دوّت كالصاعقة كلمات السادات، في 9 تشرين الثاني 1977، حين قال «ستُدهش إسرائيل حينما تسمعني الآن أقول أمامكم إني مستعد للذهاب إلى بيتهم نفسه، إلى الكنيست الإسرائيلي ذاته». يومها، أعلن رئيس الوزراء الصهيوني، مناحيم بيغن، أن الكيان لا يمكن أن يعود لحدود 1967، ولن يعترف بدولة فلسطينية، ولن يجري أي اتصالات مع منظمة التحرير. وعلّق الرئيس الأميركي حينها، جيمي كارتر، بعد سماعه الخطاب، قائلاً إن «السادات يشبه أول رجل صعد إلى سطح القمر». اليوم، المشهد ذاته، إنما بنياشين الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الذي قدّم نفسه على أنه قادم من زمن الكبير جمال عبد الناصر، وثورة الشارع المصري هي عنوان المرحلة.الرئيس الذي لن يهادن على الحق العربي، ولن يرهن مقدرات مصر ودورها التاريخي مهما كانت الضغوط. لكن يبدو أن هناك كثيرين سيصعدون إلى عربة السادات دون دهشة، أو استغراب، أو مجرد ملاحظة على حالة الخذلان، التي تمارسها بعض الأنظمة الرسمية العربية.
هنا الصعود إلى الهاوية، بمعنى آخر صعود على دماء الشهداء الذين تركوا وراءهم أسماءهم كي تصعد إلى السماء. 38 عاماً مرت على خديعة «السلام» و«أبطاله» الوهميين. وهناك من يمارس تمارين التعود على شطب صورة العدو في ساعدين مفتوحين لعناق رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو، الذي أدهشته الزيارة - إعلامياً - وقال في استقبال وزير الخارجية المصري، سامح شكري، إنها «تدل على التغيير الذي طرأ على علاقات إسرائيل ومصر، وعلى رأس ذلك دعوة الرئيس السيسي الهامة لدفع المسيرة السلمية إلى الأمام، مع الفلسطينيين ومع الدول العربية على حد سواء. لقد جاء وزير الخارجية المصري بتكليف من الرئيس ونحن نرحب به. بودّي أن اشكر المحامي اسحق مولخو الذي ساهم في تحقيق هذه الزيارة».

مرمى شكري... بلا عوارض

الاستقبال الحار لوزير الخارجية المصري له معطياته... فالتصريحات التي أدلى بها الرئيس المصري عن ملامح مبادرة لإطلاق التفاوض الفلسطيني - الإسرائيلي تلقفها رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو، وأشاد بها وزير خارجيته، أفغيدور ليبرمان، الذي أعتبرها خطوة هامة لتحريك المياه الراكدة. ولكن عن أية مياه يتحدث ليبرمان؟ مياه ليبرمان هي ذات الساقية التي تشرب منها كل الأحزاب المنضوية في الحكومة الصهيونية -لا مبادرة فرنسية إلا وفق الاعتراف بيهودية الدولة، والوصول إلى حل نهائي في صفقة يتم فيها التنازل عن حق العودة، والقدس دون أي تدخل دولي ومؤتمرات.
وهذا ما تتشارك به السعودية مع مصر. هذا التشارك في مبادرة تبدو تلطيفية وفيها بعض التحسينات. ومع أن المبادرة الفرنسية تستجيب لـ 98% من شروط رئيس الوزراء الصهيوني، إلا أن الاعتراض جاء أن «المفاوضات يجب أن تكون مباشرة ودون أي رعاية دولية. مفاوضات يحددها فقط الطرفان الصهيوني - والفلسطيني».
كسر الجليد كما اعتبرته الأحزاب الصهيونية في زيارة وزير الخارجية المصري تجاوز الطقس البارد بينهما - وهو ما عبّرت عنه النائبة عنات باركو من الليكود، عضو لجنة الخارجية والأمن بقولها إن «هذه زيارة هامة جداً... اليوم مصر هي التي تتصدر الكثير من السياقات في الساحة، ويسعدني أن تعود إلى مركزيتها. رويداً رويداً يكفون في المنطقة على رؤية إسرائيل العدو المطلق. أعتقد أن اللقاء يتجه نحو تسوية إقليمية».
ما التغيير الذي تحدثه مصر في هذه الزيارة؟
الإجابة تقول إن مصر اليوم تبني «كامب ديفيد» جديد وبقوة العقود، وكأنه لم يحمل كل هذا الخراب على الساحة العربية، ولم يكن مدخلاً لهذا الاستقواء الصهيوني. هل نقول إن سياسة وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، «الخطوة – خطوة» يعاد إحياؤها من خلال الدور السعودي، الذي يلهث وراء تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، عبر اللقاءات الرسمية وغير الرسمية، وإدخال مصر في رمال متحركة، مستغلاً الوضع الاقتصادي المتردي، وترغيبها في المال السياسي الذي يمكن أن ينتشلها مؤقتاً من التضخم الاقتصادي.
الزيارة تعيد تثمير «كامب ديفيد»، بعد 8 سنوات فاترة - وحضور الشارع المصري بقوة في مناهضة التطبيع، بل النضال اليومي لأفضل علاقات عربية – عربية. لكن يبدو أن الصوت في مكان، والصدى بواد آخر. لم تجلب حكومة السيد السيسي أي تقدم في الملف الفلسطيني، بل عاقبت أهل غزة، ودمّرت الأنفاق، ونسقت بأعلى المستويات أمنياً مع الكيان الصهيوني. وأغلقت المعابر، ومات المئات من المرضى وهم ينتظرون الدخول للعلاج إلى بيت الأخت الكبرى. هذا من صورة الواقع الذي لا تخفيه السياسات التي تحاول أن تظهر بمظهر الحرص على فلسطين وقضيتها. وكي يكتمل المشهد بلاغةً، جاءت زيارة السيد شكري الذي يريد أن يصل إلى حل الدولتين، بعد كل هذا الإرهاب الصهيوني والاستيطان والتهويد؟ وكأن المراهنات على حكومة نتنياهو هي الفيصل في تحقيق «الحلم»... ولم يحتضر «أوسلو» الذي جلب كل الكوارث السياسية لفلسطين وشعبها.
هل تذهب القيادة المصرية إلى مكافأة نتنياهو بعد زيارته الأفريقية؟

لا نذهب هنا لقراءة أحادية، بل محاولة للصراخ وإن كان في بئر عميقة. إن ما يحصل من هوان سياسي، وارتماء تحت قبة الكنيست لدولة عريقة كمصر في انتصاراتها وجيشها العربي ودورها التاريخي، يجعلها ورقة في مهب الريح، ولهاثها خلف سياسات إقليمية - خليجية يفقدها وزنها ودورها التاريخي. فالحديث عن دور إقليمي، واستعادة الدور العربي لمصر، لا يأتي من بوابة تعزيز وتوطيد العلاقة مع كيان الإرهاب، الذي يسجل له إعدام الجنود المصريين في 67 ومجازر بحر البقر.
هل تذهب القيادة المصرية لمكافأة نتنياهو بعد زيارته لأربع دول أفريقية، والحديث عن مشاريع مشتركة قد يكون أقلها حصار مصر مائياً سعياً لاقتسام مياه النيل مع أثيوبيا. ومجرد الإطلالة على الدور الصهيوني في بناء سد النهضة في إثيوبيا، ومشروعها الخطير نقدّر سبب شكر الرئيس الإثيوبي لرئيس الوزراء الصهيوني حيث قال إن «الحكومة الأثيوبية أعلنت شكرها العميق للحكومة الإسرائيلية لما قامت به من مواقف خلال الفترة الماضية لتمويل بناء سد النهضة، وبلغ حجم المساعدات الإسرائيلية لأثيوبيا 4 مليارات دولار».
ليس غموضاً إذاً ما يلف التوجهات الصهيونية للضغط على مصر، بل اللعب في الداخل المصري عبر تغذية المجموعات الإرهابية، وقد كُشفت أكثر من مجموعة وعلاقتها بالموساد.
الحركة السياسية المصرية في تفجيرها قنبلة زيارة وزير خارجيتها سامح شكري لفلسطين المحتلة، والود في كلمات الأخير، وما قوبل به من ثناء على الدور الريادي لبلده لتقريب وجهات النظر العربية – الصهيونية - تشير إلى أن أحلافاً جديدة بدأت تتحدث عن نفسها، بضغوطات سعودية – خليجية - وقد نشهد تقارباً تركياً في هذه الدائرة، التي تتسع وتعرب عن نفسها بشكل مباشر.
القضية الأكبر هي وراء الزيارة التي ستفتح سبحة العلاقات البينية بين نظام رسمي عربي، ينتظر كي يظهر على مسرح التطبيع العلني مع كيان الاحتلال - بدعم من الولايات المتحدة التي تتبنى هذه التوجهات في حمأة التنافس الانتخابي بين هيلاري كلينتون الديمقراطية - ودونالد ترامب الجمهوري. القفزة المصرية – واستهلالها بالملف الفلسطيني- هي قفزة جديدة في الخلاء... وكأنها تبرر خطواتها - وإسحاق ملوخو المحامي الصهيوني هو عرابها منذ أشهر- وقبل تصريحات السيسي حول وجود مبادرة لإطلاق تفاوض فلسطيني - إسرائيلي مباشر لإنهاء «الصراع والأصح لإنهاء القضية الفلسطينية».
التسابق الحاصل للقاء حكومة نتنياهو وتطبيع العلاقات- كان خليجياً منذ سنوات، ودخول مصر على الخط وبقوة - وهي الدولة العربية الكبيرة والوازنة... يشير إلى حالة فقدان الوزن، والارتهان للمال السياسي. دور مصر لا يأتي من بوابة تسويق المشاريع الصهيونية، والضغط على فلسطين وشعبها وقواها الحية، دور مصر لا يأتي من نوافذ التساوق مع من دمروا المنطقة بدعمهم للإرهاب والإرهابيين. دور مصر كما يراه كل عربي وحر هو في الشارع الحي الذي سيبقى أميناً لوصايا الشهداء، في مجزرة بحر البقر.. أميناً لانتصارات حرب تشرين وشهدائها.
* كاتب وإعلامي فلسطيني