"لقد كُتب الجزء الأكبر من هذا المخطوط قبل زمنٍ ليس بالقليل. وتبعت ذلك مرحلةٌ طويلة من الصّراع، شديدة الإيلام، مررت بها وهي لم تزل بعيدة عن نهايتها. مع كلّ يومٍ جديدٍ يمرّ، يبدو وكأنّ حياتي بأكملها هي بمثابة تصديقٍ على الحجج التي أعرضها في هذا الكتاب. من المفترض أن يكون في ذلك مبعثٌ للرضا، هذا لو أنّي أقدر على النّظر الى المسألة من خارجها. ولكنّني في الدّاخل: والأمر متعبٌ، ولا نهاية له تلوح"من مقدّمة الكتاب

توجد في الحياة الفكرية قاعدةٌ أساسية، مختصرها أنّه ــــ بالمعنى الفلسفي والمعرفي ــــ يجب أن تُبقي "أوراقك على الطاولة" باستمرار. أي أن تظلّ مستعدّاً، على الدّوام، لاحتمالية أنّ ما تؤمن به وتبني على أساسه هو خطأ. وإن لاقيت نصّاً يدّعي دحض ما تعتقد به، فرد الفعل الواجب هو ليس أن تشيح عنه، أو تقرأه بدفاعية وسلبية، بل أن تتحمّس لتصفّحه واستيعاب الحجج المقابلة، ووزنها ومقارنتها بنظريتك، ومعرفة ما إن كانت تتحدّى، بالفعل، أُسسك الفكرية وستدفعك الى تعديلها، أو تغييرها، أو إعادة النظر بها.
هذا، تحديداً، هو التّحدّي الذي يطرحه الباحث الايطالي أندريا ميكوتشي، على الجّميع، في "ميتافيزياء الرأسمالية". في هذا الكتاب، وفي أكثر أعماله، يدفع ميكوتشي بأنّنا جميعاً على خطأ، الثوريين والماركسيين منّا قبل الليبراليين والرجعيين، وأننا نساهم كلّنا في بناء سجنٍ من ميتافيزياء ووهم، هو ما نصطلح على تسميته بالحالة الرأسمالية. حتّى أنّ المفكّرين الّذين فهموا التأثير المأساوي للنظام الحالي على الانسان، يقول ميكوتشي، وكيف يسحق الفرد والمجتمع ويقمع امكانات الحرية، لم يتمكّنوا من التحرّر من ميتافيزياء الرأسمالية ولغتها ومنطقها. التّحدّي الحقيقي أمام الانسان والفلسفة، اذاً، هو في التّحرّر من هذه "الغلالة" النّظريّة، المضلّلة، التي بناها الانسان وسجن نفسه داخلها. الهدف هو أن نعرف "الواقع" كما هو، "الحقيقي" و"المادي" و"الطبيعي"، الذي نلمسه ولا نعقله، تاريخنا الحقيقي وقصّة حياتنا وعالمنا (ومأساتنا)؛ فالتغيّير والتحرّر لن يكونا ممكنين حتّى نتعلّم أن نعي الواقع كما هو ونتّصل به (بدلاً من تمثيلات نظرية مضللة عنه)، ونفهم كم هو بائسٌ وقاسٍ وسهل التغيير. هذا، باختصار شديد، هو النّقد الذي يفصّله ميكوتشي على طول صفحات كتابه ــــ أحد أكثر الأعمال إثارة للكآبة التي يمكن أن تجدها في ميدان الفلسفة.
لا بدّ في البداية، من توطئة فلسفية مبسّطة تشرح منطلق ميكوتشي، وهذا ضروري لفهم حجّته: بالمعنى الابيستومولجي ــــ أي أساس الأساس في بناء الفرضية الفلسفية ــــ يعتمد الكاتب الايطالي نظرةً "فوضوية" الى الواقع. هذا لا علاقة له بالفوضوية كمذهب سياسي، نحن نتكلّم هنا على خيارات ينطلق منها المفكّر في فهم العالم والأشياء. من الممكن أن ترى العالم بشكلٍ بنيوي، وتستخرج وتصوغ بنىً نظرية (الطبقات، الحداثة، الخ) وتعتبر انّها هي ما يحرّك التاريخ، ومن الممكن أن تؤمن بميتافيزياء دينية وخطّة الهية، ومن الممكن أن ترسم العالم على أنّه خريطة لغوية وخطاب. هناك خيارات فلسفية كثيرة. ميكوتشي، من هذا المنطلق، يعتمد (ومعه كثر) نظرةً "فوضوية" تعتبر أنّ التاريخ لا يعمل وفق نظامٍ أو قوانين، وأنّ ايجاد صلات سببية بين الأحداث لتفسيرها ومنطقتها والتنبؤ بها (كالنزعة لتحويل الدراسات الاجتماعية الى "علم") هو محض وهمٍ، وأنّ كلّ من جرّب التنظير لعمل المجتمع البشري وتخريج "قوانين" له قد طاش، فلا شيء "خلف" الكون الّا الطبيعة، ومجرى ــــ لا منطق له ــــ للأحداث، والصدفة البلهاء.
هذا المنطق "الفوضوي" له قوّة معتبرة في العالم الفلسفي، خاصّة إن أردت أن تجادل أحدهم وأن تهدم نظريته، فمن الصّعب اليوم أن تركز أي نظريّة على قاعدة صلبة ــــ ليست جوهرانية، وليست ثقافوية، وليست بنيوية، ولا تقوم على فكرة العرق والأمة ــــ فكلّ ما سبق من شبه المستحيل الدفاع عنه، أو اثباته، فلسفياً (احدى زميلاتي في بيركلي، وهي من أصلٍ ايراني، كانت تبدأ صفّها بأن تشرح للطلّاب ــــ الجدد، الشباب، المتحمسين ــــ بأنّه، بالمقياس الإحصائي، فإنّ القدرة التنبؤية للعلوم السياسية توازي تماماً قدرة علم الأبراج). غير أنّ هذه النظرة لا تلزمك بمواقف فكرية أو سياسية محددة: يمكنك أن تكون "فوضويا فلسفياً" وليبرالياً وسطياً، مع تحفّظات حول الادعاءات النظرية للّيبرالية، أو ماركسيا متحفّظاً، لا يؤمن حقّاً بـ"حركة التاريخ". بل إنّ هناك نظرية جدّيّة في أنّ بعض آباء الفكر المحافظ الحديث، كليو ستراوس، كانوا ملحدين وغير جوهرانيين، الا أنّ قناعاتهم السياسية، ومشاهداتهم للحرب العالمية ومدى شراسة الانسان حين يصبح بلا قيد، دفعتهم لكتابة نظرية دينية مُحافظة، تلجم المجتمع وتؤسس لقواعد أخلاقية عليا بين أفراده تستند على تراثه المسيحي ــــ اليهودي.
الّا أنّ ميكوتشي يأخذ هذه الفرضية الى مكانٍ راديكاليّ، والهدف بالنسبة اليه مزدوج: أن نتخلّص من الصّورة الميتافيزيائية عن العالم التي ورثناها، والتي تمنعنا من معرفته وتغييره، واعتماد فلسفة "طبيعية"، تقوم على التواصل مع "المحسوس" و"الطبيعة". والطبيعة، على عكس النماذج النظرية، لا يمكن التحكم بها، وهي ليست قابلة للتنبؤ. الطبيعة، في عرف ميكوتشي، ليست ديالكتية، بل هي مليئة بلحظات القطع، والاختفاء، والصدفة، والمفاجأة. هذا هو "الواقع" الذي يحيط بنا، وكل محاولة لـ"فهمه" عبر تنظيمه وعقلنته وتحويل حركته الى قوانين، هي ميتافيزياء، تمنعنا من الاتصال به وتغييره ــــ حتى ولو افترضنا أننا نعمل ضد الرأسمالية وضد النظام. أن تفهم هذه "الطبيعة"، يقول ميكوتشي، هو تحدٍّ في ذاته، إذ عليك أن تتحرّر أوّلاً من الّلغة التي نستخدمها لفهم العالم والمجتمع (سوق، قيمة، ناتج وطني، الخ) قبل أن نتمكّن من فتح السّتار وملامسة الواقع البسيط والتعرّف اليه كما هو. يعترف الكاتب بأنّ هذه العملية قد تحتاج الى أدوات غير اعتيادية، ومن خارج اللغة الفلسفية المألوفة، وهو ينصح القرّاء بتمارين من نوع أن يوقفوا القراءة، وأن يغلقوا عيونهم، أو يحدّقوا في الأفق، حتّى يفهموا ما يقصد عن المسافة بين النظرية والمحسوس (أنا جرّبت ولم يحدث شيء، ولكن في وسعكم أن تحاولوا).
سنشرح في الجزء الثاني من هذا المقال كيفية تطبيق ميكوتشي لنظريته النقدية، ولكن يكفي هنا أن نعرض مثالاً لما يقصده حين يتكلّم عن وقوع أعداء الرأسمالية في فخّ منطقها. في عصر الحداثة الصناعية، يكتب ميكوتشي، اكتشف النّاس أنّه قد فُرض عليهم نمط عملٍ قاهر للإنسان، يسلبك حريتك وكرامتك، بل وقدرتك على التحكّم بجسدك ووقتك؛ وتشعر، مع مرور السنين، بأنّ حياتك القصيرة تضيع في دورةٍ لا مغزى لها ولا هدف أسمى. ماذا يفعل الاشتراكيون هنا؟ بدلاً من مقاربة ثورية حقيقية لموضوع العمل، والواقع البائس لملايين البشر، يقوم الاشتراكيون بإنشاء النقابات، وتنظيم العمّال، والمطالبة بظروفٍ أفضل ورواتب أكثر وتمثيلاً سياسياً. فـ"يحسّنون" الرأسمالية، ويشاركون فيها، ويقلّدون أنظمتها وأنماطها. بل إنّ الاشتراكيين، من موقعهم هذا، يبدأون بالإعلاء من شأن العمل، ويؤكّدون على حتميته وضرورته، ويجعلون الوظيفة "فعلاً نضالياً". هذه هي الحلقة المفرغة التي يشتكي منها ميكوتشي، ويدّعي أن التحرّر يبدأ بكسرها.
(يتبع)