لم تشهد تركيا في 15 تموز الجاري إنقلاباً واحداً. المفاجئ (نسبياً) في الأمر أن إنقلاب جزء من العسكر التركي على الرئيس رجب أردوغان وسلطته لم يكن هو الأساسي، أي الأول. المدهش أيضاً أن هذا الإنقلاب قد انتهى في ساعات، بينما الإنقلاب الأساسي والفعلي، الأول، مستمر، وكذلك مستمرة مفاعيله المباشرة، المتواصلة والواسعة، بوتيرة عالية، كما أخبرنا رئيس الوزراء بن علي يلديريم الذي أكّد: «العملية لم تنته بعد». معروف، قبل ذلك أن أردوغان حذَّر مراراً من وقوع إنقلاب جديد متذرعاً بذلك لإبقاء أنصاره في االشارع لوظيفة ميليشياوية نجم عنها الكثير من التجاوزات ضد الخصوم والقانون على حد سواء. بدوره كشف وزير الطاقة بيرات البيرق، وهو صهر أردوغان، أن السلطات التركية كانت تخطط فعلاً لطرد كل جماعة الداعية «غولن» من الأجهزة العسكرية، وإن اجتماعاً للمجلس العسكري «الأعلى» كان على وشك الانعقاد لتنفيذ ذلك هذا الصيف (تبيّن أن عمليات الإستهداف قد تخطت الـ60 ألفاً أكثرهم من المدنيين، وفق لوائح معدّة قبل سنوات). قال الصهر، الوزير المذكور، إن الانقلابيين استبقوا التدابير ضدهم. هو بذلك، كأنما كان يبرر للانقلابيين فعلتهم، واضعاً (من حيث لا يدري حتماً) انقلاب 15 تموز في موقع الدفاع عن النفس! طبعاً، الدفاع عن النفس مشروع، لكن ليس إن تمَّ بوسائل غير مشروعة أو غير شرعية. يمكن القول، في امتداد ذلك، إذن، أن عملاً مشروع الأهداف قد نُفِّذ بوسائل غير مشروعة وذلك استباقاً لفعل غير مشروع الأهداف كان يجري طبخه بوسائل مشروعة!لكن للإنقلابين المذكورين سياقاً أشمل مما تقدم. من جهتهم استشعر الانقلابيون العسكريون (ومن يقف وراءهم) أن الرئيس التركي قد خاب أو تعثر في أكثر من ملف أو حقل داخلي أو خارجي. فشلت سياسته في سوريا بعد التدخل الروسي. فشلت، قبل ذلك، في الدعم المتواصل الذي وفرته واشنطن للأكراد السوريين. اضطربت علاقة الحكومة التركية مع أوروبا وتحولت إلى نوع من علاقة ابتزاز في مسألة الهجرة. انكشفت سياسة أنقرة بعد أن استمرت في دعم الإرهاب ومنظماته حتى مراحل متأخرة، ما أضفى طابعاًَ لا أخلاقياً عليها، وحيث تأكدت شراكة القيادة التركية في الجريمة أو مساهمتها في المسؤولية عن حدوثها. قبل ذلك سقط المشروع التركي الإخواني في مصر بعد تظاهرات 30 حزيران 2013 واستيلاء الجيش على السلطة وإزاحة الرئيس محمد مرسي وقيادة «الإخوان» عنها، وزجهم في السجون. كذلك فقد تعثر المشروع «الإخواني» في تونس ببراغماتية قيادة «حركة النهضة» التي تحولت إلى حزب سياسي فصل، في مؤتمره الأخير، «الدعوة» عن السياسة، واعتمد نهجاً عقلانياً معتدلاً يقدِّم العام على الخاص الفئوي، والوطني المتحول على العقائدي التقليدي المتكلس.
في امتداد هذه الخيبات والأخطاء، قدَّم أردوغان اعتذاراً مُذلاً للرئيس الروسي، وتنازلات غير مبررة للحكومة الإسرائيلية بعد عنتريات وإدعاءات في دعم الشعب الفلسطيني ورفع الحصار عن غزة واعتبار القدس كأنقرة وإسطنبول!
لم تكن الاضطرابات الداخلية أقل تأثيراً. أصر الرئيس التركي على مشروعه «السلطاني» في التفرد بالسلطة وإقامة ديكتاتورية مباشرة عبر صلاحيات مطلقة لرئيس الجمهورية. كلّفه ذلك إدارة سياسة وعلاقات وتحالفات تدور، عموماً، حول مصالحه الشخصية وليس حول حاجات ومصالح البلاد. أحاط نفسه بالأزلام والأقارب، وشجّع الفساد وحمى الفاسدين. ضيَّق على الإعلام وقمع، بقسوة، الاحتجاجات والحريات. أعاد تفجير الملف الكردي بطريقة عنيفة بعد أن عارض ممثلو الأكراد طموحاته ورفضوا استخدام قضيتهم وأصواتهم في خدمة ذلك. تراجع الاقتصاد عموماً، والسياحة بشكل خاص. تردَّت علاقته بواشنطن بعد أن تعامل بخفة متناهية في مسائل عديدة، أمنية وسياسية، وخصوصاً منها الملف السوري والكردي، وملف الإرهاب، ومسائل عديدة في العلاقات الإقليمية والدولية...
لم يكن ما أقدم عليه داخل حزبه أقل جموحاً وغرابةً. بعد أن تحالف مع الداعية «غولن» وتياره السلفي، ما لبث أن اتهمه وأبعده ونكَّل بجماعته. ارتد على أقرب أصدقائه ورفاقه وأبرزهم الرئيس السابق شريكه في تأسيس حزب «العدالة والتنمية» عبد الله غول. بعد ذلك تخلَّص من مساعده و«منظره» الأقرب، رئيس الحكومة، أحمد داوود أوغلو. يتضح الآن، أن رئيس الحكومة السابق لم يتبنّ ما كان يجري تحضيره من انقلاب أبيض بهدف إحكام السيطرة على الحزب والإدارة والبلاد عموماً من قبل أردوغان وفريقه العائلي والحزبي. لذلك جرى إقصاء داوود أوغلو وتمّ استبداله بموظف مُطيع لتنفيذ هذه المهمة، خصوصاً أن صلاحيات رئيس الحكومة ما زالت هي الأفعل. معروف أن أردوغان قد دأب على تجاوز ومصادرة العديد من صلاحيات منصب رئيس الحكومة، بعد أن غادره. كذلك هو استمر في الهيمنة على حزب «العدالة والتنمية» أيضاً بعد اضطراره إلى ترك رئاسة الحزب عندما أصبح رئيساً للبلاد.
في سياق هذه التطورات أقدمت، قبل أسبوعين، مجموعة من الضباط الكبار والمتوسطين على تنفيذ عملية إنقلابية تبيّن أنها متسرعة وغير مستوفية شروط النجاح. هذه المجموعة استشعرت ضعف أردوغان في الخارج والداخل، من جهة، وخطره وجموحه واستهدافه لها، من جهة ثانية. لا تريد غالبية الأتراك استعادة حكم العسكر وطغيانه، كما أنَّ اعتماد «العلمانية» من «فوق» قد راكم نقمة واستياءً من «تحت» طيلة عقود طويلة: رفض الدين كفرضه، يستدعيان كلاهما الإكراه والقمع، بل هما وجهان لعملة واحدة.
الآن يمارس الرئيس التركي سياسة الهروب إلى الأمام. يواصل انقلابه الأساسي الأول، بذريعة قيام الانقلاب، الفرعي، الثاني. هذه السياسة أدخلت تركيا في اضطراب مفتوح وصراعات داخلية لن يزيدها، القمع، كالعادة، إلا تأججاً... لن تكون تركيا قادرة بسرعة على تجاوز «الهوس» الأردوغاني وما أدى إليه من تقلبات وتوترات وخسائر خارجية، ومن شروخ عميقة داخلية، لم ينجُ منها حزب «العدالة والتنمية» نفسه. كذلك فإنه بالنسبة للملف الكردي، وهو الملف الأخطر، لن تزيده التطورات الدولية والإقليمية إلاً تفجراً وتعقيداً.
لقد رفضت كل التشكيلات السياسية التركية العودة إلى مسلسل الإنقلابات العسكرية. لم يرَ الرئيس التركي في ذلك سوى التسليم بطموحه وجموحه نحو التفرد والاستبداد والديكتاتورية. لقد تعثَّر مشروعه الإمبراطوري المبني على تيار «الإخوان المسلمين» في الخارج، وتعثّر وسيتعثَّر أكثر مشروعه الديكتاتوري المبني على استنهاض العناصر الأكثر انتهازية وراديكالية بين إخوان الداخل. حتى تاريخ ان يكون قريباً لن تستقر تركيا ما دام يجلس في قمرة قيادتها رجل شعبوي، مهووس ومتسلط، كرجب أردوغان.
* كاتب وسياسي لبناني