داخلي، فإن «العدو» لا بدّ أن يخلق في الخارج. سيتحوّل كل هذا البؤس، بضربة سحرية من الأيديولوجيا، إلى نتيجة بسيطة لمؤامرة خارجية يقودها أعداء الأمة. إن أساس العاطفة المتفجرة لدى "الأصولي الجهادي" هو شعوره بأن خللاً هيكلياً ما يحول بين مجتمعنا والحياة الصحية؛ هناك ظلم وفساد في كل مكان، والغرب يهيمن علينا ويحتقرنا. وبحكمه المسبق بكفر أي فكر علماني اجتماعي، يفقد هذا "الجهادي" أي قدرة على فهم مركز الخلل، ويبقى فقط أن تضع الأيديولوجيا أمامه التفسير الخارجي البسيط: الغرب الكافر هو من فعل كل شيء. هذه المساحة التي يخلقها الخلل الاجتماعي وغياب أي نوع أو آخر من الثقافة الثورية، هي مساحة خصبة لتكون ما يسميه ثيودور أدورنو «الشخصية التسلطية». شخصية «محبطة» و«غاضبة» من الواقع، ويغيب عنها أي تفسير ذو معنى لكل ما يحدث، وبالتالي فهي شخصية يمكن بسهولة أن تجنَّد في تنظيم فاشي.
وإذا قلنا إن الحركات الفاشية هي تلك الحركات السياسية الشعبوية التي تؤمن بوجود «وطن عضوي»، لا مكان فيه لأي صراع اجتماعي؛ وطنٌ كل أفراده «إخوة» إما بالعقيدة أو بالعرق وتهدف للعودة أو إلى خلق هذا المجتمع العضوي الرائع عبر هزيمة «المؤامرة الخارجية» التي يحيكها العدو الأجنبي، فإنه سيكون من الممكن القول إن «داعش» هو أكثر أشكال الفاشيات التي تنتظرنا بدائية وضعفاً. فـ«داعش» فاشية أصولية غير عقلانية، وبالتالي غير قادرة على التعامل مع السياسة الدولية، وقد تمّ تحويلها بسهولة للعبة في يد القوى الكبرى.
توفر منظومة السلفية الجهادية لهؤلاء الأفراد المحبطين ملجأً يعطي حياتهم نوعاً من المعنى. في مجتمع «ما بعد السياسة» تقتصر حياة الإنسان على إدارة شؤونه الخاصة، يختفي الفضاء العام الذي يعطي الأفراد فرصة لفعل شيء له قيمة لمجتمعاتهم. أي تفكير عن «قضية أخلاقية» سيثير ضحك وسخرية الآخرين. «داعش» يوفر لهؤلاء الشباب فرصة ليس فقط ليهربوا من حيواتهم التي كرهوها، بل كذلك ليستعيدوا وجودهم كأفراد فاعلين في التاريخ. هنا، يمكننا أن نسأل عن الشق الآخر من المشكلة: أين هي الخيارات الأخرى؟
فلنبدأ بواحدة من أكثر فرضيات آلان باديو إثارة للجدل: «اسم العدو اليوم هو (الديموقراطية)». يتم في العادة انتقاد موقف السياسة الخارجية القطرية، بفكرة أن قطر تسعى لإرساء قواعد الديموقراطية في كل مكان، ما عدا قطر. وذلك صحيح طبعاً، ولكن هناك سؤال آخر، أكثر أهمية، ما زال قائماً: لماذا لا تخيف الديموقراطية دولة قطر؟ كيف أمكن فجأة أن يتحوّل أكبر مهدّد للدول العائلية في التاريخ إلى أمر تسعى هذه الدول لإرساء دعائمه بجوارها؟
أصبحت كلمة ديموقراطية تُستعمل لغرضين. أولاً، لتمرير استراتيجية تحويل الصراع الاجتماعي إلى صراع ثقافي، حيث تدمّر قدرة المجتمع على خلق أي تنظيمات غير جهوية حديثة، ثم يتبع ذلك قيام الإعلام برسم خطوط الصراع على أسس طائفية. نهاية هذه الاستراتيجية هو شيء كنظام المحاصصة اللبناني، حيث تتحوّل الدولة من أداة للتحديث وتجاوز الطائفية إلى الأداة التي ترعى الطائفية، وبالتالي تشل المجتمع. أما الغرض الآخر، فهو تصوير حق الانتخاب على أنه الحق الوحيد للمواطن. هذه القوة الشعبية المحدودة (ظهور الناس كل أربع سنوات لإعطاء صوتهم «لأفضل السيئين») يمكن للمنظومة أن تتعامل معها. ويمكن للنخب أن تحقق أكثر من ذلك. أصبحت الأنظمة تستعمل الديموقراطية نفسها لتمرير قوانين تضعف التنظيمات النقابية للناس وتحدّ من قدرتهم على التأثير على المؤسسات التي تشكل واقعهم كالإعلام مثلاً. بالتالي، فإن «سلطة الشعب» أصبحت أنجح طريقة لإضعاف الشعب نفسه. حيث لا يُسدّ الطريق أمام أي تغييرات جذرية فحسب، بل لا يُتاح حتى أي مجال للاحتجاج: أنتم تعيشون في مجتمع حر، وديموقراطي، ماذا تريدون أكثر من ذلك؟ ثم يترك الناس لغبنهم بلا أي تفسير ولا متنفس. هذا الأمر حدث بصورة منهجية في تركيا أردوغان، وهو يحدث بصورة مستمرة في أميركا منذ فترة الرئيس رونالد ريغان.
ولأن مصدر «المطالبة بالديموقراطية» بين النخب في الشرق الأوسط ليس ارتباط هذه النخب بالشعوب، بل تأثرها بالإعلام العالمي، فمن المفهوم أن الديموقراطية التي تتحرك حولها ولأجلها هذه النخب، هي هذه الديموقراطية العدو التي أوصلها لنا إعلامه، وليست ديموقراطية الثورة الفرنسية. وما أدل على ذلك من فكرة أن الديموقراطية عند النخب «ثقافة» تفتقدها شعوبنا، بينما كانت عند روبيسبيير وبقية مخترعي الديموقراطية الحديثة، أداة لانتزاع السلطة تستعملها الجماهير وهي في حالة ثورية، هي جزء من صراع اجتماعي يجعلها تظهر في لحظات امتلاك الشعب للقوة، هي ليست فكرة محايدة «يؤمن» المثقف النخبوي بها. لذلك، من الطبيعي أن تغيب في أوقات غياب الثورة.
في أوساط النخب المتعلّمة، يحتلّ «نقد الأصوليّة» حيّزاً هامشيّاً

وقد امتازت حركات المطالبة بالديموقراطية، التي تشكلت بعد الربيع العربي، بأنها «ظاهرة كلامية»، تنظر لقضية مجتمعاتنا على أنها قضية «وعي». ومن هذا المنطق خرج علينا الآلاف من الشباب النرجسي في وسائل التواصل الاجتماعي ليمطرونا بتعليقاتهم السطحية، التي ملؤها احتقار لنمط تفكير الناس و«وعيهم». وجر علاء الأسواني، على سبيل المثال، هذا المنطق إلى نهايته عندما طالب بأن يقتصر التصويت في الانتخابات على المتعلّمين، لأن الأُميين يصوّتون لـ"الإخوان المسلمين".
ويمكن ملاحظة عُزلة النخب عن المجتمعات، وذلك في عزلتها عن الماضي التقدمي لهذه المجتمعات، وعن الماضي الثوري للعالم. ألا يبدو غريباً أن تواجه مجتمعاتنا معضلتي «التصنيع وتطوير الريف» ويغيب في الوقت نفسه أي حديث عن ثورة أكتوبر في روسيا، وهي ثورة أدت إلى تحويل مجتمع ما قبل صناعي فقير إلى مجتمع صناعي حديث، وعن ثورة ماو في الصين والتي كان قوامها الفلاحون وهدفها الرئيسي تطوير الريف؟ ويجب التركيز على هذين المثالين لأنهما المكان التي تظهر فيه أيديولوجيا النخب. ففي الوقت الذي يتحجّجون بأن تجاهل هذا التاريخ هو بسبب عيب ما في التجربتين، بوصفهما فاشلتين، فإن الحقيقة هي أن هذه النخب، ولعزلتها عن المجتمع، وقعت بسهولة في فخ القبول باللغة التي يتكلمها الغرب على أنها اللغة الوحيدة الممكنة للحديث، وهو بالطبع قبول بلغة المنتصر لا أكثر من ذلك ولا أقل، لأن المنطقي هو أن أدرس وأهتم بشدة بفشل التجارب التي تشابه مجتمعي، لا أن أتملص منها من البداية حفاظاً على صورتي كمعتدل. ويظهر هذا التورّط في الأيديولوجيا، أيضاً، في أن روسيا والصين لم تكونا وحدهما، فنخبنا تتجاهل كل التجارب الاشتراكية في أميركا اللاتينية وحتى تجارب الحركات الجذرية الأوروبية التي لا يمكن جملها في المأزق الشمولي الذي حاق بروسيا والصين. لا يبقى إذن لهذه النخب إلا أن تردّد، إلى ما لا نهاية، الخطاب الرسمي للغرب، لتظهر للناس ــ وهي فعلاً كذلك ــ كمجرد امتداد لقوة هيمنة أجنبية.
العزلة عن أي فعل خلق اجتماعي، كمحاولة استثمار القدرة التنظيمية لهذه النخب في ربط قاعدة المجتمع في تشكيلات حديثة، لن تؤدي إلى تشكل نخب ثقافية ذات معرفة صلبة حتى. إنهما عزلتان متطابقتان، تأتي الواحدة منهما مع الأخرى. فالنخبوي منعزل واقعياً وثقافياً عن إيقاع الشارع، لا يربطه بالناس إلا الأحداث المتفرقة التي يدخل فيها الإنسان بدافع التغيير والتمتع بلحظات من «الأصالة» وراحة الضمير، كالتظاهرات الحاشدة والاحتجاجات المتفرّقة في وسائل التواصل الاجتماعي. أما الالتزام طويل المدى والتورط في أي أمل جدي بتغير جذري، كمحاولة بناء الأحزاب السياسية والحركات الثورية التي لا تهدف فقط إلى انتقاد الواقع أو اتهام الآخرين ــ بل تأخذ على عاتقها مسؤولية بناء الواقع من البداية ــ فهو أمر لا يهم النخبوي كثيراً. كل ذلك جعلهم في النهاية أهلاً لوصف سلامة كيلة، عندما قال إن النخب العربية أخذت موقع «المعلّق الرياضي» على الثورات. أخذوا في البداية يتحدثون كمن تسوقه الأحداث يميناً ويساراً، ثم بعدما حلّت الكارثة أمطرونا ببكائياتهم المملة، بعدها انحدروا نحو تمثيلية مفادها أنهم لا يأخذون الحياة بجدية أساساً.
يمكننا القول إننا فعلاً في لحظة ما بعد «مصطفى سعيد»، الذي خلقه الطيب صالح في رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال». مصطفى سعيد أخذت ردة فعله على معضلة الاستعمار منحى تراجيدياً، وعبّر عن عزلته السياسية بتركيزه شبه الهوسي على كلمة «أكذوبة»، شيء جعل من حياته الملحمية الروائية الرائعة مجرد أكذوبة. في ذلك الوقت، كان الاستعمار يقف بجسده المادي حائلاً بين مجتمعاتنا وأي أمل. تلك كانت تراجيديا فعلاً، ولذلك أمكن في داخلها أن توجد حركات التحرر من الاستعمار. لأن الأفراد كانوا بخير. أما اليوم فنحن أمام مصطفى سعيد مبتهج ومرتاح في عزلته عن الناس. مثلاً، لم تعد الكلمة الأساسية في الصراع مع الأصولية «العلمانية» كلمة يحاول المثقفون أن يوطنوها في المجتمع، رغماً عن أنف الإسلاميين، وإذا فشلوا يكون ذلك الفشل مريراً. بالعكس، تحوّلت الكلمة إلى «ميزة» يحاول النخبوي أن يجعلها من التطرّف، بحيث يضمن بها أنه ليس مثل بقية الناس. ومثلما هو إلحاد ريتشارد دوكينز وسام هاريس في الغرب، وسيلة هيمنة اجتماعية، وصلنا هذا الإلحاد الذي هو وسيلة للتملّص من المجتمع واحتقاره. إنه وسيلة جذرية لتتغير الجنسية والثقافة والانتماء للعالم المتحضر فعلاً. تخيّل معي أن تقرأ "موسم الهجرة إلى الشمال"، وفيها مصطفى سعيد يمشي في لندن سعيداً وقد تجاوز أزمته كمستعمَر. عمل أدبي سخيف ومحزن؟ ربما. في هذه الأثناء لن يكون في مجتمعاتنا أي بديل لأشياء، مثل «داعش» و«بوكو حرام» والأنظمة الملكية المتخلفة والأنظمة الديموقراطية الطائفية. أؤمن شخصياً أنه على هذه الخلفية المتشائمة فقط يمكن طرح «الاختيار الحر»: إما التقدم أو الفوضى.
* كاتب سوداني