«شيعة السفارة» هو تعبير صاغته «الأخبار» حين كشفت وثائق «ويكيليكس» عن مجموعة من السياسيين والاعلاميين والناشطين اللبنانيين ــــ هم عرّفوا عن أنفسهم كـ «شيعة»، وعلى هذا الأساس تعاملت معهم السفارة ــــ يقصدون سفارة اميركا لعرض خدمات سياسية واعلامية ضدّ المقاومة مقابل دعمٍ اميركي وتمويل (فيما البعض الآخر طلب من المسؤولين الأميركيين وصله بالتمويل الخليجي).
هي، اذاً، حالة مثالية من «التلبّس»: هناك من اقترف جرماً وقد انكشف و»وقع»، وهذا لم يكن ليحصل لولا الوثائق المسرّبة؛ فالمعنيون كانوا، بلا شك، سيكذبون وينكرون لو لم تفضح الوثائق تفاصيل محادثاتهم، المذلة والكاشفة، مع مشغليهم. في العادة، هنا ينتهي النقاش وتبدأ المحاسبة، فما الذي تعتقد انّه سيحصل لك (ليس في كوريا الشمالية، بل في اميركا نفسها) لو تبيّن أنّك تقيم، في الخفاء، علاقات مع مخابرات أجنبية لأداء مهام سياسية مقابل أموال ورشوة؟
هذه ليست المرّة الأولى التي تتدخل فيها الولايات المتحدة للتأثير على الاعلام والرأي العام في بلاد الجنوب، بل أن هناك نظريات مؤامرة تدفع بأن المخابرات الأميركية قد ساهمت، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في تشكيل الذائقة الفنية والأدبية والفكرية، وترويج روايات وتيارات محددة، في الغرب قبل الجنوب. وقد مرّت في الستينيات حالة توفيق الصايغ ومجلّة «حوار»، حيث تبين أن المخابرات الأميركية تموّل ــــ عبر منظمات ثقافية رديفة لها ــــ المجلّة «الليبرالية».
الفضيحة وقتها أدّت، كما يدعو المنطق، الى اغلاق «حوار» وتواري الصايغ عن الساحة العربية؛ وهو قد توفي بعد الحادثة بسنوات (يُقال انه مات كمداً). فقط في بلدٍ كلبنان، مع «نخبته» الفريدة، يصير التورط بالعمالة لأميركا موضوعاً للتهكّم، بل والتضامن والتماهي مع أشياع السفارة. ويصير كلّ نقدٍ وهجومٍ على هذه السلوكيات مناسبة لهؤلاء كي يمارسوا هوايتهم المفضلة: استعراض أنفسهم ونرجسيتهم، والشكوى من المظلومية و»القمع» و»التهديد» (ان كان شعبكم يمقتكم ويحتقركم فهذا، بصراحة، لا دواء له).
وحتى لا يتوهّم المرء أنّ هذه القضيّة، التي شغلت «المجال العام»، تتعلّق بتيارات سياسية أو طبقات شعبية، فعلينا أن نوضح أن من جعلوا أنفسهم معنيين بالتهمة هم عبارة عن مجرّد أفراد، يقلّ عددهم عن المئة، جلّهم من الاعلاميين، وما يجمعهم هو عنصر مهني وسوسيولوجي بحت، يتعلّق بطبقتهم ومصدر رواتبهم، وليس الرأي أو الايديولوجيا. حتى نوضح أكثر، فإن الخيارات السياسية المتوفرة في لبنان بالنسبة لهؤلاء ليست متساوية: هناك، بوضوح، معسكر فيه المال والـ «برستيج» و»الفيزا»، وآخر يفتقر الى هذه المغريات. في حالة «الناس العاديين»، يتبع الانتماء السياسي، غالباً، لظروف الولادة والمجتمع المحيط؛ أمّا لدى الطبقة الوسطى، اللزجة واللامنتمية (الا الى مصالحها) والمهووسة بالارتقاء، فالخيار هنا هو واضحٌ ومحسوم، ومن الطبيعي أن تصير غالبية «النخبة المثقفة» ــــ بغض النظر عن طوائفها ــــ في صف اميركا والخليج و14 آذار.
هذه هي الفئة التي تبثّ مفهومها الخاص عن الأخلاق والجماليات والحلال والحرام؛ والتي تعتبر أن رفض العمالة للأميركان قمعٌ ورجعية، وأن الانخراط في نشاطات الخارجية الأميركية وسفراتها لا يجعل منك مشبوهاً، وتريد من الناس أن تحترمها وأن تثق بها حين تكتب، بوعيها الكامل وارادتها، في هذه المواقع العميلة، حتى بعد أن خرجت أسرار «ويكيليكس» وبان ما بان. لو قال هؤلاء، ببساطة، أنهم يبغون المال، لكانت الأمور واضحة ومريحة. المشكلة معهم هي أنّهم يصرّون على تفوقهم الأخلاقي، ويتمسكون بصورتهم المثالية عن أنفسهم، حتى وهم يخدمون شيخاً بنى بلاده على نظام عبوديّة، وينظّرون لـ «القاعدة» والحركات الاباديّة.
اشتكى بعض هؤلاء من «التعميم» في الاتهام، وخروجه عن الأفراد المعدودين في «ويكيليكس»، ولكن السؤال هنا يستحق نقاشاً حقيقياً، مهنياً وسياسياً: هل تعتقد فعلاً أن هناك شرعية لمن يقف على منصة مالية بناها الخليج، ولا يمثل تياراً محلياً أو فئة شعبية أو حتى قضية، ويروّج لأجندة الأمير، مقابل راتب، ولو كانت ضد مصالح شعبه ومستقبله؟ وهل هي هنا مسألة «حرية رأي» وتعبير؟ لمن يقول أن لدى «الجميع» داعمين وامتدادات خارجية، فنحن نجيب: هذا صحيحٌ، ونحن نعرف انحيازاتنا ومواقفنا، ونقدر على تفسيرها والدفاع عنها، فهل انت ــــ بالمقابل ــــ قادرٌ على الدفاع عن اصطفافك مع اميركا وشيوخ الرياض والدوحة؟ هنا يبدأ النقاش.