"... لهذه الأسباب، فإن هذا الكتاب ليس لأولئك الذين يحتفظون بحيوانات أليفة في منازلهم، أو الذين يشوّهون أنفسهم إزاء الطبيعة، كحالة النباتيين الملحدين؛ أو أولئك الذين يعتقدون بإمكان إيجاد توازنٍ طبيعيّ ما والدفاع عنه… هذا الكتاب ليس للّذين يملكون أفكاراً من أي نوع حول الجنس، بدلاً من فهمه على أنّه رغبات آنية وجامحة. وليس للّذين يتركون آثار أقدامهم في الثلج، أو يقطفون الزهور، أو الذين يُخرجون كلبـ"هم" للتنزّه، ليتفرّجوا عليه وهو يتمشّى ويتبرّز، معتقدين بأنّه يعشق هذه الحياة.هذا الكتاب، بكلمات أخرى، ليس للباحثين عن تناغمٍ في الكون والأشياء، وليس للذين يقدرون على التعبير عن مشاعرهم أو حتى على التفكير بها، والذين يطمحون الى التنبؤ بما سيحصل تالياً… هذا كتابٌ لمن يؤمنون بأنّ ما حولنا أكثر بكثير مما يمكننا التنبؤ به وفهمه، والّذين يتوقون بتحرّقٍ للتعرّف على هذا الواقع".

من الفصل الأوّل


بالنسبة الى أندريا ميكوتشي، فإنّ التّشبيه الأكفأ حتّى نفهم عمل النّظام وكيف يولّد واقعاً "زائفاً" نرى العالم من خلاله هو الكمبيوتر. الكمبيوتر، يقول الباحث الايطالي، آلة غبية، لا تعرف الّا أن تعدّ حتّى الواحد، وهو آلة جرداء، لا تفكّر ولا تحسّ ولا تملك أبعاداً؛ ولكنّ الكمبيوتر، ضمن حدوده هذه وبلغته البسيطة، يقدر على "تمثيل" أيّ واقعٍ تريده، يمكنك أن تدخل فيه أية معطيات، وهو سيحوّلها الى صورٍ ونصوصٍ ونماذج وينتج "تشبيهاً" للواقع. ما فعلته البشرية، منذ أيام هيغل، هو أنّها اعتمدت خطاباً وفلسفةً تشبه لغة الكمبيوتر هذه، وسجنت نفسها داخلها. يسمّي ميكوتشي هذا الخطاب ــــ اصطلاحاً ــــ "الرأسمالية كما نعرفها"، وهذا تمييزٌ مهمّ، فنحن هنا لا نتكلّم على الرأسمالية كـ"واقع" حقيقي يوصّف حياتنا (ولا كنظرية)، بل على مفهومٍ "ميتافيزيائي" عن الرأسمالية (أنتجه "كمبيوتر" محدود، صمّمه هيغل) وهو يحكم افتراضاتنا عن العالم والتاريخ.
لا بدّ من التعريج هنا على نقد ميكوتشي للديالكتيكية كمنهجية لفهم التاريخ. إن كانت "الرأسمالية كما نعرفها" هي الكمبيوتر، في تشبيه ميكوتشي أعلاه، فإن الديالكتيك هو "البرنامج" الذي يشغّل هذا الجهاز وينتج "تنظيراته" عن الواقع. بالمعنى الفلسفي، فإنّ كتاب ميكوتشي، في عمقه وأساسه، هو نقدٌ للديالكتيك الهيغيلي والماركسي، فيقدّمهما كوجهين لعملةٍ واحدة، وكوهمٍ لا مبرّر فلسفيّا له بأيّ شكلٍ من الأشكال (لماذا على الأمور أن تتطور بشكلٍ "ديالكتي"؟ لا النظرية ولا التاريخ يبرران ذلك)، غير أنّ هذا "الوهم" يسمح لنا بـ"تنظيم" التاريخ عقلياً، والتنظير حول عمل الأشياء، والتنبؤ بمسارٍ لها. مشكلة الديالكتيك والعلم البرجوازي (والماركسي)، بالنسبة الى ميكوتشي، هي ليست أنّه "نظرية سيئة"، ولا أنّه "توصيف قاصر" للواقع، بل ــــ تحديداً ــــ في أنّه ليس نظريةً بحتة ولا توصيفاً بحتاً، انّما في مرتبةٍ بين الاثنتين. النظرية الميتافيزيائية (الديالكتيك)، اذاً، تبني "جسوراً" مع الواقع وتدّعي تمثيله وتفسيره والتنبؤ به، فلا تبقى في إطار النظرية، وينشأ لدينا شيءٌ مثل علم الاقتصاد السياسي، يحوّل الأحداث والأمور حولنا الى "تنظيرات"، كفكرة "السوق"، "القيمة"، "العملة"، الخ… يراها مادية وحقيقية وأزلية، فيما هي ليست الّا فكرة نظرية ممسوخة (يستخدم ميكوتشي تعبير hypostatization، التي لم أجد لها ترجمةً وافية بالعربية، وهي تعني ايضاً reification، أي التعامل مع مفهوم نظري على أنّه واقع مادي، وهو خطأ فلسفي شائع).
بالمعنى العملي، التقريري، يعتبر ميكوتشي أنّ اثبات خطأ "الرأسمالية كما نعرفها" سهلٌ وبيّن، بل وبديهيّ: يكفي أن ننظر، لبرهة، الى الواقع من حولنا. من المفترض أننا نعيش في عالمٍ يشكّله "السوق"، مثلاً، ولكن الدول والأمم اليوم أكثرها من مخلّفات القرون الوسطى والعهود الاقطاعية. من المفترض في عالم الرأسمالية، منطقياً، أن تصعد ايديولوجيا كوزموبوليتية تهمّش الهويات الصغرى وكلّ ما لا يستوعبه "السوق"، ولكننا محاطون بحركات قومية واثنية وطائفية. وما معنى استمرار أفكار السيادة والقومية أصلاً، يقول ميكوتشي، في ظلّ وجود سوقٍ عابرٍ للحدود؟ "الرأسمالية كما نعرفها" في مكان، والتاريخ والطبيعة في مكانٍ آخر تماما.
لهذه الأسباب، يمضي الاقتصاديون أغلب وقتهم وهم يشرحون "الاستثناء"، ولماذا لا يعمل السوق كما يجب، ولا يتطوّر التاريخ كما يفترض به أن يتطوّر، ولا يتحرّك الاقتصاد وفق النماذج النظرية؛ وفي "الرأسمالية كما نعرفها" لا شيء يسير وفق النظرية (اصلاً، يقول ميكوتشي، حتى يكون لـ"تنظيرات" الاقتصاد السياسي تطبيق عملي، فإن هذا يجب أن يتمّ في حالة "توازن" للسوق، أي نقطة جمودٍ وانعدام حركة، وهذا ــــ في التاريخ الفعلي ــــ مستحيل التحقيق). بدلاً من التنظير للواقع، يدعو ميكوتشي الى فهمه كما هو: لا يوجد شيء اسمه "قيمة"، "قوة عمل"، "سوق"، كفئات تخترق التاريخ وتعني الأمر نفسه على مرّ العصور، بل هناك ــــ ببساطة ــــ عمّال، بشرٌ، حوادث، صدف، ونقود. كمثالٍ عملي، بدلاً من محاولة فلسفة فكرة النّقد والقيمة المفترضة التي تختبىء خلفه، ورؤية المال كـ"انعكاسٍ" لشيء آخر، يطالبنا ميكوتشي بأن نفهم بأنّ لا شيء فلسفيّاً في الموضوع. كلّ ما هنالك هي النّقود ذاتها ــــ الأوراق والمعادن وأرقام الحسابات ــــ هي ما نعمل ونشقى لأجله، ونكذب لأجله، ونتقاتل عليه. حين نفهم طبيعة الأمور، كما هي، عندها يصبح تغييرها ممكناً.
المشكلة في "ميتافيزياء الرأسمالية"، مجدداً، ليست أنّها "نظرية سيئة"، فهذه أضرارها محدودة، بل في أنّها (كونها تدّعي تمثيل الواقع والتنبؤ به) تنتهي الى التحكّم بالبشر والحيوانات والنّقود والأشياء، وترسم لنا اسلوب حياتنا، وجداولنا اليومية، و"قيمتنا" في المجتمع، بل وعلاقتنا بأجسادنا وعقولنا. ولكنّ هذا "البرنامج" ــــ الذي يدير العالم اليوم ــــ فقيرٌ، ومحدودٌ، ويغرّبنا عن الطبيعة، وهو ــــ بحسب ميكوتشي ــــ السبب الرئيسي لبؤس الفرد والجماعة.
حين نقد الماركسيون الاقتصاد السياسي "البرجوازي"، لم يتوصّلوا الى نقدٍ لـ"الاقتصاد السياسي" ككلّ، بفئاته النظرية الأزلية وفلسفته الديالكتية، بل ركّبوا نقداً ــــ قوياً ومقنعاً ــــ للرأسمالية من داخل منظومة الاقتصاد السياسي نفسها؛ فلم يكتفوا بقبول "التنظيرات" التي خرج بها الاقتصاديون الليبراليون (كالقيمة والسوق)، بل هم ــــ عبر استخدامها ــــ جعلوها "مادية" وأزلية و"حقيقية" أكثر ممّا هي عليه في النظرية "البرجوازية". يكفي أن نقرأ نصوص الخبراء السوفيات وكيف خططوا للاقتصاد الاشتراكي. خلال الحرب الباردة، يكتب ميكوتشي، حين كان الاقتصاديون الأميركيون منهمكين في "التحكم" بالرأسمالية، وخلق شبكة من التنظيمات الكابحة، ومراكز قرار مركزية، ومنع الرّبح من التحول الى هدفٍ وحيد لشركاتهم (عبر الضرائب وغيرها)، كان الاقتصاديون السوفيات يجهدون لإدخال منظومات سعرية الى اقتصادهم، وخلق حوافز ربحية، وإدارة الانتاج عبر برامج حسابية "تقلّد" عمل السّوق. بمعنى آخر، لم يكتفِ السوفيات باعتبار "الأسعار" و"السوق" أنّها نماذج نظرية صحيحة على الورق فحسب (وهو ما قد يجد تشكيكاً حتّى في صفوف الليبراليين)، بل فهموا هذه الفئات "التنظيرية" على أنّها أمور مادّية، حقيقية، تعمل دائماً كما يجب، ويكفي إدخالها الى النّظام الاشتراكي حتّى تؤدي دورها بشكلٍ اوتوماتيكي ومثالي.
ماذا عن البديل؟ وكيف نكتشف "الطبيعة" ونتّصل بالواقع بلا حُجُب؟ هنا يصبح شرح ميكوتشي أقلّ وضوحاً، وهو يعد باستفاضة في كتبٍ قادمة. من الصّعب أن نشرح، في سطورٍ، ما يقصده الكاتب الايطالي عن أن "نحسّ" بدلاً من أن نعقل، وأن نحترم الطبيعة كما هي، وأن نفهم الواقع بلا تنظير. ولكن ميكوتشي يعدنا بأنّ التّحرّر، في جانب أساسيّ منه، لا يحتاج الى عقلٍ فائقٍ أو تدريبٍ أو تعلّم، بل هو في سهولة أن تفتح قلبك وعينيك وتنظرَ.