الحفر بالإبرة: الدم وإسقاط النظام

  • 0
  • ض
  • ض

كثُر الحديث في لبنان، العام الماضي، عن الفساد المستشري وبنيته، وكيفية اجتثاثه، على وقع الفضائح المتتالية. وخلال هذه المدّة، خرجت منظّمات كثيرة، وشخصيّات عديدة، لتشرح، بشكل تفكيكيّ، البنى النّظرية للعلاقات التي تربط الفاسدين بالسياسيين، والحياة السياسيّة داخل المؤسسّات الدستورية.

ثمّ عادت وبنت الحلول، على أساس هذه الشروحات، وممّا تيسّر من مخزونات أدبيّة، جلّها ينبع من برامج منظّمات دوليّة تعنى بنشر الديموقراطية ومكافحة الفساد، متناسين البحث في الجذور، أي في النّظام.

وحي المستعمر وشِرعة اللبنانيين

ركّزت سرديات، ما بعد اتفاق الطائف، على تصنيف المحاصصة الطائفية على أنّها العلّة الأساس في النظام اللبناني. ويتّفق الجميع، من القوى السّياسية التي تتمثّل داخل المؤسّسات الدستورية وتلك التي لا تتمثّل، على ضرورة تطبيق بند إلغاء «الطائفيّة السياسيّة» في الاتفاق، بينما تذهب بعض القوى إلى المطالبة بسنّ قوانين أحوال شخصيّة مدنيّة - سواء أكانت إلزامية أم اختياريّة، كوسيلة لحلّ المعضلات التي تواجه الحياة السّياسية اللبنانية.
ولكن المعضلة الحقيقيّة في لبنان ليست وجهاً من أوجه النّظام -طائفيّته- فقط، بل هي النّظام بحدّ ذاته. فالدّستور اللبناني، باستثناء بعض التّعديلات غير الجوهريّة، التي أدخلها ميشال شيحا عليه، منسوخ، بوحي فرنسي، حين وُضع عام 1926 عن دستور الجمهوريّة الفرنسيّة الثالثة. ونظام حكم الجمهوريّة الفرنسيّة الثالثة، بحسب أريند لايبهارت، نظام يؤدّي إلى حياة سياسيّة مشروخة وغير مستقرّة. ومع إدخال «الميثاق الوطنيّ» حيّز التنفيذ في الحياة السياسيّة اللبنانية، بدعم بريطاني جليّ، أصبح النّظام نظاماً ديموقراطيّاً توافقيّاً.
يصف لايبهارت الديموقراطيّة التوافقية، وهو أول من نشر دراسات عن هذه الظاهرة، بنظام يرعى الاستقرار في نمط مجتمعي مقسّم على أساس عرقيّ، أو دينيّ، أو أيديولوجيّ، أو لغويّ، عبر النُخب السياسيّة للأطياف المختلفة. وأبرز مظاهر هذا النّظام الائتلافات الحاكمة، والاستقلال الثّقافي للفئات المختلفة، والمحاصصة (في الحياة السياسية والوظائف العامة)، وحق النّقض الممنوح للأقلّيات. ويضع لايبهارت، بالإضافة إلى لبنان، بلجيكا والنّمسا وقبرص وسويسرا، ضمن حظيرة الدّول التي تتبنّى الدّيموقراطية التّوافقيّة.
يُضرب المثل ببلجيكا ضمن هذا التصنيف؛ ففي دراسة له عام 1986، يقول أندريه فورنيه إن العلاقات القويّة التي يولّدها النّظام التوافقيّ في بلجيكا بين نُخب أعمدة النّظام (أكبر أطيافه) والمنظّمات من مختلف القطاعات، كالنقابات العمّاليّة ومؤسّسات الصحة العامّة والمؤسسّات الماليّة والنّقدية كالمصارف، تؤدّي مع الوقت إلى تحالفات طويلة الأمد فيما بينها. وهذه التّحالفات تصبح عرضة للفساد، بالأخصّ حين يحتاج أحد أطرافها إلى تمويل. وبدت هذه الدراسة كنبوءة حين بدأت فضائح الفساد تتكشف توالياً في بلجيكا، في نهايات تسعينيات القرن الماضي.
وبهذا يكون لبنان قد جمع، بإخراج بريطاني عام 1943 وصيانة أميركيّة عام 1989، بين نظامين، أحدهما يؤدّي إلى الشّرخ وعدم الاستقرار - نتيجة تبني دستور الجمهوريّة الفرنسيّة الثالثة - والآخر يعالج الشّرخ، ولكن يفتح الباب أمام الفساد. وبالطّبع أجّج دخول النّهج الاقتصادي النيو-ليبيرالي لبنان، بعد الطائف، هذه النزعة.
وازدادت أهمّية هذا النظام بعد النكسة، ومن ثم بعد توقيع اتفاقيّة «كامب ديفيد»، إذ لم يبق إلاّ جنوب لبنان ساحة مفتوحة للعمل ضد الكيان الصهيوني. فلبنان المقسّم سياسيّاً، والمفتوح أمام الفساد يسهل اختراقه، وبناء شبكة مصالح بين المستعمر ونخب محلّية لتشكّل حماية لمصالحه، وأكبرها إسرائيل.
الأداء اللبناني الرسمي في التعامل مع المجازر الاسرائيلية والاجتياحات المتعاقبة (1972، و1978) ثم احتلال لبنان وعاصمته بيروت في عام 1982، ثم دخول الحكومة اللبنانية، آنذاك، في اتفاق مع العدو الإسرائيلي سمي اتفاق السابع عشر من أيّار، مروراً بمحاولة لبنان الرسمي التخلص من المقاومة، عند اتخاذ قرار في مجلس الوزراء بإرسال الجيش الى الجنوب، بما فيه منطقة عمليات المقاومة، وصولاً إلى عدوان تموز 2006، وما شاب الموقف اللبناني من انقسام إزاء هزيمة المشروع الإسرائيلي. وبدء المعركة الداخلية ضد المقاومة، التي مازالت مستمرة. كل هذه المعطيات ما هي إلاّ تلخيصاً لواقع وحقيقة حماية هذا النظام لإسرائيل، تحت عناوين مختلفة منذ نشأة الكيان إلى اليوم.
كل ما سبق يصل بنا الى الاستنتاج أنّ التخلّص من هذا النظام مدخل ضروري للتحرّر قبل أن يكون مدخلا للخلاص من الفساد. وفي هذا الاطار هناك قوى سياسية لبنانية تطمح الى إزالة هذا النظام ومنع التدخلات الخارجية بالشأن اللبناني، من دون الأخذ بعين الاعتبار ردة فعل المستعمر، أي الولايات المتّحدة اليوم، على الاطاحة بحامي مصالحها. ويشبه لبنان من حيث وضعه في المنطقة وضع كوريا بُعيد نهاية الحرب العالميّة الثانية.

خطّ عرض 38: كسر حدود اللعبة ممنوع

وضعت اليابان كوريا تحت حمايتها على إثر اتفاقيّة «بورتسمث»، التي أنهت الحرب اليابانيّة - الروسية عام 1905. وبعدها بخمسة أعوام أعلنتها مستعمرة يابانيّة، وبحلول عام 1919 شكّل عدد من الشخصيّات السياسيّة «الوطنيّة» حكومة منفى في شنغهاي، برئاسة سينغمان ري. هو خرّيج مؤسسات تعليمية أميركيّة إرساليّة منذ صغره، وعند خروجه من البلاد على إثر سيطرة اليابانيين عليها عام 1905، لجأ إلى الولايات المتّحدة، حيث حاز على شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتورة من جامعات جورج واشنطن، وهارفرد وبرينستون، على التوالي. ووصفه الديبلوماسيّ البريطاني روجر ماركينز، على إثر عودته من المنفى إلى البلاد عام 1945 بـ"رجل الأميركيّين" في كوريا. وهذه العودة كانت بعد أن اقتسم الأميركيّون كوريا مع الاتحاد السوفياتي على إثر إعلان اليابان استسلامها. فحطّ ري في سييول على الطائرة الخاصّة للجنرال مكأرثر، منتصف تشرين الأوّل من ذلك العام.
وكان الاتّحاد السوفياتي والولايات المتّحدة قد اتّفقا على تحديد خط عرض 38، خطّاً فاصلاً بين نطاق احتلاليهما لشبه الجزيرة الكوريّة. وفي كانون الأوّل من عام 1945، أُنشأت اللجنة الأميركيّة - السوفياتيّة، والتي كان من ضمن مهامها تحديد إطار لاستقلال كوريا بحلول عام 1949. ومع تصاعد الصراع الأميركي السوفياتيّ على اقتسام أوروبا، أعلنت الولايات المتّحدة فشل هذه اللجنة، ودعت لانتخابات عامّة، تحت إشراف الامم المتّحدة في نيسان عام 1948. انبثق عنها مجلس تأسيسيّ وحكومة انتخبت ري رئيساً، ليعلن عن قيام جمهورية كوريا (كوريا الجنوبية). رفض الاتّحاد السوفياتيّ إجراء هذه الانتخابات في منطقة سيطرته، فنظّم انتخابات أخرى في الشّمال انبثق عنها مجلس آخر، أعلن بدوره قيام جمهورية كوريا الشّعبية، برئاسة كيم إيل سونغ.


لن يسمح المستعمر للمقاومة بنقل لبنان
إلى ضفّة مقارعة هيمنته


بعد الانسحابين السوفياتيّ والأميركيّ في أواخر 1948 وبدايات عام 1949 توالياً، رأى سونغ أنّ الدولة في الجنوب ضعيفة، وأنّ ما حقّقه مقاتلو حرب العصابات من شيوعيّي الجنوب كاف لإسقاطها، فبدأ بالتحضير لاجتياحها. ربط الاتّحاد السوفياتيّ موافقته على هذه الحرب بشرط حصول الكوريّين على وعد بالدّعم من جمهورية الصين الشّعبية، حديثة الولادة، والتي بدورها وافقت على مضض.
بدأت الحرب في 25 حزيران 1950، بعبور جيش الشمال خط عرض 38، بحجّة هجوم جنوبيّ أوّلي. تقدّمت القوات الشمالية في العمق الجنوبي بشكل سريع، حيث دخلت سييول بعد ثلاثة أيّام فقط. بعد خمسة أيّام انخفض عديد الجيش الجنوبيّ من 95000 إلى 22000 جندي، وبحلول شهر أيلول من العام نفسه، كانت قواته الباقية محاصرة في نطاق مدينة بوسان، أقصى الجنوب الشرقي لشبه الجزيرة. ولكن في الثالث والعشرين من الشّهر نفسه، بدأت القوات الأميركيّة تتقاطر على كوريا، فاستطاعت دخول سييول بعد يومين (25 أيلول 1950)، وقطعت خطّ عرض 38، في الأوّل من تشرين الأوّل، ومن ثمّ احتلّت بيونغ يانغ في التاسع عشر من ذلك الشهر.
هذا التّقهقر السريع للقوات الشماليّة فرض على الصّينيين التدخّل في معركة غير متوازنة، ومن دون غطاء جوّي ضدّ الأميركيين، وباقي حلفائهم المنضويين في عداد قوات الأمم المتّحدة. كلّف هذا اللاتكافؤ في القوى الصينيين الكثير من الخسائر البشريّة، حتى تمكّنوا من إعادة القوات الغازية إلى خطّ عرض 38، حيث استمرّ القتال مراوحة عليه وحوله، حتّى انتهاء الحرب في تموز من عام 1953. ونتيجة هذه الحرب كانت تثبيت تقسيم كوريا، بنفس الحدود التي رسمها الأميركيّون والسوفيات في عام 1945، بقرار من مجلس الأمن.
اعترفت وزارة الدفاع الأميركيّة بمقتل 37000 من جنودها، وهو رقم، إذا ما قورن بخسائر حرب فيتنام (58000) أخذاً بالاعتبار عدد سني الحرب، كبير جدّاً. بينما أعلنت كوريا الجنوبية مقتل 138000 من جنودها، عدا عن 373000 من المدنيين. في المقابل اعترفت الصين، مؤخّراً، بمقتل 180000 جنديّ صيني، بينما تضع التقديرات خسائر كوريا الشماليّة في حدود الـ200000 قتيل عسكريّ.
دخلت كوريا الشماليّة الحرب لتطرد نظاماً أقامه المستعمر على جزء من أرضها، من دون أن تبني تصوّراً عن حجم ردّ فعل المستعمر، والمدى الذي سيصل إليه ردّه، فكانت النتيجة دماراً شاملاً للجزء الشمالي من كوريا، وخسائر بشرية ضخمة للعودة إلى ما كان الحال عليه قبل الحرب، أي خط عرض 38. والحقيقة هي أنّ الولايات المتّحدة، دفعت هذه الأثمان الضخمة في كوريا ليس لأنّه كان هناك، حينها، سياسة أميركيّة ترى في كوريا الجنوبية مصلحة وطنيّة استراتيجية مباشرة، بل لأنها قريبة جغرافيّا من اليابان. وقد عبّر عن هذا بوضوح الباحث الكوري الجنوبي، يونغ جين كيم، في كتابه «القوى العظمى وكوريا»، الذي شرّح من خلاله الحرب الكورية، حيث قال: «يجب الاعتراف بأن أمن اليابان الذي يتطلب كوريا غير معادية هو المساهم المباشر في قرار الرئيس ترومان في التدخل... والنقطة الأساسية هي أن الرد الأميركي على الهجوم الكوري الشمالي نبع من اعتبارات السياسة الأميركيّة تجاه اليابان».

حفر الجبل بالإبرة

يشبه الوضع اللبناني في هذه النقطة بالذات وضع كوريا. فقد استطاعت المقاومة في آخر خمس وعشرين سنة من الدخول عنوة إلى الحياة السياسيّة اللبنانيّة والتأثير بمواقف النظام، ولو بشكل جزئيّ، فيما يخصّ السياسات الخارجيّة. حتى أنّه يمكن تشبيه الصراع منذ عام 2005، إلى، اليوم بصراع بين المستعمر والمقاومة على الجغرافيا السياسيّة في البلاد. ومن يعتقد أنّ المستعمر سيسمح بإزالة نظام يحمي بشكل أو بآخر مصالح الكيان الصهيونيّ، لا يعير أهمّية لخطورة السّاحة اللبنانيّة على أمنه. وحتّى في زمن التردّد الأميركيّ في إرسال «الجزم الى الميدان» هنالك الكثيرون في المنطقة، من أدواته ممّن على استعداد لرفد السّاحة اللبنانية بالمقاتلين والسلاح والتمويل. بينما أضعف الإيمان الأميركيّ هو حزم العقوبات، التي بدأنا نرى غيضاً من فيضها، بعد فشل كل المحاولات لطرد المقاومة من الجغرافيا السياسيّة.
لن يسمح المستعمر للمقاومة بأن تقطع خطّ عرض 38 اللبناني، وتنقل البلاد من ضفة تأمين الحماية للكيان الصهيوني، إلى ضفّة مقارعة هيمنته.
إذاً ما العمل؟ كيف نزيل نظاماً يفتح، وقد فتح فعلاً، الباب أمام كل أشكال الفساد؟ كيف نتخلّص من نظام، لا تحرّراً حقيقيّاً في ظلّ بقائه، دون استجلاب المزيد من الويلات؟ لا مناص من طرد المستعمر، الحامي الحقيقيّ للنظام، من المنطقة قبل الشروع في هدم النظام. فطبيعة علاقة نخب هذا النظام، بالشرائح الشعبية التي تمثلها من جهة -وهي تمثل أغلبية الشعب، وواهم من يظن غير ذلك- وطبيعة علاقاتهم مع المستعمر من جهة أخرى، يفرض إشعارهم بالعزلة عن رعاة هذا النظام الذين يمدّونه بالحياة، أي المستعمر ذاته، وبخفوت تأثيره وسطوته في المنطقة. لا بدّ من تظهير هذه الصورة لهم. إسقاط هذا النظام بأقل الأثمان الممكنة، هو كحفر الجبل بالإبرة، ويُخاض الجزء الأكبر منه اليوم بالدم وخارج حدود لبنان، في العراق وسوريا واليمن.
* باحث لبناني

  • بعد توقيع اتفاقيّة «كامب دايفيد»، لم يبق إلاّ جنوب لبنان ساحة للعمل ضد إسرائيل

    بعد توقيع اتفاقيّة «كامب دايفيد»، لم يبق إلاّ جنوب لبنان ساحة للعمل ضد إسرائيل (أ ف ب )

0 تعليق

التعليقات