أعلنت الصحافة الأميركيّة، بداية شهر حزيران الماضي، عن عمل هوليووديّ جديد يُحضّر له يتناول حياة المتصوّف جلال الدين الرومي، رافقته ضجّة إعلاميّة، وحملات أخرى على شبكات وسائل التواصل الاجتماعي لثلاثة أسباب رئيسيّة. فالسبب الاوّل هو حلم منتجي العمل بالممثل البطل، الأميركيّ ليناردو دي كابريو. والسبب الثاني، هو قصّة العمل التي تتناول سيرة حياة الشاعر الصوفي الذي تحوّل أخيراً إلى ظاهرة في الولايات المتحدة. أمّا السبب الثالث فهو الاعتراض الكبير من الكثير من الأميركيّين، ذوي الأصول الشرق أوسطيّة، على لعب رجل أبيض دور رجل فارسيّ أسمر البشرة، باعتبار ذلك تزويراً للتاريخ ولطبيعة الشخصيّة. أمّا في بلادنا، فقد استُقبل الخبر بمزيج من الفخر والتهليل للعمل الذي سيتحدّى الصورة النمطيّة الهوليووديّة عن المسلمين، والذي سيجنَّد أحد أهمّ الأسماء في عالم التمثيل لتحدّي هذه الصورة. لم يتوقف الإعلام العربيّ لبرهة للسؤال إذا ما كان العمل سيحاول أن يقدّم صورة للتصوّف بشكل عام، أم أنّه سيكتفي بسيرة حياة الرومي دون رسم استنتاجات. كما لم يتوقف للسؤال في هذا الإطار عن أهمية التصوف التاريخيّة لمجتمعاتنا.
في الواقع يمثّل التصوّف وانحداره مرآة لتطوّر مجتمعات الشرق الاجتماعيّ والسياسيّ، لما كان له من سطوة في الأوساط الشعبيّة، وارتبط مآله في القرنين الأخيرين ارتباطاً عضويّاً بمآل هذه المجتمعات.

الطريق إلى الطريقة: من دلهي إلى سوكوتو
شكّل جمال الدين الأفغاني وعياً سياسيّاً معادياً للاستعمار لكل أهل المشرق

فيما كان كالنار تحت الرماد، يمارس تأثيره الاجتماعيّ والسياسيّ بشكل خفيّ قبلاً، بدأ التصوّف يلعب دوراً ظاهراً في الحياة السياسيّة، مع بدايات مراحل الاستعمار. فقد شكّلت فرق الطرائق الصوفيّة العصب الأساسي لمقاومة الاستعمار، مع حلول طلائع الجيوش الغربيّة في الشرق.
يعدّد فايت موديني في بحثه، «التصوف وحركات المقاومة العنفيّة المناهضة للاستعمار»، الفرق الصوفيّة التي شكلت حركات لمقاومة الاستعمار في شمال أفريقيا، وقد ركّز موديني على حركتي عبد القادر الجزائري (الطريقة القادرية) والسنوسيين (الطريقة السنوسيّة)، التي برز منها عمر المختار. ويضيف موديني أنّ مقاومات الفرق الصوفيّة لم تنحصر فقط في شمال أفريقيا، بل كانت حاضرةً أيضاً في الهند البريطانيّة منذ منتصف القرن التاسع عشر. ويتحدّث أرثر بيولرعن هذا، في كتابه «خلفاء النبيّ الصوفيون»، بإسهاب ويذكر الدّور الذي لعبه المتصوّفة في مقاومة الاحتلال سياسيّاً قبل سقوط الحكّام المحليّين، وعسكرياً بعده، وبالأخصّ مريدي الطّريقة المحمديّة. ويذكر في هذا السياق انزعاج الاستعمار الشديد من وجود شيوخ الطرائق إلى جانب الخانات (الحكّام من أصول مغوليّة). بينما يصنّف مارتن فان بروينسن، في كتابه التصوّف والإسلام المعاصر، مقاومة السنغاليين بقيادة عمر طعل (الطريقة التيجانيّة) في القرن التاسع عشر بالحركة الصوفيّة.
ولم يكن التعبير عن هذا الانزعاج يقف عند التنكيل السياسيّ والعسكريّ فقط، بل تعدّاه إلى التهجّم اللفظي من قبل نخب البلدان المستعمِرة على التصوّف. فتذكر إليزابيث سيرييّه، في كتابها «الصوفيون والمناهضون للصوفيّة»، النظريات التي تداولتها النّخب في فرنسا عند نقاش التصوّف، والتي ترى أنّه ضد الحقيقة والتطوّر، وينبع من كراهية شديدة للحضارة. وقد شارك الفرنسيون والبريطانيون والهولنديون والإيطاليون هذه النظريّات بتآمر التصوّف على تطوّر الحضارة ومهمّة المستعمر في نشرها في البلدان التي تفتقدها في آسيا وأفريقيا.
والحقيقة هي أنّ هذه النُخب كانت قد صُدمت بالتصوّف بعد احتلال هذه البلدان. فالصورة التي رسمها المستشرقون الأوائل عن التصوّف تشي بجماعات دينيّة مسالمة تكره التدخّل في السياسة، وضائعة في عالم خرافيّ منقطع عن الواقع. ولكنّهم اصطدموا بواقع جماعات ملتصقة بواقعها بشدّة، لدرجة أنّها كانت السبّاقة إلى امتشاق السلاح، حيث لم يجد المحتلّ أي شكل للدولة ليقاوم احتلاله. لا بل تصنّفها سيرييّه بأنّها من العوامل الأساسية في «المؤامرة ضد الإمبرياليّة». كلّ هذا دفع إلى خلق تصنيف حديث، جرى تداوله بمفعول رجعيّ، في العقود الماضية؛ هو «التصوّف الجديد».
والتصوّف الجديد هو توصيف أطلقته النخب الأوروبيّة الحداثويّة. ويقول ألكسندر كنيش، في بحثه «التصوّف كنموذج شرحيّ»، إنّ دارسي الإسلام الغربيين يضعون نظريات عدّة لتفسير تحوّل التصوّف إلى مقاومات عنفيّة في مواجهة الاستعمار الغربي. أهمّ هذه النظريّات وأكثرها انتشاراً أنّ الحكّام المسلمين كانوا قد دفعوا باتّجاه تسييس وأدلجة الإسلام مع نهاية القرن الثامن عشر، وذلك لإضفاء شرعية كانوا قد بدأوا يفتقدونها، ولمواجهة أخصامهم من الدول المجاورة والغربيّة. ومن ضمن الإسلام الذي تسيّس وأُدلج كان التصوّف. ويستند أصحاب هذه النظريّة إلى انتظام الكثير من الطرق الصوفيّة في تلك الفترة، تحت غطاء الممارسات والطقوس التي تتبعها المذاهب السنّية الأربعة.
ولكن في المقلب الآخر يقول كنيش إنّ أصحاب هذه النظريّات تناسوا أو لم يطّلعوا على جزء من تاريخ التصوّف. فهم يُظهرون جهلاً ببعض النزعات والعناصر المزروعة في التعاليم و"المؤسّسات" الصوفيّة منذ البدايات. هذه النزعات والعناصر، التي تقدّمت الصورة عند شعور أهل التصوّف بالتغييرات السياسيّة والاجتماعيّة الآتية مع جيوش الاستعمار، خلقت النزعة العنفيّة عند الفرق الصوفيّة المختلفة. لا بل لطالما خاضت الفرق الصوفيّة «الجهاد» ضدّ الخصوم في الداخل والخارج، عند شعورها بتهديدٍ لهويّاتها. وتؤكّد هذه الفكرة إليزابيث سيرييّه حين تجزم بأنّ المتصوّفة استشعروا أنّ الاحتلال لم يكن ماديّاً فقط، بل تعدّاه إلى عمليّة تغيير الهويّة المحلّية للمجتمعات التي يشكّلون عنصراً مركزيّاً فيها.
ويعطينا ما سبق ذكره انطباعاً عن التحدّي الذي شكّله أهل التصوّف للاستعمار. فالاتّهامات المبكّرة والمعلّبة بضدّية الحضارة كانت سمة من سمات تعاطي المستعمرين مع التهديدات الوازنة، التي كانت تواجههم في سعيهم الاستعماريّ. أمّا التحليلات التي تلت فكانت أخطر على القراءة التاريخيّة للتصوّف، فالتنظير للتطوّر بسبب عامل خارج عن إرادة أهل التصوّف، ما هو إلا محاولة لنفي التطوّر الطبيعيّ لحركات مرتبطة بمحيطها، لسلبها شرعيّة التمثيل والدافع.

ذوو القربى أشدّ وطأة

ولكن كل التهديد والتحدّي العسكريّ، والبروباغندا الاستعماريين لم يكونا العامل الأساسيّ في انحدار التصوّف في مجتمعاتنا، بل كان التحدّي الداخليّ أشدّ وطأة على التصوّف منها. فرغم الهزائم التي مُنيت بها الفرق الصوفيّة في معظم جهودها للتّصدي للمستعمرين الغربيين، إلا أنّ المساهم الأساسيّ في انحدارهم وخروجهم من دائرة التأثير العام كان السلطات الدينيّة المحلّية.
يقول كليفورد غيرتز، في بحثه «الإسلام مُراقَباً»، إنّ النقلة النوعيّة في شكل العبادات عند المسلمين أتت في بدايات القرن العشرين ومنتصفه، حيث انتقلوا من شكل «غامض ــ سحريّ» من الطقوس إلى شكل نصوصيّ مدينيّ جاف. والسبب الرئيسي لهذه النقلة هو سعي القيادات السياسيّة لكسب شرعيّة «التنوير»، بهدف ملاقاة الغرب تحت عنوان القوميّة.
والواقع أنّ هذه النزعة «التنويريّة» ليست وليدة بدايات القرن العشرين، وإنما بدأت مع نهايات القرن التاسع عشر. تسرد سيرييّه بدايات التضييق الرسمي المصريّ على بعض الطرق الصوفيّة بإيعاز من الخديوي توفيق، وتمظهرها بشكل واضح مع وصول الشيخ محمد عبده إلى منصب الإفتاء. فالأخير، وأستاذه جمال الدين الأفغانيّ، هما حاملا لواء التنوير الإسلامي، وفاتحا المرحلة، وهما فعلاً مسؤولان عن إعادة تظهير الإسلام الحديث. وتذكر سيرييّه مجموعة من المواقف لعبده تظهر التصاقه الشديد بالنصّ (القرآن، والحديث، وسِيَر السلف الصالح)، ورفضه للأدبيّات التي يتعامل بها المتصوّفة. كذلك تذكر بعض النقاشات التي أجراها عبده مع بعض العلمانيين، التي تُظهر اهتمامه الشديد بإخراج الإسلام بصورة الدين المنطقيّ الذي يتلاقى مع زمن الحداثة وقيمه.
فالأفغانيّ، وهو من أوائل علماء المسلمين الذين احتكّوا بالغرب، حمل همّ مواجهة الصور النمطيّة التي قدّمها الاستشراق المبكّر. ونصوصه في الرد على رينان واضحة في معرض تقديم الإسلام كدين يشجّع العلم ولا يلغيه. يوضّح سيد عرفان حبيب، في كتابه «الجهاد أو الاجتهاد»، كراهية الأفغاني للمستعمرين الغربيين ومستشرقيهم ، ولكنّه يؤشّر إلى تأكيده على ضرورة القبول بالعلوم الغربيّة وبعض المفاهيم السياسيّة كالوطن والجنسيّة، لما فيها من قدرات على التحشيد الشعبي. وللإنصاف، فإن الرجل مسؤول عن تشكيل الوعي السياسيّ المعادي للاستعمار لكل أهل المشرق، بمختلف أديانهم.
ولعلّ أكثر ما حفّز الثنائيّ الأفغاني وعبده على انتهاج طريق «التنوير» وإعادة تقديم الإسلام هو صورة الانحطاط الأخلاقيّ التي قدّم بها أولئك المستشرقون الإسلام. يرسم إيفان كالمار في كتابه «الاستشراق المبكّر» صورة قاتمة عمّا قدّمه مستشرقو القرنين السابع عشر والثامن عشر عن الإسلام، فهو دين الحريم وتلبية الرغبات الجنسيّة المطلقة، حيث كلّ النساء ملك للسلطان ولا رادّ لرغبات الرجال. وفي طريقهما إلى التنوير، قطع الرجلان الصلة مع التطوّر الاجتماعيّ والفقهي الإسلاميّ على مدى قرون، وحملا شعار العودة إلى ممارسة «الإسلام الأصيل» علّهما ينفيان صفة الانحطاط عنه.
وضع هذا الثنائيّ «إسلاماً حداثويّاً» يتماشى بأدبياته مع المتطلّبات السياسيّة للعصر. ولكن تحوّل هذا الإسلام، في ما بعد، إلى أداة استعملها حكّام القرن العشرين في الشّرق لتفكيك المنظومة الإسلاميّة السائدة، ومن ضمنها التصوّف كقوّة شعبيّة فاعلة وواعية وقادرة على تحريك الشعوب. تفكيك سيشعر أهل الشرق بآثاره عليهم، في ظلّ محدوديّة شعبيّة في تجارب الأحزاب من المشارب المختلفة، وخلوّ الساحة لكلّ من ملك المال لنشر «إسلامه».

الاعتدال الإملاء

في ظلّ ما يعصف ببلادنا، نقف اليوم مجددّاً أمام تحدّي الهوية. فأمام فشل الدّول الحداثوية التي أقامها الاستعمار، وانفراط الشكل المجتمعيّ القائم منذ مئة عام، بدأت شرائح اجتماعيّة تنفر من الهويّة التي تشكّلت بفعلهما، وبدأت تفقد الثقة بما هو مسلّم به من صلاحيّة هذه الهويّة للعيش في هذا العالم والزمن. ولا يزيد الحديث، الموجّه من الغرب تجاهنا، عن الاعتدال الأمور إلا تعقيداً. وتشكّل هذه الصورة ضغطاً رهيباً على نخب بلاد الشّرق، لإعادة تشكيل الهويّة ضمن أُطر يحاول أن يفرضها الغرب. وربما أسوأ ما يمكن أن يقوم به هو الاتّجاه إلى القطع مع التطوّر الطبيعي لمجتمعاتنا، إمّا بالعودة إلى زمن سابق، أو باستلهام هويّة تشبه المستعمر، علّنا نعيش بعض مجده. لايمكننا أن ننفي ذواتنا والعوامل المشكّلة لهويّتنا، المتهاوية حاليّاً، والسياق الذي وصل بنا إليها. لا بل ربّما علينا في هذه اللحظات أن نبحث في هذه الهويّات، عمّا هو نتاج تطوّر طبيعيّ، وعمّا هو نتاج الاستعمار، ونسعى لأن نطوّرها بشكل طبيعيّ بعيداً عن ضجيج كل مبهور بقيم جلّاده.
وكما حصل مع جهود عصر التنوير، فقد يؤدّي بنا الدفع باتّجاه أيّ مسار غير طبيعيّ وسلس إلى خلق آثار لعقود تالية ستدفع ثمنها الأجيال دماً وفقراً. علينا أن نأخذ بعين الاعتبار المتصوّفة الذين طوّروا هويّاتهم بما يتناسب والأخطار التي رأوا قبل الجميع أنّها تتهدّدهم. وأهم من يظن أنّ ما نمر به سينقضي لتعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل الأزمة، وكيفيّة تعاطينا مع أنفسنا ستحدّد إن كنّا سنخرج مستقلّين أو مستتبعين.
قد يكون المتصوّفة مجموعات من الناس لم يتلقّوا تدريباً أكاديميّاً حداثويّاً ولم يطّلعوا على إنتاجات الحداثة، قمّة الحضارة في حينه، ولكنّهم آرقوا المستعمر لعقود بعد هزيمتهم، فقط لأنّهم وعوا ما هو قادم، الذي وعاه البعض بعد فوات الأوان، وقرّروا أن يواجهوه بالدّم.
* باحث لبناني