حين سُئِل الكاتب والأديب يوسف إدريس: «متَى تثُور؟»، أجاب قائلاً: «أنا أثور على المُستوى الشخصي حين أُحِسّ أنّ كبريائي جُرحَت أو خُدِشَت عن عمد»(1). بهذا الأسلوب البديع عبَّر إدريس عن أهمّية قيمة الكرامة التي لاتكتَمِل إنسانيّة الإنسان إلّا بتوفّرها، والتي يستحقّ فقدانها من الإنسان ثورة لاسترجاعها. وإذا انطلقنا من «فقدان الكرامة» كشرط للثورة، فإنَّ الإنسان العربي سيكون أمامه حتميَّة وُلوجه دورة لا نهائيَّة من الانتفاض والتمرّد. حيث أنّ إهانة الإنسان في هذه المنطقة هي الصّناعة الثقيلة الوحيدة التي نجَح العرب في إرسائها بعد فشلهم، إلى حدّ الهنيهة الحاضرة، في دخول مرحلة التصنيع. ولم يكن عبد الرحمن منيف مُغالياً أو مُتطرّفاً في توصيفه لحال الإنسان في بلادنا العربيَّة قائلاً، في روايته شرق المُتوسّط، «أعقاب السَّجائر أغلى منه».لكنّ عمليّة الإذلال المُستمرَّة على الشُّعوب العربيَّة أَوْجَدت عندهم حالة من التعوّد أضعفت قُدرتهم على الإحساس بالنيْل من الكرامة. فاستبدَّ «تقبُّل الإهانة» بالعقل العربي، وعشَّش في سُوَيْداء الروح العربيّة. وأضْحَت الإهانة وضعيَّة عاديّة لا يتنبَّهُ العربي لوُجُودها إلاَّ إذا تجاوز منْسُوبها الحدّ المُعْتَاد أو نَقُصَ عنه، فلَكأنَّها شبيهة بالسكّر في الدَّم لا يشعر الإنسان بوجودها إلّا إذا انزاحَت نسبتُه وخَرَجَت من مجالها سواء بالزيادة أو بالنقصان. فعَلَى سبيل المثال لم يُقدِم محمّد البوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجاً على الإهانة التي لحِقت به إلّا حين بلغت ذُروتها بالاعتداء المباشر عليه، رغم أنّه كان يعيش وضعيَّةً رثَّة سابقة لحادثة الاعتداء لا تخرج عن نطاق الحَطّ من الكرامة الإنسانيَّة. كما لم يُصبح التّونسيُّون أكثر يقظة وتحفّزاً لرفض ما يطال الإنسان من انتهاك لحقوقه إلَّا بعد التقليص النسبي من سَطوة أجهزة القمع البوليسيَّة والحدّ من غَطْرَستها، حيث كانت وظيفتها الأساسيَّة خلال فترة حكم «بن علي» أن تسوم التونسيّين شتَّى أنواع الذل والهوان. هكذا إذاً أمسَى التونسيون أكثر حساسيّةً للإهانة، وهكذا أيضاً يُمكن أن نعتبر الإحساس الجماعي والمشترك بالإهانة مدخَلاً للثورة الاجتماعيَّة تنفُض عن الإنسان غبار الخنوع، وتُخلِّصه من أغلال الخُضوع، وتجعل منه المحور الذي تدُور الحياة حوله.
أضْحَت الإهانة
وضعيَّة عاديّة لا يتنبَّهُ
العربي لوجودها

فالثورة هي تعبيرٌ عن تَوْقٍ جماعي لاسترداد الكرامة السليبة، أمَّا انعدام الإحساس بالإهانة فيُمثِّل دعامةً للدولة العربيَّة وأجهزتها، التي تعمل ليل نهار لتحويل الشعب إلى مجموعة من البِغال تئٍنُّ في صمت، ويزيدها صلابةً وثباتاً. بينما يُولّد الوعي بحياة الذّل التي يحياها العربي نزُوعاً جامحاً ورغبة جيَّاشة في استرداد وإنقَاذ الكرامة المَنْحُورَة على مذابح المستعمرين والجيوش المحلّية والغازية ورجال المخابرات وأباطرة المال ومشايخ الدجل الديني.
ونحن إِذْ نُولي قيمة الكرامة كلّ هذه الأهمّية فذلك لأنّها مِن الشُّمولية بحيث تُلخِّصُ أبعاد المعركة التي على القوى التقدمية والثورية خوضها في هذه المرحلة المُعقّدة من تاريخنا. وهي معركة ثُلاثِيَّة المحاور تدور كلّها في فلك «الكرامة الإنسانية»، ويمكن إيجازها كالآتي:
أوَّلاً: المسألة الاجتماعيَّة وقضيَّة التوزيع العادل للثروة التي كانت السبب الرئيس في اندلاع الشرارة الأولى للانتفاضات العربيّة من مدينة سيدي بوزيد المهمَّشة والمنسيَّة.
ثانياً: مسألة الحُرّيات العامة والفردية وحتمية الاستماتة في الدفاع عن الحقّ الذي انتزعته الجماهير الثائرة، الحقّ في التعبير والتظاهر والتنظُّم. وهي قضية يجب أن تحْتَلّ حيّزاً هامّاً في جدول أعمال القوى الديمقراطيَّة بالنَّظر لأنّ القمع عاد ليُطِلّ برأسه من وراء ستار «الحرب على الإرهاب»، وليَتَّهِم كلّ من يرفع صوته ضدّ السّلطات الحاكمة بالتواطؤ مع الإرهاب. وهو ما يُحِيلُنا على المحور الثالث في معركة الدفاع عن الكرامة.
ثالثاً: قضيّة مُواجهة التنظيمات الظلامية والإرهابية التي تجْتَاحُ المنطقة وتُغرق البلدان العربيّة في مستنقع من الوحل والدماء. وهي حرب حقيقيّة تبدو مفتوحة على كلّ الاحتمالات، وتطرح مجموعة من الأسئلة المعقّدة والشائكة: هل يُمكن مواجهة الإرهاب دون عقد التحالفات والتقاطع مع بعض القوى والأنظمة التي لا تؤمن حقّاً بالحرية؟ من هي القُوى الإقليمية والدولية الداعمة للإرهاب؟ هل أنّ كلَّ من يحارب التنظيمات الإرهابيّة، حالياً، يسعى فعلاً للقضاء عليها؟ أم أنّه يهدف من وراء «حربه» لإيجاد توازنات ونظام إقليمي يخدم مصالحه الجيوسياسيَّة؟ أيُّ دور للقوى الثورية في هذه الحرب؟ وهل تملك هذه القُوى، واقعيّاً، القدرة على تغيير موازين القوى في هذه الحرب. ربما لا نمتلك إجابات حاسمة على هذه الأسئلة، لكنّنا حاسمون بشكل قاطع في أنَّه لا كرامة للعرب دون القضاء على هذه التنظيمات والتشكيلات المُعادية لكلّ ما راكمته الإنسانيّة من أشكال للحضارة والتمدّن، وأنّ من يُساندون الإرهاب، مهمَا كانت تبريراتهم، لا رهان عليهم.
خلال الثورة الفرنسية (1789) كانت قضيّة الحرية هي روحُها الخَفيّة، وخلال الثورة البلشفية في روسيا القيصرية (1917) كانت العدالة الاجتماعيّة هي سبب ديناميّتها وحيويّتها، في زمن المدّ القومي في الستينيات كانت مسألة الاستقلال الوطني وتحرير فلسطين محرِّكاً رئيساً لاستنهاض الجماهير العربيَّة. أمَّا اليوم، فإنَّ كلّ هذه المعارك يجب خوضها مُتزامنة دون أسبقيّة إحداها على الأخرى من أجل أن نحيا مَرفوعي الرؤوس في بلادنا العربيَّة التي يُحترم فيها الحذاء العسكري أكثر مِمَّا يُحترم الإنسان.
لا كرامة لنا إن كنَّا فقراء، ولا كرامة لنا إن كنَّا مُستعمرين، ولا كرامة لنا إن كنَّا مَقْموعين.
* كاتب تونسي