حالي حال أغلب من يكرّس فترات طويلة من الزمن لدراسة ظاهرة أو موضوع، وجلّ أمله أن يؤتي ثماره يوماً من الأيام، أو تطرح حوله مناقشة؛ فرسالة ماجستيري عن الجهاز المركزي للمحاسبات في مصر قد جعلتني من أكثر الناس متابعة لقضية المستشار هشام جنينة وتقرير تكلفة الفساد الذي أصدره والّذي ــ ولأنه لم يكن «مهنياً» واحتوى «مبالغات» ــ تسبّب في عزله من منصبه.لهذا السبب أيضاً، قرّرت الكتابة بهدف دحض قراءة ليبرالية معينة لتقرير الفساد، تنتقد تقرير المستشار هشام جنينة بادّعاء عدم اتباعه منهجية واضحة أو تقديم تعريف «علمي» لقياس الفساد، على نهج «الممارسات الجيدة» لدى البنك الدولي وصندوق النقد، في التقرير الشهير الذي تسبب في إزاحته عن موقعه. يمكننا تلخيص وجهة النظر هذه على النحو التالي: على الرغم من شجاعة المستشار جنينة في مواقفه ضد الدولة، إلا أن التقرير محل النقاش اليوم لم يقدم أدلة ملموسة وأرقاماً حول أنشطة الفساد، بل ملاحظات حول ممارسات يمكن تعريفها بأنها غير متسقة مؤسسياً، أو هي نتيجة قصور في الكشف عن حركة مالية معينة، ولكن لا يوجد دليل قاطع حول فساد إلا في حالات محددة. بل كان التباطؤ والضعف البيروقراطي هو السمة الغالبة في ملفات مثل في التعامل مع الأراضي وعدم استردادها حسب الأحكام التي حصلت عليها الدولة، وهذا ليس «فساداً» بل «فشل مؤسسي» بحسب التعريف التنموي الحداثي. فيما يلي نظرة تختلف مع هذا الطرح، ليس لأن الوقائع تخالفه، بل لأن توضيح جوانب أخرى من الحقيقة وسرد تاريخ الجهاز يصلان بنا الى خلاصة مختلفة. بدلاً من تناول هذه الحقائق مجردةً، دون سياق تاريخي، سأشرح للقارئ لماذا تتغير الصورة تماماً إذا ما نظرنا اليها نظرة تاريخية، تنشغل بسردية تكشف كيف وصل الحال إلى ما هو، بدلاً من التسليم، ببساطة، أنه نتيجةً لقصورٍ أو ضعف رقابي أو عدم مهنية أو غياب المعايير.
إن الميل مستمر نحو سياسات مدعومة من خبراء صندوق النقد الدولي

أمام قاضي التحقيق المنتدب للقضية المعروفة بتقرير جنينة حول تكلفة الفساد فقد قال إن «هناك فارقاً بين الفساد بالمعنى القانوني والفساد بالعرف المحاسبي»، ولعل هنا أهم نقطة في تعريف سلطة المعاينة (أو التدقيق) النافية للجهالة (due diligence audit) أو المعاينة حتى بصورتها المحدودة المكتبية. تهدف المعاينة لأن تظهر أن العرف التقليدي المتبع في تلخيص وحصر الأرقام هو ما تقوم به بالفعل المؤسسة محل المعاينة، وأنه لا يوجد تلاعب في عملية حصر وتجميع المصروفات والإيرادات؛ يمكننا أن نفهم إذاً أنّ المعاينة لا تقتصر على تدقيق الأرقام حصراً، بل المسائلة عن إخفاقات أو عجز عن فعل أمور كان يمكن أن تثمر إيرادات أو أن تقلص المصروفات. عندما كان اسم الجهاز المركزي للمحاسبات «الديوان الحسبي»، كان الديوان يعمل ملحقاً بالبرلمان، حتى تكون له عيون وسلطة الشعب في كل أركان الدولة ويصدر تقريره لنواب الشعب عندما يتعرض لعواقب في ممارسة عمله. تتالت التشريعات (ق 52 لسنة 1942 وق 129 لسنة 1964 وأخيراً قانون 157 لسنة 1998) حتى تم تفريغ هذه السلطة، التي كانت سلطة محاسبة في يومٍ من الأيام، من صلاحياتها حتى باتت، رويداً رويداً، سلطة رقابية لا أكثر. قبل سلب هذه السلطة، كان الجهاز يعمل من دون معيار واحد للفساد، بل كان معياراً مفصّلاً حسب الحالة والموضوع - إن كان الملف المطروح يتناول قطاع البنوك أو المصانع أو حتى الوقفيات. والجهاز يفخر بأن لديه خبراء حتى في التعامل مع الأوقاف، وقراءة وتحليل حججها، للتوصل الى موقف قانوني حسب فلسفتها الشرعية وفلسفة واضع الوقف وليس فلسفة القانون وحده (وهو الأمر المبين في البيان الذي نشره الجهاز المركزي للمحاسبات للرد على اللجنة المشكلة من قبل السلطة التنفيذية للبت في تقرير جنينة حول تكلفة الفساد). نرى هنا أن فلسفة المعاينة (auditing) هي قراءة الأمور حسب عرف وتقليد له خصوصية موقعه المحاسبي، مع محاولة رصد من يقوم بتغيير هذا العرف بغرض إخفاء أو تغيير شيء. عملية التعريف وخلق المعايير الثابتة، اذاً، ليس لديها مرونة في التعامل مع واقع متغير، ولعله يكمن درس تاريخي مهم ومماثل في الكيفية التي ضربت بها سلطات الاحتلال الإنكليزي مؤسسة القاضي الشرعي، وخلقت مكانها ترسانة قانونية ثابتة لم يكن لديها مرونة فكرة الاجتهاد.
يظهر مثال آخر على طبيعة المعاينة التي يقوم بها الجهاز المركزي للمحاسبات في تقرير تم تسريبه مؤخراً عن مصانع عز الدخيلة المملوكة لرجل الأعمال أمين التنظيم للحزب الوطني المنحل أحمد عز. في إشارة خافتة قال التقرير إن الجهاز «قام بفحص محدود، وهو الأمر الذي لم يمكنه من الحصول على تأكيد بأنه على دراية بجميع الأمور الهامة. وبالرغم من ذلك أسفر ذلك الفحص المحدود عن بعض النتائج». تستوقفني هذه النقطة التي تشير إلى أمور مريبة في كون الشركة تتحمل خسائر بقيمة نصف رأسمالها (لعل ذلك للتهرب من التزامات ضريبية سابقة مثلاً)، إذ أنه يمكن تكرار نفس الاتهام «بانعدام معيار واضح لقياس الفساد» يمكنه أن يطبق هنا؛ بل أكثر من ذلك، ما حصل هو أن الجهاز لم يطمئن لممارسة هو يعترف أنه لم يتمكن من إجراء سوى معاينة مكتبية، سطحية، لأوراق الشركة. وهنا تأتي نقطة أهم: متى تتم إتاحة قيام معاينة دقيقة، أساساً، بدلاً من معاينة مكتبية؟
بحسب قانون الجهاز المركزي للمحاسبات، فهو منوط برقابة المال العام، إلا أنه في أبحاثي الميدانية حول دور الجهاز كثيراً ما كنت أصطدم بكيانات من القطاع الخاص تتعامل باستمرار مع مال عام، لكنها تنشئ في المقابل كيانات مالية ضخمة بحيث تظهر ضآلة حجم المال العام بالنسبة الى أعمالها - تهرباً من هذه الرقابة من قبل الجهاز المركزي للمحاسبات. فهنا علينا التساؤل بالأساس: لماذا نتهم الجهاز بالافتقار الى آلية واضحة لقياس الفساد إذا كان هو يعمل وسط محاولات واضحة - ومقوننة بالمناسبة - للتهرب من إظهار بيانات أثناء المعاينة؟ نوعية النقد الموجه له لم تلتفت لهذه الزاوية التي إذا استكملنا منطقها لربما نرى قيادات الجهاز المركزي في المستقبل تعمل بآلية شديدة المنهجية لتعريف وتقييم الفساد لكن دون أدنى جهد لكشف التستر على من يتهرب من سلطة رقابة تمارس معاينة بالمعنى الشمولي كما هو موضح في قوانين الجهاز المركزي. وربما نرى يوماً ما تعريفاً «جيداً» وواضحاً للفساد ولكنه لا يتناول مساعي القطاع الخاص في خلق كيانات وهمية مملوكة لكيانات أخرى - يكون مقرها المسجّل أحياناً في ملاذات ضريبية ـ تشارك شركات القطاع العام للتهرب من معاينة الجهاز المركزي.
أكثر من ذلك، ألم يكن من الأولى التحدث عن قصور الإجراءات الرقابية في ملفات بعينها، وتناول تاريخ هذه الملفات؟ من أهم وأصعب الملفات - ولذلك خبراؤها قليلون - هو ملف قطاع النفط، ويفتخر الجهاز المركزي بكونه يمتلك طاقماً مكوناً من محامين لديهم خلفية قانونية حول عقود النفط، ومحاسبين مدربين خصيصاً لهذا الدور، لأن شركات النفط العالمية كثيراً ما تتحايل في تنفيذ التزامتها في العقود المبرمة مع مصر عبر تفسيرات تخدم مصالحها لتصقيع الحقول والعدول عن الجدول الزمني المحدد للاستكشاف. ومن أهم محطات تحايل شركات النفط والشركات التي تقوم بعمليات المعاينة في التاريخ المعاصر هو القرار بإلزام شركة «شيل» بدفع غرامة قدرها ١٢٠ مليون دولار في ٢٠٠٤ لأنها ضخّمت من حجم الاحتياطات الواقعة في امتيازاتها؛ وهذه الواقعة قد فتحت باباً لمقاضاة شركات المحاسبة التي ساعدت شركة «شيل» على التحايل، شركة PwC وKPMG، الأمر الذي دفع شركة شيل» التخلي عن خدمات KPMG في ٢٠٠٥.
لكن المفاجأة التي تلقيتها خلال أبحاثي تلخصت في أن هذه القطاع الرقابي يواجه صعوبات أحياناً لأن أحد أهم بنود الاتفاقيات الثنائية للبترول هو تعيين شركة محاسبات عالمية تتحلى- طبعاً - بأعلى معايير الشفافية والمهنية، لكنها تسلب الدور من الجهاز المركزي للمحاسبات. هنا تحصل المفارقة حين يصبح الخطاب الإصلاحي المهتم بالمعايير الدقيقة والبيانات والشفافية، كما هو متبع في البنك الدولي، محاولة للتبسيط المخلّ ولطمس تاريخ يكشف لنا صيرورة إضعاف الجهاز المركزي وسلبه سلطته. تكمن المشكلة في أن شركات المحاسبة العالمية التي تأتي بتوصيات شركات النفط تعمل - طبعاً بأعلى المعايير لكشف الفساد - لكنها لا تفتح فمها أبداً لإبداء اعتراضاتها عندما تقوم شركات النفط بتفسير بنود الاتفاقيات لصالحها، ولو بشكلٍ مخلّ، للمماطلة في عمليات الاستكشاف أو الاستخراج مثلما يحدث الآن في حقول غرب المتوسط في امتيازات شركة بريتيش بتروليوم... أو مثلاً في امتياز شركة "إيني" التي تخطط لبيع امتيازها حقل «الظهر».
ختاماً على من يتابع الجهاز المركزي للمحاسبات أن ينطلق من قراءة تاريخية متأنية، توضح كيف وصلنا إلى حال معين ـ تقارير محاسبية تشير إلى شيء مريب دون أدلة كافية ـ بدلاً من التسليم بأن هذا الشكل من التقارير والشكاوى يعكس ضعفاً مؤسسياً، أو نتيجة لغياب معايير معينة لتعريف الفساد، بينما المشكلة الحقيقية تتمثل في عدم ممارسة الجهاز المركزي لعمله وسلطاته. وعلينا أن نفهم أن هناك فرقاً كبيراً بين ملاحظة غياب عنصر معين، «معيار واضح لقياس الفساد» في هذه الحالة، وبين من يسعى لترسيخ الوضع القائم ومنع الجهاز المركزي من الاطلاع على بيانات الشركات، وهذا هو لب فلسفة المعاينة: البحث عن ما هو مخفي ورصده حتى في ظل معوقات كثيرة مقننة. إن الميل المستمر نحو سياسات دولية للإصلاح ـ مدعومة من ترسانة خبراء صندوق النقد والبنك الدولي وزيارات خبرائهم لوضع معايير دولية للقياس - مقابل إلغاء دور الجهاز المركزي في المعاينة الشاملة يشي بتطور خطير في تاريخ المحاسبة في مصر. فإن كنا قد سردنا كل هذه الشواهد حول إخفاء الأرقام والأدلة من الجهاز المركزي، هل ننسى عندما رفض الجهاز المركزي للمحاسبات - في ٢٠١٤ وفي عهد المستشار هشام جنينة - مقترحات البنك الدولي الذي أوصى بتغيير قانون الجهاز المركزي ليكون محصناً من الإقالة، لكن مع الالتزام باتباع طرق المعاينة المربوطة بالمخاطرة (risk audit)؟ من المهم أن نتذكر أن سيادة المستشار قد رفض في الماضي الاستقواء بالخارج مقابل تغيير طريقة المعاينة لتتلاءم مع مَن يريد سيادة «معايير دولية» مقابل تراخٍ وضمور في عملية المراجعة المحلية في مصر.
* طالب دكتوراه في جامعة كولمبيا في قسم دراسات الشرق الأوسط