من الظواهر الملفتة في الأعوام الماضية الانتشار الكبير لكتابات باحثين غربيين ينتمون الى تيار «ما بعد البنيوية»، وتحديداً مدرسة ما بعد الكولونيالية، بين الشباب الاسلامي في المنطقة العربية. من ميشال فوكو الى تيموثي ميتشل وــــ مؤخراً ــــ جيورجيو أغامبن، يتلقّف القراء الاسلاميون هذه الأعمال ما أن تترجم الى العربية، وغالباً ما تجد رواجاً واهتماماً في صفوفهم.
لا غرابة في أن يتعاطف المفكر الاسلامي مع أدبيات نقد الحداثة والتنوير ــــ وعبد الوهاب المسيري مثال مبكر على هذا الاتجاه ــــ فهي تزوّده بسلاح نقدي يوجّه، في آن، ضد المفاهيم الغربية المركزية عن الحداثة والتقدم (والتي شكلت «ايديولوجيا» التوسع الغربي ونشر هيمنته السياسية والثقافية في العالم) وضد الاتجاهات «الغرباوية» في وسط العالم العربي ومشاريع العلمانيين والحداثيين العرب. هو، اذا، نقدٌ يأتينا من الغرب، وباستعمال المفاهيم والمناهج الغربية، ولكنه موجّه ضد الهيمنة الغربية وأسسها النظرية ــــ أو هكذا يبدو.
قبل ما يقارب العامين، نشر السوسيولوجي الماركسي فيفك تشيبر كتاباً ينتقد فيه مدرسة ما بعد الكولونيالية وتيارات «دراسات التابع» التي ازدهرت في الأكاديميا الغربية والهند خلال العقود الأخيرة. جرى جدالٌ طويل حول الكتاب وحججه، ولكن تشيبر، في مقابلة مع مجلة «جاكوبين» اليسارية، أفرد ملاحظة شديدة الأهمية: ان صعود تيار «ما بعد الكولونيالية» على حساب الماركسية لم يكن بسبب تفوق النظرية أو منافعها المعرفية، بل لأسباب تتعلق بالاقتصاد السياسي للمعرفة في الغرب.
حتى السبعينيات، يقول تشيبر، كانت الماركسية هي المنظومة النقدية الوحيدة التي تنظّر للتغيير التاريخي؛ ولكن، مع اندثار الحركة العمالية والتحدي الشيوعي، لم يعد من المنطقي الكلام عن التحليل الطبقي ونهاية الرأسمالية في زمن الاستقرار الليبرالي. هكذا، يقول تشيبر، صارت هناك حاجة في ردهات الجامعات الغربية الى «نظرية نقدية» جديدة، ولكنها معقّمة من التحليل الطبقي، فصعدت «دراسات التابع» وازدهرت.
بدلاً من التركيز على الطبقات والاستغلال والنظام الاقتصادي، انشغلت «دراسات التابع» بمفهوم «القمع» وعلاقات القوة. هذا المحتوى، تحديداً، قد يكون أكثر ما يشد الاسلاميين، اذ انّه يشرح كيف تنتشر المفاهيم الغربية عبر الامبريالية، وكيف أن المقاييس «الكونية» هي، فعلياً، مفاهيم اوروبية جرى فرضها وعولمتها كانعكاس لميزان القوى.
الا أن التصويب على «القمع»، بهذا الشكل المجرّد، يفتح الباب على استعمالات مختلفة: كما يقمع «الغرب» أهل المنطقة، مثلاً، فانّ العرب «يقمعون» الكرد، وهناك، داخل المجتمع الكردي، علاقات قوة وسلطة لا تقل قمعية. بل أنّ اليمين الاميركي نفسه اكتشف أن باستطاعته توظيف هذا المنظار لصالحه، فيكون احتلال الدول العربية تخليصاً للنساء الذين تقمعهم الثقافة الذكورية، أو الأقليات التي تقمعها الأكثرية الخ…
الاسلاميون لا يمانعون الطابع «الثقافوي» للنظرية النقدية، فهم طالما اعتبروا أن استراتيجيتهم وحربهم تدور، أساساً، في الميدان الثقافي. الا أن «ما بعد الكولونيالية» تتماشى ايضاً مع أكبر قصورٍسياسي لدى الحركات الاسلامية العربية (من الاخوان الى السلفيين)، ممثلاً بتركيزها الحصري على «الحرب الثقافية» وتجاهلها للنظام الاقتصادي والمصالح المجتمعية، بل وتماشيها مع أي نظامٍ موجود والامتناع عن تحديه وطرح بديل تغييري ــــ فتختصر الاسلاموية بتطبيق الشريعة واسلوب الحياة. قد يعتقد الاسلاميون الشباب أنّهم، عبر هذه الاتجاهات الفكرية، يحصّلون فتحاً نقدياً جديداً، ولكن الخشية هي أنّهم يستنسخون، بصورة جديدة، أخطاء آبائهم.