منذ أن بدأت العمليات الانتحارية في استهداف المساجد وجموع المدنيين باسم الدين يا للحسرة، أخذ الإسلاميون عامة يرفضون نسبة هذه العمليات لأيّ من التنظيمات الإسلامية، وقد اعتبروها أفعالاً مخابراتية مدسوسة لتشويه الإسلام.ولمّا ثبت أن تنظيمات إسلامية كالقاعدة ثم داعش والنصرة هي بالفعل تقف وراء هكذا عمليات، وهي تتبناها بشكل رسمي وتعلن عن هوية الانتحاريين المنفذين، انتقل الخطاب الإسلامي الحركي والمؤسساتي مستنكراً على استحياء، ثم أخذ بالتركيز أن عنف الأنظمة وخاصة عنف النظام السوري، وأنّ عنف التنظيمات الشيعية يوازي إجرام الدواعش بل يفوقه.
وهكذا مع كل جريمة شاذة جديدة لدواعشنا يتم استحضار عنف الآخرين كتبرير خفيّ لإجرام الدواعش، ويتجاهل هذا الخطاب الإسلامي الحركي جملة أمور مفصلية، على افتراض صدق عنف الأنظمة وحلفائها، وهو عنف موجود بلا شك، لكن يتم تجاهل خصوصية إجرام دواعشنا:
أنهم يعلنون عن هذه الجرائم رسمياً وباسم الدين شرعياً، بابتكار شاذ متجدد، ويتناسى هؤلاء المبررون أن العمليات الانتحارية ضد المساجد والأماكن العامة حكراً على دواعشنا، كما أن الاقتتال الداخلي المدعوم بالقنابل البشرية بين الدواعش ذاتهم حكراً علينا. فدواعشنا يفخخون الانتحاريين ببعضهم البعض، والابتكارات الإجرامية الموثقة والمعلن عنها رسميا وشرعياً حكراً على دواعشنا، كما أن عمليات قتل الابن لأبيه وأمه أو قتل الأخت لأخيها وما شابه من عمليات قتل عائلية بسبب الفكر المتشنج أو بسبب الصراعات التنظيمية حكراً على دواعشنا، وسبي النساء مثل سبي الآيزيديات وغيرهنّ حكراً على دواعشنا، وهي جرائم يتم تنفيذها باعتبارها أحكاماً شرعية، فيما أن عنف الأنظمة والميليشيات الطائفية المفترضة، تأتي في سياق حربي ميداني أمني باعتبارهم في ساحة حرب، فهم يبررون القصف بالبراميل المتفجرة مثلاً باعتباره يستهدف تجمعات المسلحين، ليقع السجال بين مصدق ومكذب، والعقل لا يقبل أن عمليات النظام أو الحشد نظيفة، أكيد، ولكن النظام يصرّ أنها كذلك، فيما يخرج لنا الدواعش ذاتهم متفاخرين أن أحد مجاهديهم فجّر مسجداً للرافضة في الكويت أو السعودية في صلاة الجمعة وهم سجود، مع أن شيعة الكويت والسعودية مثلاً لا علاقة لهم بالصراع في العراق وسوريا، وهؤلاء مصلون بينهم أطفال وشيوخ، فأيّ دين يستجيز هكذا قتل؟!
وجرت العادة أن يهرع المتواطئون مع إجرام داعش من بني جلدتنا إلى المربع الآخر، وكأن هذا الهروب يمكن أن يفيدنا نحن أهل السنة، أو أنه سيضر الأنظمة أو الشيعة، بمقدار ما يعود علينا بمزيد من الجرائم الداعشية، فكل تبرير يساعد في خلق بيئة وحاضنة لهذا التشنج الفكري سيرتد على نسيجنا الاجتماعي، وهل ثمة خطر أعظم على نسيجنا الاجتماعي من أن يطعن شقيقان سعوديان في مقتبل عمرهما، والديهما وشقيقهما بالسكين باعتبارهم مرتدين، لمجرد أنهم رفضوا مبايعة داعش؟ وعندما يتم نقد هذا الإجرام يستحضر أكثر إسلاميينا عنف النظام السوري والحشد الشعبي! بالله عليكم ما هي علاقة النظام السوري والحشد الشعبي بتطرف شابين نشآ في السعودية على فتاوى ابن تيمية وابن عبد الوهاب؟!
لو كان ثمة حرص على معالجة هذا الواقع المزري، ولو توفر الشعور بالمسؤولية الدينية، لتم وضع اليد على الجرح مباشرة، دون الهرب والتبرير، فالمشكل في خلفية هذا الإجرام أنه يستند إلى تراثنا الديني الفقهي، وهو تراث ترعاه الدولة السعودية ومؤسساتها وإن اكتوت بناره بين الفينة والأخرى، فما دخل شمولية النظام السوري وطائفية الحشد الشعبي بالأمر؟!
يمكن لمن شاء أن يتحدث كما يشاء عن استبداد الأنظمة، وطائفية الشيعة، ولكن ليكن ذلك بعيداً عن أزماتنا الداخلية الحقيقية، وهي أزمات لا علاقة لها بالأبعاد المذهبية بأيّ حال، فالشيعة في السعودية مثلاً في سبات عميق منذ ظهروا على الخريطة، ولم يوقظهم حتى إعدام شيخهم نمر النمر، فما علاقتهم بالصراعات في سوريا والعراق مثلاً؟!
أزمتنا التراثية تطرق كل باب من أبواب بيوتنا، فهل ثمة داهم أعظم من أن يقتل الولد أمه بتهمة الردة؟! ماذا بقي لكي يستفيق علماؤنا وصالحونا لينفضوا عن عقول المتدينين منا ما ران علينا من غبش التراث؟! لقد أبدع مشايخنا في أخذ فتياننا إلى المساجد ليعبدوا الله، فأين الإبداع في توجيه عقولهم نحو مواجهة التحديات الحقيقية لأمة يتم نحرها صباح مساء ببأس أبنائها فيما بينها؟!
إن أدنى متابعة لتطور الإجرام التكفيري الدموي خلال الشهور القليلة الماضية، تجاه نواة المجتمع السنّي الأولى (الأسرة) يكشف مدى عمق الأزمة، وهي أزمة مستفحلة تتركز يا لمأساتنا في موطن الإسلام الأول؛ السعودية، وليس في العراق موطن الفتن حسبما يفضل كثير من مشايخنا أن يصفوه، ولا حتى في سوريا موطن الصراع الأكثر اشتعالاً، وإن كان لهذين البلدين نصيب بحكم هجرة كثير من السعوديين إليهما لمشاركة داعش والنصرة (جهادهما) وبحكم الجحيم الدموي المستعر فيهما أيضاً بسبب هذا الفكر المتشنج، كما عنف الأنظمة وإقصائها للأطياف السياسية الأخرى، ولعل هذا الجدول يعطي صورة عن سواد المشهد بما لا يمكن وضع الرأس أمامه في الرمال، دون أن نعترف أننا أمام تحولات تاريخية انحطاطية غير مسبوقة في التاريخ البشري:
كما أن ملاحظة تدرج الفعل (الجهادي) العنفي للتيار السلفي، وقد وصل إلى أخطر محطاته بدفع أنصاره لاستهداف نواة المجتمع السنّي الأولى (الأسرة)، بما يبيّن طبيعة هذا الفكر، ومستوى التحدي المتوجب مواجهته من دون تردد ولا تلعثم، ويوضح التسلسل التالي طبيعة هذا التدرج المأساوي: تكفير الأنظمة ثم محاربتها ثم تكفير المذاهب ومحاربتها، ثم استباحة مناطق كاملة تحت شعار التترس، ثم استباحة دماء كل فصيل (جهادي) مخالف. ثم استباحة دماء كل عنصر أو قيادي يخالف اجتهاد الأمير، ثم استباحة دماء كل فرد في الأسرة والعائلة لا يبايع الفصيل باعتباره قد ارتد.
أما وقد وصل الأمر لقتل الأم والأب المسلمين، بما يخالف صريح القرآن الذي أمر بنص محكم الدلالة، بحسن صحبة الوالدين ليس فقط إن كانا مشركين، بل لو دفعا ابنهما المسلم باتجاه الشرك، بقوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلى الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)، في منهجية بالغة الوضوح، لا يمكن لهيبة أيّ عالم أن يقف بمواجهتها حتى لو كان شيخ الإسلام، ولكنّ شيخ إسلام التيار السلفي وقف بالفعل وأطلق رصاصته منذ القرن الثامن، حيث أفتى ابن تيمية بجواز قتل الولد لوالده المشرك، وإن ختم فتواه أن ثمة نزاع بين العلماء في ذلك، ورصاص ابن تيمية لم يزل يخترق العقول والأفئدة، باعتباره مادة جاهزة ودسمة لكل من ألف التلقي دون إعمال العقل، أو بعضه، خاصة أن ابن تيمية جعل الإحسان إلى الوالدين أمر مقيّد فيما جعل جواز قتلهما بحجة الشرك أمر عام مطلق، يبقى تنفيذه مرتبط بما يقرره فتى لم يعلم من الإسلام سوى بضع كلمات سمعها من أميره في الظلام ليظنها الإسلام كله، فلا يجد طريقه إلى سوريا أو العراق معبداً، قبل أن يبدأ بالأقربين، باعتبارهم أولى بالمعروف، وهو معروف الولاء والبراء، بحسب الصيحات التي أطلقها شرعيو داعش والنصرة، ليلتقطها فتوّات حائل وخميس مشيط والرياض لينفذوها بكل راحة ضمير، وحكم الشرك أو الردّة أسهل بكثير من حكم الذبح بالساطور، أو هو مقدمة طبيعية لتطبيق فتوى شيخ الإسلام، فما دام الوالدان يرفضان مبايعة الخليفة، فحياتهما حياة جاهلية، فلتكن ميتتهما جاهلية تبعاً لذلك.

* باحث وكاتب فلسطيني