يولد العربي مثقلاً بالمسألة اليهوديّة. تلاحقه في العالم العربي وتلاحقه أكثر لو اغترب غرباً. وتلاحقه المسألة اليهوديّة أكثر لو قرّر مناصرة الشعب الفلسطيني ومقاومته. وكلّما زادت مناصرة الحقّ الفلسطيني من قبل عربي في الغربة كلّما لاحقته الشكوك في انسانيّة موقفه من المسألة اليهوديّة. والمسألة اليهوديّة سبقت القضيّة الفلسطينيّة بسنوات، وعقود، لا بل بقرون طويلة من الزمن. هي نتاج التاريخ الأوروبي الفظيع وتاريخ الكنيسة المعبّق بالكراهية والتحريض. لم يكن هناك من مسألة يهوديّة في العالم العربي قبل القضيّة الفلسطينيّة. لا يعني هذا أن اليهود في التاريخ الإسلامي كانوا على قدم المساواة — لكن مَن كان على قدم المساواة في التاريخ الإسلامي؟ أما في التاريخ العربي، فلم يكن هناك مِن سبب للعرب كي يعادوا اليهود —كيهود. لم يكن أحدٌ يتحدّث عن مشكلة يهوديّة في العالم العربي قبل إنشاء دولة إسرائيل، وكتابات معاناة اليهود في الشتات لم تكن عن يهود العالم العربي. وكتابات المستشرقين اليهود عن وضع اليهود في العالم العربي كانت مُنصفة إلى حدّ ما حتى الثمانينيات (راجع مثلاً كتابات نورمان ستلمن أو حتى رافائيل باتاي - السيّئ الذكر- في كتابه «بذرة إبراهيم: العرب واليهود في التماس وفي الصراع») عندما قرّرت الحركة الصهيونيّة أن تساوي رسميّاً بين وضع اليهود في العالم العربي وبين وضع اليهود في ألمانيا النازيّة (كان كتاب بات يعور، «الذمّي» إيذاناً بمرحلة جديدة مِن إعادة التصويب الصهيوني). كان ذلك في زمن جعلت فيه الحركة الصهيونيّة وضع اليهود العرب أولويّة في السياسة الخارجيّة الأميركيّة. أصبح مشروع طرد اليهود السوريّين، مثلاً، من بلادهم —أي سوريا— هو حاجة ملحّة في أجندة حقوق الانسان الغربيّة. واليهود العرب — في خطاب الحركة الصهيونيّة— هم أسرى حتى يغتربون عن بلادهم العربيّة، وهم مطرودون متى يرحلون، ولو بملء إرادتهم، أو لو تحت ضغط كبير من الحكومة الأميركيّة والإسرائيليّة.
حارب فيزيل القضيّة الفلسطينيّة، وكان من الأوائل الذين قارنوا بينها وبين النازيّة

لكن لا نذهب بعيداً في الحديث عن وضع اليهود العرب: الخطاب العربي السائد عن اليهود وعن المسيحيّين —حتى لا نتحدّث عن غيرهم ممن يقعوا في خانة ما يسميّه الشرع الإسلامي بـ»مهدوري الدم»— كان يدور في الخطاب الاسلامي في نطاق المديح الإسلامي الذاتي عن التسامح. والتسامح محمود فقط في نطاق تاريخي وفقط بالمقارنة من أهوال وفظائع الحروب الأوروبية ضد الأقليّات اليهوديّة. أما في الخطاب العربي المعاصر، فتحوّل الحديث إلى بحث في مسألة الاقليّات. والبحث في مسالة الاقليّات هو إقرار ضمني بتفاوت في المرتبات الاجتماعيّة بين فرق وملل ونحل. وقد أجمل ماكسيم رودنسون (الذي يمثّل أجمل وأفضل ما في الاستشراق من عمل دؤوب وعمق معرفة وسعة اطلاع) الوصف عن وضع اليهود في التاريخ الإسلامي بالقول إن «الاضطهاد كان نادراً لكن التمييز كان ثابتاً». المسألة اليهوديّة باتت عربيّة عنوة: أصرّت الدعاية الإسرائيليّة على جعلها عربيّة وإسلاميّة.
والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة في انطلاقتها وفي مرحلة صعودها المسلّح تعاملت مع المسألة اليهوديّة بحرص شديد وحساسية انسانيّة. حتى في مرحلة قيادة الحاج أمين الحسيني، فإن الخطاب الفلسطيني الوطني السائد كان يميّز بين اليهودية وبين الصهيونيّة، فيما كانت الأخيرة ترفض هذا التمييز وتصرّ على النطق باسم ليس يهود العالم فقط بل باسم ضحايا المحرقة من اليهود (أما ضحايا المحرقة من غير اليهود فهؤلاء لم يحتلّوا موقع مرموقاً في الرواية بعد). لكن القضيّة الفلسطينيّة نُكبت —كما حظيت الدعاية الصهيونيّة— بقائديْن من طينة أمين الحسيني، الذي ناصر هتلر من دون ان يحاول ان يدرس فكره وما يتضمّنه من تحقير للعنصر العربي، وأحمد الشقيري الذي نفى في أكثر من مذكّرات القول الذي نسبه الصهاينة له عن نيّة رمي اليهود في البحر (قالها حسن البنّا في مجلّة «المصوّر» قبل النكبة)، لكن الشقيري في آخر كتاب له، «خرافات يهوديّة»، ذهب أبعد من القول المنحول. حتماً، ان القضيّة الفلسطينيّة، والقضيّة الانسانيّة، تحتّم نبذ هؤلاء.
وفي مرحلة انطلاقة المقاومة الفلسطينيّة، كانت المنظمّات متفقة فيما بينها على ميثاق منظمّة التحرير الذي صيغ في عام ١٩٦٨ والذي اعتنق الحلّ العلماني على ارض فلسطين كبديل عن الحل الطائفي - الديني الذي فرضته دولة العدوّ. طبعاً، كان هناكت أصوات نشاز، من الحكّام العرب ومن بعض الكتّاب الذين اعتنقوا، اسلاميّاً أو مسيحيّاً او علمانيّاً، خطاباً معادياً للهيود، كيهود، وهناك منهم مَن حاول النيل من الصهيونيّة عبر أسوأ الطرق، أي عبر انكار المحرقة. وانكار المحرقة بدلاً من ان يفيد التذاكي العربي، يقدّم جوائز مجانيّة للدعاية الصهيونيّة ولهذا دأبت دولة العدوّ والحركة الصهيونيّة الأميركيّة على رصد وترجمة كل الأقوال العربيّة المعادية لليهود—كيهود. وتشكيك أحمدي نجاد بالمحرقة قدّم اسهامات في الدعاية الصهيونيّة في الغرب. كان الرجل يزيد من تعاطف الرأي العام الغربي مع إسرائيل في كل تصريح من تصاريحه. لكن هذا النشاط الصهيوني يغفر معاداة اليهود إذا ما صدرت عن متحالفين مع العدوّ، مثل محمود عبّاس (الذي أنكر المحرقة في أطروحته الجامعيّة في «جامعة باتريس لومومبا للصداقة بين الشعوب» في موسكو، أو الحسن الثاني في المغرب أو النازي، أنور السادات، أو أدعياء المسيحيّة المعادية لليهوديّة بين الانعزاليّين في لبنان او بين احبار الكنيسة).
ووفاة إيلي فيزيل تشكّل مناسبة جديدة لمراجعة التعاطي الغربي مع المحرقة وعن استغلالها من قبل الصهاينة لتسويق حروب ومجازر إسرائيليّة. وإيلي فيزيل احتلّ موقعاً مرموقاً في الغرب، وكان يعطي محاضرات مقابل عشرات الآلاف من الدولارات، وتعاونت منظمّته الصهيونيّة مع الملكة رانيا الأردنيّة (والتي تجهد كي تنال اعجاب الغرب الصهيوني وأثريائه عبر أسخف الطرق وأكثرها نزعاً للسطحيّة). وايلي فيزيل ضيف مُكرّم في العاصمة الأردنيّة، وهو نال قسطاً لا بأس به من المراثي في الاعلام العربي. وجريدة الملك سلمان بن عبد العزيز، «الشرق الأوسط» —وهي من أولى الجرائد العربيّة التي جاهرت باعتناق الليكوديّة والتي تستكتب على صفحاتها الصهيوني البريطاني عادل درويش، والذي كان قد انشأ قبل سنوات منظمّة صهيونيّة تعنى برصد ما تسميّه الانحياز العربي ضد دولة إسرائيل في الاعلام البريطاني — اعادت نشر مقالة لفيزيل (قبل ثلاث سنوات من دون ان تشير إلى ذلك) دعا فيها لعمل أميركي عسكري في سوريا. أصبح الرجل الذي امتهن معاداة كل العرب صوتاً يُستعان به في الحقوق العربيّة.
لكن مرتبة فيزيل (الذي عمل لفترة في فرنسا مُترجماً لمنظمّة الـ»إرغون» الإرهابيّة) هي سياسيّة محض. الرجل نشر أكثر من ٦٠ كتاباً في حياته (حسب تعداده هو)، أي بمعدّل كتاب واحد في السنة في العقود الماضية) من دون أن يكون لأي من كتبه قيمة أدبيّة أو فلسفيّة: وهو احتل منصباً اكاديميّاً فقط لمكافأته على صهيونيّته (كما ان المهندس المعماري كنعان مكيّة أصبح أستاذ علوم سياسيّة، في جامعة برندايس العريقة في صهيونيّتها، فقط بسبب مواقفه المنحازة إلى إسرائيل والحروب الأميركيّة). سألتُ قبل سنوات عدداً من تلاميذ جامعة بوسطن عن فيزيل. قالوا لي إنه كان بالكاد يحضر صفوفه، وكانت صفوفه عبارة عن «صفنات» و»بوزات» انسانيّة للمحاضر، ممزوجة بقراءات مفروضة لكتاباته، يتخلّلها ضيوف زوّار يثنون على عظيمهم امام التلاميذ.
بعض الصحف العربيّة نقلت عن الصحف الغربيّة انه «فيلسوف»، وهو فيلسوف بمعنى انه ينثر في كتبه حِكَمه، وهي بنفس مستوى عمق الحِكَم التي كان احسان عبد القدّوس ينثرها في كتبه (من نوع «النسيان تورّط»، أي على نسق تلك الجمل التي كانت عنواين للأفلام المصريّة في السبعينيات). لا تعتبر لا اللغة الفرنسيّة ولا اللغة الانكليزيّة كتب فيزيل أدباً. وكتابه الأشهر، «ليل»، كان قد نُشر باللغة اليديشيّة. وأصبح الكتاب (بعد ترجمته) بسرعة مُقرّراً في المدارس الأوروبيّة والاميركيّة، بالرغم من خلوّه من قيمة أدبيّة أو تاريخيّة مميّزة (وهو متأثّر في أسلوبه – بفشل - بكتاب كامو «الغريب»). صحيح أن هول المعاناة للناجين من المحرقة يجذب الاهتمام ويستحقّ التعاطف مع الناجين، لكن ليست شهادة فيزيل هو الوحيدة. هناك ناجون وناجيات من المحرقة ممّن قضوا سنوات عمرهم في الدفاع عن المسحوقين حول العالم. لم تكن هذه سيرة فيزيل أبداً.
أكثر من ذلك، ان رواية فيزيل، «ليل» (وهو كان قد كتبها باللغة اليديشيّة ونصحه الكاتب الفرنسي، فرانسوا مورياك - الذي عارض توجّه ألبرت كامو في تطهير فرنسا من المتعاملين مع النازيّة — بترجمتها إلى الفرنسيّة) خضعت لتغييرات قيميّة وروائيّة وسرديّة. لم تشر مرثاة «نيويورك تايمز» الطويلة إلى التناقضات والاكاذيب الواردة في الكتاب إلّا عرضاً في الإشارة إلى نقد من الكاتب البرت كازن، ما أدّى إلى تصنيف الكتاب كـ»رواية» (لا كـ»سيرة ذاتيّة») في بعض المدارس بسبب هذه التناقضات (لكن فيزيل اصرّ انه هذه هي سيرته كما هي). والطبعات الحديثة للكتاب لا تتورّع عن إعلام القارئ ان الكتاب خضع لتصحيحات بما فيها عمر الكاتب عندما أُدخل إلى معسكر الاعتقال. وفيزيل نفسه يعترف في طبعة عام ١٩٨٦ الانكليزيّة بأنه أدخل تصحيحات ومراجعات في «تفاصيل مهمّة»، من دون أن يخبر القارئ عن التصحيحات بالتحديد. لكن كيف يُصحّح المرء سيرته الذاتيّة؟ كيف يغيّر فيها بما يتوافق مع الحقائق والصور المنشورة؟ وما هي مسؤوليّة الكاتب عن أكاذيب وأخطاء واردة في كتابه؟ ولقد فضح نورمان فينكلستن فيزيل، الذي كان قد زعم في كتاب «كل الأنهار تنتهي في البحار» انه قرأ كتاب ايمانويل كانت، «نقد العقل المحض» باللغة اليديشيّة في سن الثامنة عشرة مع انه لا يوجد حتى اليوم ترجمة يديشيّة للكتاب المذكور. نستطيع اليوم ان نجزم ان «ليل» هو ليس حقيقة تاريخيّة (لكن هذا لا يعني أبداً، كما ورد في صحيفة «فلسطين أون لاين» قبل أيّام، أن فيزيل لم يكن ضحيّة أكيدة للنازيّة. هناك دلائل أكيدة على ذلك). لكن الأكاديميّة ناومي سايدمن، في دراسة تفصيليّة في مجلّة «الدراسات الاجتماعيّة اليهوديّة»، لاحظت ليس فقط فروقات في الحقائق بين النسخة اليديشيّة والفرنسيّة - الانكليزيّة من الكتاب، بل هي لاحظت ان الخلاصة الاخلاقيّة ونبرة الوعظ تختلف بين النسختيْن: هو كان يُقرّع في النسخة الأولى فيما اتخذ الراوي منحى وجوديّاً انسانياً في النسخة الفرنسيّة. لكن هذا هو إيلي فيزيل: مُروّج ذاتي ومسوّق لصناعة الهولوكست. لكن الرجل ظاهرة أميركيّة أكثر مما هو ظاهرة اسرائيليّة. على العكس، فان «هآرتس» لاحظت بعد وفاته انه لم يحظَ باهتمام في إسرائيل بالرغم من شهرته العالميّة (مع ان رئاسة الدولة عُرضت عليه مرتيْن). أميركا هي التي صنعت هذه الظاهرة التي تزامنت مع قرار الثقافة والسياسة الاميركيّة بجعل المحرقة وتجييرها لصالح عدوان إسرائيل، كما انها صارت جزءاً من الهويّة اليهوديّة الأميركيّة، وجانباً من السياسة الخارجيّة للدولة الاميركيّة. فصّل بيتر نوفيك في كتابه الرائد (سبق كتاب «صناعة المحرقة») «المحرقة في الحياة الأميركيّة» كيف أصبحت المحرقة هي الطبيعة المُميّز للهويّة اليهوديّة الأميركيّة في زمن تناقص الولادات وتنوّع الزيجات وتنامي الهويّات العرقيّة والاثنيّة. والإصرار على استثنائيّة المحرقة هي إصرار تمييزي للهويّة كما انها تهدف إلى التقليل من كوارث وويلات انسانيّة أخرى. ومحاولة مقارنة المحرقة بما تعرّض له السكّان الأصليّين هنا أو استعباد الأفارقة في أميركا يؤدّي تلقائيّاً إلى اتهامات بمعاداة اليهوديّة. ونسي نوفيك أن يضيف أنّ هناك نتيجة أخرى للإصرار على استثنائيّة المحرقة: هي تساعد على تسويغ كل حروب ومجازر إسرائيل لأن استثنائية ويلات المحرقة تسوّغ لأفعال الضحايا —والتي تمثّلهم دولة إسرائيل حسب الزعم الصهيوني. ثم أليس هناك استثنائيّة (في الفظاعة) لجريمة الإبادة في هيروشيما وناكازاكي؟ والحكومة والثقافة الأميركيّة لا تعبّر البتّة عن ندم ما عن تلك الجريمة. الاعتذار الرسمي غير وارد عنها، وقرار رمي القنابل الذريّة تُحسب لهاري ترومان في جردة منجزاته.
كما ان الحكومة الأميركيّة قررت بعد الحرب العالميّة الثانية، وخصوصاً بعد حرب ١٩٦٧، على جعل موضوع المحرقة موازياً لسياستها في الشرق الأوسط. وايلي فيزيل تحوّل إلى مرجع ومصدر أخلاقي لكل الرؤساء الأميركيّين منذ عهد جيمي كارتر. لكن كارتر لم يفكّر ببناء متحف الهولوكست في العاصمة واشنطن إلا لأهداف انتخابيّة لأن شعبيّته بين اليهود اضمحلّت بسبب انتقاده بعض جوانب سياسات دولة إسرائيل. لكن الرجل - أي فيزيل - الذي اقترن اسمه بمتحف المحرقة رفض وحرّض من موقعه كعضو في المجلس الاستشاري للمتحف في عام ١٩٩٢ للاعتراف بالضحايا المثليّين والغجر في المحرقة كضحايا «رسميّين» للمحرقة. الاستثناء هو للضحايا اليهود فقط، حسبما قرّر هو ومعشر الصهاينة. كما أن الرجل رفض الاعتراف بإبادة الأرمن إلا متأخرّاً في عام ٢٠٠٨.
أما في الموضوع الفلسطيني، فالرجل كان صريحاً في عنصريّته. هو قال التالي (كما استشهد به مارك شميل، في كتابه «إيلي فيزيل وسياسة القيادة الاخلاقيّة»): «كيهودي أرى دوري ك... مُدافع عن إسرائيل. أدافع ايضاً حتى عن أخطائها. أجل، أشعر أنني كيهودي يعيش خارج إسرائيل يتوجّب عليّ ان اناصر كل ما تفعله إسرائيل —حتى مع اخطائها. هذا أقلّ ما يمكن لليهود في الشتات أن يفعلونه من أجل إسرائيل. إمّا المجاهرة بالثناء، أو الصمت (ص. ٨٧)». والرجل الذي اعتبر الصمت والحياد إزاء الظلم والقتل ضلوع فيه، صمتَ لدهور عن القمع والقتل الذي ألحقه الصهاينة بالشعب الفلسطيني والعربي تحت الاحتلال. لم ينطق فيزيل إلاّ فيما يتماشى مع مصلحة السياسة الخارجيّة الأميركيّة أو السياسات الاسرائيليّة. لا، لم يكن «ضمير الانسانيّة» ولا «صوت الاخلاق»، كما وصفه زعماء غربيّون (ونقلت الأوصاف تلك — أو اجترّتها — صحافة السوء النفطي والغازي). لم يكن مجاهراً بحقوق المثليّين او حقوق السود، ولم يؤيّد نضال الشعب الأسود في جنوب افريقيا الا متأخراً. كان مشغولاً آنذاك بقضيّة اليهود —فقط اليهود—في الاتحاد السوفياتي (والموضوع شغل الدعاية الأميركيّة والإسرائيليّة لعقود ولم تكن الوقائع مهمّة). وحارب فيزيل أي مقارنة للمحرقة مع جريمة إبادة بول بوت في كمبوديا: هو وحده يعرف، لأنه كان هناك، وليس من الناجين مَن يتمتّع بمصداقيّته التي كسبها من «ميدالية الحريّة» التي منحه إيّاها الكونغرس الأميركي.
لم ينل فيزيل جائزة «نوبل» هكذا، من دون مقدّمات. بات معروفاً فيما نشر انه سعى وثابر وضغط (على حكومات غربيّة) لسنوات طويلة كي ينال الجائزة. وهو أراد استعمالها لنيل مصداقيّة في حملاته السياسيّة العالميّة لصالح العدوان الإسرائيلي (وكان السليل الهاشمي في الأردن، رفيقه الدائم في سعيه الصهيوني). وطالب ليبراليّون في أميركا فيزيل ان يستغلّ مناسبة خطبة منح الجائزة كي يتعاطف ولو قليلاً مع الشعب الفلسطيني. طبعاً، خيّب فيزيل آمالهم. وزعم في خطبته الباهتة والبائسة في حفل نوبل إنه «حساس» لوضع الشعب الفلسطيني لكنه استدرك انه يدين وينبذ وسائله. وعوّل على حسن ظنّه بإسرائيل والشعب اليهودي، كما قال، لتحقيق السلام بالرغم من إرهاب الفلسطينيّين. وبدأت مسيرة استغلال اسمه للتحريض ضد الفلسطينيّين والمسلمين بصورة عامّة. أفتى فيما أفتى أن القدس لا تعني شيئاً للمسلمين، وذكّر — في صفحة اعلان ابتاعها في «نيويورك تايمز»— بأن القدس لم ترد مرّة واحدة في القرآن. أصبح الصهاينة خبراء في تفسير القرآن وفي شرح نوايا المسلمين حول العالم. وفي حرب العراق، حرّض وأجج من أجل ان تشنّ أميركا الحرب —باسم ضحايا الهولوكست، طبعاً. قال آنذاك: «لدينا واجب أخلاقي للتدخّل عندما يكون الشرّ مسيطراً». والأشرار هم كل من يعادون إسرائيل، وهم حلفاء هتلر بالضرورة، لانه كان في اوشفتز ورآهم كلّهم هناك: من الحاج أمين إلى خالد مشعل واحمدي نجاد وصدّام حسين. هو يحدّد الشرّ وطبيعته على الأرض، لأنه نصّب نفسه ناطقاً باسم الخير. كاد ان يقول بعد نيله نوبل ان تفويضه كان الهيّاً. كما حرّض ضد ايران في السنوات الأخيرة، وباسم ضحايا المحرقة طبعاً. حارب فيزيل القضيّة الفلسطينيّة حول العالم، وكان من الأوائل الذين قارنوا بينها وبين النازيّة (زامنه في ذلك الليبرالي، آموس عوز). ويتغيّر خطاب فيزيل بتغيّر الأهواء السياسيّة للشعب الفلسطيني: ففي حقبة الحرب الباردة كانت منظمّة التحرير حليف «مضطهدي اليهود» في الاتحاد السوفياتي، لكنه في حقبة «حماس» استعان بخطاب مقيت عن التضحية بالأطفال من التاريخ السحيق. وقد ابتاع أثناء عدوان غزّة الأخير في عام ٢٠١٤ صفحة كاملة في «نيويورك تايمز» (بتمويل من شلدن ادلسون، المموّل الأميركي الرجعي المعروف، والذي يتمتّع بنفوذ هائل في الحزب الجمهوري، وهو يستعين بهذا النفوذ من أجل ان يفرض التزاما صارماً ببرنامج الليكود) وذم فيها الشعب الفلسطيني واتهمه بـ»تقديس الموت».
ليس صحيحاً ان الوهج الأخلاقي التي تسبغه حكومات وإعلام الغرب على فيزيل ينبع من تجربته في المحرقة، ونجاته منها. هناك ناجون وناجيات من المحرقة ممن قضوا كل سنوات عمرهم وهم يحاربون الظلم والقمع بكل أشكالهم، وهناك منهم من ناضل من أجل حقوق الشعب الفلسطيني. لكن فيزيل ليس من طينة هؤلاء. هذا رجل ناسبَ الإمبراطوريّة الأميركيّة وناسب عالم الأثرياء الصهاينة. إيلي فيزيل رجل يمكن لأوباما وهيلاري والملك الأردني وزوجته ان يزهو به، فيما هو يُقرّع الضحايا حول العالم. هذا رجل لم يكتسِ من الاخلاقيّة إلا عنوانها وقشورها، وغالباً لغايات كنز الأموال للصالح الشخصي ولصالح التحريض الصهيوني ضد أطفال فلسطين. وقد قام فيزيل مع هيلاري كلينتون قبل سنوات بمبادرة لمحاربة تصوير العدوّ في الكتب الدراسيّة الفلسطينيّة (لكن دراسة أكاديميّة جد معتدلة عادت وناقضت مزاعم فيزيل وهيلاري في مبادرتهما). كان يمكن لفيزيل ان يستخدم معاناته في الحرب العالميّة الثانيّة من أجل وقف المعاناة البشريّة في كل بقع الأرض. لكنه اختار ان يفاقم المعاناة إذا كان الظالم والقاتل من حلفائه وحلفاء دولة إسرائيل.
من الجيّد ان يعلم العرب عن المحرقة والعظات الليبراليّة العربيّة عن ضرورة تدريس المحرقة مبالغ فيها. أستاذ في جامعة «القدس» (التطبيعيّة)، محمد دجاني، قام باصطحاب تلاميذ فلسطينيّين إلى اوشفتز (اضطرّ إلى الاستقالة من الجامعة فيما بعد، وانضم إلى «خبراء» الذراع الفكري للوبي الإسرائيلي في واشنطن). لكن دجاني لم يصطحب تلاميذه ولا مرّة واحدة لزيارة القرى العربيّة المدمّرة وهي على بعد أذرع من مقرّ جامعته. المحرقة من الفظائع البشريّة وهولها لا يزال يؤثّر على رؤيتنها للصراع والظلم. والتقليل من ويل المحرقة او الاستخفاف بها، او انكارها يدخل في باب الفظائع والجهل المعرفي. لكن المحرقة ليست مرتبطة بالقضيّة الفلسطينيّة إلا بمقدار استغلال العدوّ الإسرائيلي لها لنيل شرعيّة عن جرائمه. لكن التشكيك بالمحرقة أو انكارها، يخدم غرض العدوّ، لا غرض القضيّة الفلسطينيّة.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)